سمير جعجع... والأمل الكبير/ الكولونيل شربل بركات

يسهل الكلام عن سمير جعجع خاصة في هذه الأيام لأنه محط أنظار الأصدقاء كما الأعداء ولكن الرجل، الذي حمل لبنان في قلبه وشهر سيفه مدافعا عنه، كما الكثيرين من أترابه، يوم سقطت الدولة وصار التخريب لغة المخاطبة بين اللبنانيين، بقي محافظا على بعض المبادئ التي ناضل من أجلها منذ أن كان عنصرا في حزب الكتائب ومن ثم مسؤولا في ثكنة القطارة أو قائدا للقوات اللبنانية.

لم يترك سمير جعجع بساطة الحياة التي تربى عليها في بيئته ولا قيم الطبقة الوسطى من المجتمع اللبناني التي انتمى إليها والداه، ولا هو تنكّر لجذوره البشراوية أو خجل من تاريخ أجداده الموارنة أو إيمانهم أو نضالهم في سبيل البقاء، ولا لموقف اتخذه هو خلال مرحلة الحرب التي عاشها لبنان. والأهم من ذلك كله لم يهرب سمير جعجع من معركة فرضت عليه حتى ولو علم أنها خاسرة. لقد التزم الرجل مبادئ الحزب التي تدعو للحفاظ على لبنان ذاك البلد المتميز بتعددية مجتمعه وبنظامه الديمقراطي. ولم ينس تقاليد مجتمعه وروابط عشيرته وإيمان طائفته ونضالها ولو أنه انفتح على كل لبنان. فمع بشير تقبّل سمير بسهولة تعاون الأحزاب في "المناطق المحررة" وكان سبّاقا في الانضمام إلى القوات اللبنانية، وحين التزم العمل في قمتها لم يبقها حكرا على عائلة أو منطقة محددة بل حاول أن يجمع فنجح حينا وفشل آخر ولكنه قبل الانتقاد واعترف بالأخطاء وحاول التصحيح ولو أنه أحيط أحيانا كثيرة، وككل زعيم، بفطريات تشوه الصورة.

خبر سمير جعجع مرارة الانقسامات الدخلية ونتائج الصراع على المناصب فحاول يوم قدر له أن ينظم المجتمع الذي عاش فيه فأطلق ذلك الشعار عن "أمن المجتمع المسيحي" واستطاع تنظيم المليشيات وضبطها يوم كان البلد دويلات متصارعة، حتى أصبحت منطقته الأكثر أمنا واستقرارا باعتراف الكل. ومرة أخرى فرضت عليه حرب كانت الأقسى لأنها قسمت المجتمع الذي عمل على حمايته وحلم بنهوضه ليصبح بنتيجتها تحت الاحتلال. وكان قراره يوم انتهت هذه نهاية مأساوية أن يسهم في قيام الدولة الواحدة فكان أول من سلّم السلاح وحل القوات التي جاهد لتنظيمها وضبطها ليكون مثالا يقتدى. ولكن المحتل وزبانيته أرادوه تابعا وعندما رفض هددوه فلم يهرب فقبضوا عليه وسجنوه ولكنه صمد في زنزانته فذهبوا هم وبقي هو مرفوع الرأس.

لم يفعل السجن وعمليات التعذيب والإهانة وكل أشكال الارهاب التي مورست عليه شخصيا وعلى رفاقه ما كان يرجى منها وظل سمير شامخا كجبل الأرز الذي تربى في ظله وكان الله معه في شقائه وعذابه ليخرج من سجنه مع انطلاق ثورة الأرز التي وحدت أحرار لبنان من كل الطوائف والملل وأسست لفكرة الحرية والانعتاق من أوهام الديكتاتوريات فبدا أوفر حكمة وأكثر ثباتا في المواقف والمبادئ.

اليوم وقد أصبح سمير جعجع رقما صعبا في مواجهة النظام البعثي، الذي فرض على لبنان حربا مدمرة دامت حوالي اربعين سنة وقد استبدل جيشه المنسحب بمجموعة من المسلحين تتبع لحليفه الإيراني وتقبض على أعناق اللبنانيين بدءا بالطائفة الشيعية الكريمة، من الطبيعي أن يخافه هؤلاء سيما وأنه أصبح زعيما وطنيا يوشك أن يلعب دورا اقليميا وأن يفرض نفسه على الساحة العربية.

سمير جعجع لم يتنازل بعد عن مبدأ من أجل منصب أو مكسب وقد قيل الكثير عن وقوفه ضد الجنرال يوم أطلق هذا حرب التحرير ولكن الأيام أظهرت أن التسرع أفقد المسيحيين منطقة حرة كانت أصبحت أمرا واقعا خارج احتلال السوريين بينما مغامرة الجنرال في حربيه لم تؤد إلا إلى الغاء تلك المفاعيل.

سمير جعجع قد لا تحبه ولكنك لا يمكن أن تتجاهله ولا يمكن إلا أن تحترمه لأنه أظهر من خلال المواقف بأنه رجل يحترم نفسه ويلتزم بكلامه. يقول قائل بأن سمير جعجع يفصّل حزبا على قياسه كما كل زعماء لبنان وهذا كلام قد يكون صحيحا ولكن الرجل بقي ملتزما حتى الآن بعض الثوابت التي قد تسير بالبلد نحو مزيد من الاستقرار. فهو لم يتنكر لمسيحيته لارضاء الآخرين ولا يزال يعمل مع الكثيرين لبناء مجتمع منفتح ومتعدد يعترف بالجميع ويسعى لبناء قواسم مشتركة في زمن التصلب والانغلاق. وبالرغم من أنه يؤخذ عليه قبوله تغيير الهوية اللبنانية لهوية عربية يوم انقسم الآخرون بين الولاء للفرس حينا والترك حينا آخر تاركين العروبة حلما من أحلام الماضي إلا أنه قبل، كما يقول، بنتائج العملية الديمقراطية التي فرضت دستورا جديدا حدد تلك الهوية ولو بغياب الرأي المعاكس. ويقول آخرون بأن سمير جعجع في التزامه الطائف حاول محو مواقف القوات اللبنانية من الذاكرة وهي تعاونت مع الجار الجنوبي يوم سدت بوجهها الآفاق، وكأنه يتنكر لمرحلة من التاريخ تجلت فيها المقاومة الحقيقية لمجتمعه، وهذه نقطة ضعف يعرفها أعداؤه ويستعملونها ضده كل مرة يريدون الغمز من قناته. والرد على هذه هو بأن المسيحيين التزموا بالاجماع اللبناني في موضوع إسرائيل وهم لا ينكرون تعاونهم معها يوم خيروا بين الزوال والبقاء ولكنهم لا يعادون رغبة في العداء أو يصادقون لمتعة الصداقة فهم شعب واع لضرورات الحياة وحاجات المجتمعات على الاستمرار ويعرفون تمام المعرفة بأن أعداء اليوم قد يكونون خير أصدقاء غدا كما الأصدقاء ألد الأعداء ولنا من مواقف الشعوب من حولنا في فترة الغليان هذه أكبر دليل. أما أولئك المتاجرون بعداوة إسرائيل فهم الأكثر استفادة من هذا العداء الذي قد يكون مصطنعا فهم كلما خفت شعبيتهم لجأوا إلى نجدة هذا "العدو" لاستعادة الدور والتذكير بالوجود.

أكيد بأن المجتمع المسيحي في لبنان اليوم منقسم بين عدد من التيارات السياسية أو الأحزاب ويحاول البعض تلخيص هذا الانقسام بين الحكيم والجنرال ولكن الحقيقة بأن المجتمع المسيحي الذي عايش ذل الاحتلال وهيمنة المسلحين وفوضى الارهاب من جهة، ولذة الحرية والانفلات من التزمت والانطلاق نحو التعاون المثمر بين أجنحة الوطن المختلفة من جهة أخرى، لا يمكن أن يقاد إلى ما لا نهاية بعقلية المخابرات ونظام التخوين والتخويف من الآخر وعقد الماضي البغيضة المتجسدة بالعداء والحقد وترسباتها ولا بالثنائية المفروضة فرضا، وهو يسعى بكل جرأة وفخر إلى بث هذا التوجه بين كل اللبنانيين، وينتظر بفارغ الصبر انتفاضة المجتمع الشيعي الذي لا يمكن أن تمثله طروحات حزب ولاية الفقيه التي تلزمه بمشروع غريب عنه وتقيده بضريبة دم لا تنتهي. من هنا فإن المستقبل يبشر بانحسار شعبية الجنرال الذي مثل يوم كان في المنفى تطلعات اللبنانيين الحقيقية وساهم في تحول الراي العام في العالم لصالح لبنان ولكنه بعد عودته انقلب على طروحاته ومفاهيمه بينما طور الحكيم مفاهيم كثيرة واعتذر من اللبنانيين على كل خطأ أو خطيئة وظهر كما في آخر خطاب له يحاكي عقول الناس بذكاء ويذكر بالثوابت من دون أن يتحجر في الخطاب بينما يكرر الطرف الآخر لازمة سئمها العقل النيّر.

من هنا كانت الأوامر بتصفية الحكيم جسديا قبل أن يصبح رقما صعبا وقد أطلق القناصة النار على أمل اللبنانيين وهم واثقون من نجاح مهمتهم ولكن مرة أخرى كانت يد الله فوق لبنان فنجا البلد من "قطوع" كبير واستعجلت المهمة الفاشلة ابراز زعامة الحكيم وبعد نظره وحسه المرهف.

نجاة الدكتور جعجع من تلك الرصاصات القاتلة فرحة لكل اللبنانيين بالتأكيد وحتى لمن يعتقد بأنه متضرر من بقائه ولكننا نستسخف هذيان ماكينة البروبغاندا المعادية التي حاولت اظهار محاولة الاغتيال هذه وكأنها إحدى الألاعيب التي اعتادوا هم ولا يزالون على إخراجها فهل من أمل أن تفتح عيون المغرر بهم أم أنهم سينتظرون حتى فوات الأوان؟

مع هذا الطرح الذي لا يشكل دعاية أو استزلام لرجل حمل ولا يزال هم الوطن ودفع في سبيله من دمه ودماء رفاق الدرب إلا أننا نود لفت الحكيم ومستشاريه إلى أن زعامة كهذه لا يجب أن ترجو منصبا ولا تتطلع إلى مركز ولا حتى الرئاسة الأولى فالرئيس هو موظف ولبنان لا يزال بحاجة لزعامة تدعم هذا الموظف الرئيس لاتخاذ القرار المناسب وتنهيه يوم يخطئ فتكون ضمير الشعب وأمله ونحن نفتقدها منذ أن تخلى أصحاب الشأن عن مهمتهم واهتموا بأمور العالم مغلقين آذانهم عن صوت الروح ومنتشين بوهج هذا العالم.

تورونتو – كندا

CONVERSATION

0 comments: