مراجعة نقدية لمعركة العزة وتداعياتها(2) دراسة في السيكوسوسيال/ د. أحمد محمد المزعنن


1430هـ ـ 2009م
كنا نعتقد بعد تدمير وحصار غزة أنه سيأتي اليوم الذي يصبح ما كتبناه من منطلق الموضوعية العلمية والانحياز الكلي إلى قضية الوطن،وتشخيص وتعرية كل الأطراف التي اشتركت في قتل شعبنا،وكانت تتستر في الماضي وراء غلالات لا تخفي عوراتها،نقول كنا ننتظر أن يصبح ما كتبناه من أخبار الماضي في ضوء التسارع الإعلامي الذي لا يترك فرصة للفكر النقدي أو المراجعة الراشدة،وفي ظل انتقال جبهة السيكو بوليتيك المنحازة إلى المشروع الصهيوني اليهودي الخزري المحتل لوطننا،وفي ظل عمليات التعمية تحت سلكان التسلط والبطش والاستبداد،وهي حال عامة في الوطن العربي كافة،تعززها درجات عالية من الانغناس في الحياة المترفة،والاقتصاد الاستهلاكي المفسد للفطرة،وضياع واختلاط للمعايير القيمية التي تنحي القيم الدينية عن العمل،وتحتل مكانها وتأثيرها في وزن الأمور،كل ذلك عمل على خلق حالة من الإستاتيك القيمي والعملي الذي يزداد تجذردًا واحتلالاً لأرض النفس العربية التي تمارس الخنوع والخضوع والاستسلام وقبول النقائض في نفس الوقت.

كان يسعدنا أن نرى الصف الوطني وقد عادت لحمته وسداه،ولقوى الشعب وقياداته الحقيقية الأمينة وقد احتل موقعه في استعادة زمام المبادرة من القوى الاحتيالية المارقة التي زيفت تاريخه،واستبدت بالقرار،واحتلت مؤسساته الشرعية،وصادرت حق تمثيله الشرعي،وساعدتها الأنظمة العربية الرسمية على ذلك في سابقة تاريخية لم تشهد القضية الفلسطينية لها مثيلاً من قبل.

وبدلاً من ذلك وعلى الرغم من الفشل الصريح لمشروع (لعنة أوسلو) وزمرة الاحتياليين المفسدين الإفساديين المنسقين المتطابقين فكرًا وسلوكًا مع العدو اليهودي الصهيوني،فإن الوضع الفلسطيني يزداد سوءًا،والانقسام يزداد عمقًا،والإفساديين يزدادون كثرة واندفاعًا،وغزة تزداد حصارًا ومعاناة،وكل توابع القضية تزداد اغترابًا،وفي المقابل يزداد اليهود المحتلون تجذرًا واندفاعًا في مشروعات الاحتالال،وينتقلون من حال إلى حال من الطغيان والإجرام المؤسسي،ومع إدراكنا بصعوبة وضع حماس في غزة،واضطرارها لمسايرة من يدعون الانتماء للشعب الفلسطيني من حثالات سلطة أوساو اللعينة،وانسياقها تحت ضغوط النظام العربي الرسمي للانخراط في فخ المصيدة المعروفة بورقة المصالحة والمبادرة المصرية التي نعتبرها نوعًا من أنواع الابتلاء الإلهي للمؤمنيين المجاهدين الوطنيين ،إلا أننا نرى أن بعض مواقف حماس قد وفرت لهؤلاء الخونة بيئة احتيالية ساعدتهم على تجاوز الكثير من الإدانة ،وصورت السلطة التي تمثلها وتقوم بها حماس في غزة وكأنها جزء عضوي من سلطة أوسلو التي يجب أن يتجاوزها الشعب عن طريق عقد مؤتمر قوى الشعب العام كبديل لهذا التكوين الذي استطاع الصهاينة أن يوظفوه لصالح مشروعهم التوسعي،فاستقرت حالة الشعب الفلسطيني الراهنة في عملية التآكل الذاتي،ومواقف ردود الفعل،وفي هذا الوضع فإن التشخيص والتحليل العلمي اذي عرضناه في هذه الحلقة من الدراسة لا تزال على وضعها،بل وقد كشفت أحداث العامين السابقين بعد جريمة حصار وتدمير غزة برهنت على صدق دلالة كل ما نشر في هذا الفصل من المراجعة النقدية،والبديل الحقيقي هو إنهاء مسرحية لعبة مبادرة السلام وعملية السلام ومفاوضات السلام مع عدو لا يوجد في قاموس الفكر والسلوك والفعل الصهيوني.



أولاً: مقدمة في الدلالة المعرفية

· في المبحث الأول من هذه الدراسة قمنا بتشخيص المُكَوَّن السلوكي (السيكوبوليتيك Psycho -politic)بأنه هو مجموعة الأفعال الانحرافية الإجرامية التي صدرت عن الكيان الصهيوني وحلفائه الظاهرين (MANEFEST) والمستترين (LATENT) على مسرح قطاع غزة ، وفيما حوله من أقطار الأمة أثناء الحصار، ومنذ بدء العدوان ، وأثناءه ، وما بعده ، وهو أفعال انحرافية إجرامية وردت في سياق تشابكت فيها العوامل النفسية المرضية Psycho Pathology والأفعال الاجتماعية الانحرافية Deviant Social Actions ، وهو مركب سلوكي مؤسسي جمعي تشكل من مكونات سلوكية فردية نوعية متعددة ،وقد ظهر هذا المصطلح الاحتيالي للتعبير عن تلك الأفعال التي توزعت هُويتها الانحرافية بين ما يمكن اعتباره سياسة وتدبير واعٍ ، وبين ما يمكن وصفه بأنه انحراف شعوري أو لاشعوري ويتكون على مستوى التحليل العلمي من طائفة من الأفعال التي تقع في دائرة التفسير الاجتماعي للسلوك الإجرامي .

· وهو مكونٌ مهَدَّ وعاصر معركة العزة ،وحاول هذا المكون أن يفرض خياراته على متغيرات المعركة ، ويقرر النتيجة في ضوء التفوق المادي المطلق تقريبًا، وحاولنا تحديد مصادره ومظاهره وصوره ونتائجه ،ولم نتعرض كثيرًا للمكون الوطني أو القطري الذي واجه مصادر ذلك السيكوبوليتيك الذي جمع الصهاينة ومَن خلفهم من الأوروبيين والأمريكان وعناصر مبادرة السلام العربية في سابقة جديدة في الصراع مع اليهود الغزاة المحتلين لفلسطين بصورة صريحة فاضحة منذ ما يقارب القرن من الزمان ؛ نتيجة لاطمئنان كل الأنظمة الرسمية إلى امتلاك القبضة الحديدية أو المهارة الاحتيالية في وجه قوى الشعوب التي ترفض اليهود الصهاينة ، وتزري بكل من تورط أو يتورط في كل صور عمليات التطبيع المجاني مع هؤلاء الغزاة القتلة،وقد استغل الصهاينة بيئة هذا المكوِّن السيكوبوليتيك ، وما وفرته عمليات التعمية المعرفية والخداع متعدد المصادر والصور لتوجيه ضربة أرادوها قاضية ليس على حركة حماس فقط ، بل على الحركة الوطنية الفلسطينية التي ترفض الاعتراف باليهود الأغراب المحتلين مُلاَّكًا لبلادهم بدعوى السلام الزائفة ، ولم تكن الحرب الشاملة على المدنيين بكل وسائل التقنية ، ودرجة عالية من أدوات التحكم والسيطرة واستخدام أحدث الأسلحة إلا لتحقيق مصفوفة من الأهداف يأتي على رأسها إرباك الجبهة الوطنية الفلسطينية ، وإشغالها بنفسها وبشعبها وبتضميد جراحها ، والانشغال بنتائج عملية التدمير الشامل لكل منجزات كفاح الشعب في الداخل ، وغرس المزيد من الشعور بالإحباط واليأس في جموع النازحين واللاجئين في الخارج ،والتأسيس لثقافة الانهزام والاستسلام ، والترويج لمعتقد معرفي جديد لدى الأجيال الجديدة من الشعب يقوم على عبارة (لا جدوى من مقاومة العدو الصهيوني على الأقل في هذه المرحلة ، وهذا يعني التغاضي عن كل التنازلات المتتالية من فريق أوسلو الذي تحتضنه النظم العربية الرسمية وتُسوقه كواجهة فلسطينية تحت ذريعة شرعية مزعومة زائفة).

· ومن جهة أخرى فإن معركة العزة تكاد تكون هي المعركة الوحيدة التي اشتبكت فيها جبهة محدودة من الشعب الفلسطيني مع العدوعلى أرض الوطن، ولذلك فهي تمثل فرصة حقيقية للبحث الموضوعي لاستنتاج الدروس والعبر ، ولتوظيف منجزاتها الواقعية من منطلق الصدق مع النفس في مراحل الصراع القادمة ، ولاستعراض مواطن الضعف في الأداء النضالي والجماهيري من منطلق الفعل بهدف تجنب النقص ، واستكشاف خيارات ومقترحات بدائل للحركة الوطنية في صراع يبدو أنه سيكون طويلاً في ظل حالة تفلت النظام العربي الرسمي من أي التزام قومي تفرضه عوامل الدين والقومية والجوار والانتماء بعد أن ظهرت الآثار الكارثية لمستحقات الدولة القطرية وتفوقها على كل ضرورات الوجود والبقاء المشترك ، ومع أن القوى الوطنية التي تقابلت مع العدو الصهيوني على أرض قطاع غزة حاربت وقاومت في ظل اختلال ميزان القوى المادي ، إلا أنه في الإمكان التوصل إلى الكثير من الدلالات المعرفية ذات الأهمية في فهم المرحلة الراهنة للاستفادة من ذلك في الإعداد للمراحل القادمة.

· تواجه المراجعة النقدية صعوبة منهجية في أنها بالضرورة تأتي بعد الحدث ، وتتطلب الإلمام بكمية كبيرة من التفاصيل تحول دون بلوغها عمليات التشويش الإعلامي ، وأحيانًا الضرورات الأمنية للأطراف الداخلة في الصراع ، والتضليل المعرفي المتعمد الذي مارسته عدة جهات ، ومحاولة تجنب الخوض في محاكمة الأطراف إلى معيار واحد للسلوك ، فعند مواجهة أي طرف بالأحكام المفسرة للفعل يعتذر بما يفيد نسبية الهدف والوسيلة ، ونسبية مدخلات الفعل ومخرجاته ؛ مما يعيدنا إلى الوراء قرونًا تجعلنا نعيش عصر السوفسطائيين الذي حكموا على الحكيم سقراط بالموت بالتواطؤ اللاأخلاقي الذي جعله يتجرع السم بين مريديه وطلابه احترامًا للقيم والمعايير الأخلاقية الثابتة والدائمة لمجتمع أثينا ، والتي وقف حياته يدعو إلى احترامها .

· السيكوسوسيال Psychosocial:مُكَوَّنٌ انحرافي مجتمعي يتشكل من مجموعة من المتغيرات والصور الانحرافية ذات الطابع الاجتماعي في ضوء ما كان ينبغي أن يكون عليه الفعل الاجتماعي ،ويمثل حالة من الانحطاط القيّمي يتبنى فيها المجتمع بقبول تام ، وممارسة واقعية ما يُعتبر باطلاً في الإجماع الإنساني الذي حددَ معالم الحق والخير .

· إنه ليس اللامعيارية التي شرحها إميل دوركهايم وعلماء اجتماع الأنومي ميرتون وتلاميذه ، ولا الحالة المعرفية الإفسادية عند السوفسطائيين ، ولا التدني الأخلاقي عند المنافقين ، إنه أكبر من ذلك كلِّه ، إنه حالة جسدَّدها المجتمع اليهودي الصهيوني الحالي في فلسطين ، وقد عبرت عنه نتائج الانتخابات الأخيرة في الكيان الصهيوني ، فالتقارب في النتائج ، والمحافظة على جميع مكونات الكيان في واجهة المجتمع الصهيوني أكبر دليلٍ عملي على طبيعة هذا المكون الغريب ، وعلى حقيقة ما ينتظر كل واهم في التوصل إلى سلام معه

· ويُلحق بهذا المُكون كل فلسطيني داخل وخارج الوطن ممن فسدت قيمه قياسًا بما كان عليه المجتمع من الوحدة والتماسك ، وتماهى مع اليهود الصهاينة في الفكر والهدف والفعل والسلوك ، والموقف من المقاومة وفصائلها قبل وأثناء وبعد معركة العزة في غزة ، لأن المُشاهد أن هناك قطاع لا يستهان به من الشعب الفلسطيني يمثل أنموذجًا يتصف بالثبات للشخصية الوطنية المشوهة ، لا تفلح معه أساليب الإقناع ، وجمدت خصائصهم عند البيانات الحزبية القائمة على استهواء الذات ، وافتقار الموضوعية .

ثانيًاً:الأرضية الاجتماعية لمعركة العزة (أنموذج السيكوسوسيال)

في ظروف الهجمة اليهودية الصهيونية الإجرامية على الشعب في قطاع غزة، أمكن رصد هذه الظاهرة المرضية في الغالبية العظمى من مكونات المجتمع اليهودي الصهيوني ، وفي قسم من مكونات المجتمع الفلسطيني ، ونلقي الضوء على هذا المكون بغية رصده حليل مكوناته ومتغيراته.

من أهم ملامح الواقع الاجتماعي التي ساعدت وحرضت على الغزو الصهيوني،ووفرت له المبررات القوية للفعل الإجرامي بطريقة جمعية ، وشكلت الجانب الفلسطيني من السيكوسوسيال ما يأتي :

1. الانقسام والتشتت الجمعي :شكلت حالة الانقسام والعداء الظاهر والمبطن بين أكبر مكونات المجتمع الفلسطيني (حزب فتح وحزب حماس وبعض الفصائل ذات الأيديولوجيات الخاصة ) العامل الرئيس الذي شجَّع اليهود الصهاينة للهجوم على المقاومة في غزة ، ثم الانفراد بمكونات المجتمع الأهلي يحطمونها الواحدة بعد الأخرى في وتيرة أشبه بلعبة تسلية منها إلى حرب كمبيوتيرية تلفزيونية تدميرية ، وغني عن البيان حالة الاستقطاب الشديد التي ربطت وقائع الحياة اليومية لسكان الضفة وغزة بخيار(مع أو ضد).

2. الولاء للراتب والانتماء للحزب : وبمعنى آخر تشوه وانخفاض مستوى الانتماء الوطنى ، وأحيانًا تلاشي هذا الولاء ، وهي حالة كان من الصعب على الفرد العادي اتخاذ قرار موضوعي فيها من منطلق وطني أو قيّمي ؛ وما ذلك إلا لأن القرار في هذه الحالة يتعلق ليس فقط باعتبارات المكانة الفردية أو الاجتماعية أو العقدية أو الحزبية أو التراتبية الاجتماعية أو اعتبارات السياسة ، أو التزامات المنصب ، بل هو لصيق بما يعتبره قسم من أفراد الشعب العاديين تحت ظل الحصار متعلقًا بالمحافظة على الحياة المعتمدة على الدخل أو الراتب الشهري لتأمين متطلبات المعيشة للأسرة ، ولا يجب أن نقلل من إغراءات المناصب وامتيازات الوظائف النوعية ، وزاد من تأثير هذه الحالة استهداف اليهود الصهاينة شبه اليومي لقسم من الشعب دون آخر ، ومن شأن ذلك أن يزيد من حدة الانقسام ، وتنامي الشعور بالعداء ، وانتقاله من موضوعه الأصلي الطبيعي وهم المحتلون، إلى من يعتبرهم الشعور أو اللاشعور من حلفاء هذا العدو، ومن آثار هذا الموقف النفسي إذا وُجد أن يبدد الطاقة النفسية الفردية والجمعية ، ويضعف الروح المعنوية بمقياس اقتصادي ، حيث يشعر البعض أنهم يقومون بأعباء النضال ،ويدفعون الثمن دماءً وأشلاءَ ، بينما يقبض الآخرون الثمن ، او على القلا يتجنبون الأذى من خلال الموقف السلبي .

3. تفريد اليهود الصهاينة لمن يعتبرونه عدوًا : من القواعد الأساسية في أي عملية صراع تفرض المواجهة العقلانية للعدو عملية (تفريد العدو) ، بمعنى ألا يواجه الداخل في الصراع أكثر من عدوٍ في وقت واحد عند تعدد مصادر العداء ، وقد أمكن استخدام هذا القانون نتيجة لتحييد الضفة أو الإقليم الشمالي الشرقي من (دولة محمود عباس وفريق أوسلو)، ووقف هؤلاء واصطفت معهم جميع الرموز المتسترة وراء التشدق بالأقوال (والحكمة المشوهة) التي تقدم صورة للجبن والخور بادعاء السلامة ، ولم تكتفِ سلطة أوسلو بذلك بل مارست كل أشكال البطش والقمع في وجه محاولات شعب الضفة لحصر العدو في جبهتين بهدف التخفيف من ضغوطه على إخوتهم في قطاع غزة ،وامتد لسان من تفعيل هذا القانون إلى قطاع غزة ، فاصطف مع العدو كل من يحمل شعورًا بضغينة أو كراهية أو تصفية حساب ،أو أخذ بالثأر ... إلخ مصفوفة الدوافع المَرضية التي تصيب أي حركة نضالية لم تبلغ أهدافها ،أو بعض هذه الأهداف ، وكرَّستها سلطة أوسلو في وتيرة دائمة من المواقف ، ووقفت الفصائل المجاهدة تترصد للعدو من أمامها ، وتتلقى الضربات من فوقها ، وعينها على من يُفترض أن يكون عضدًا وسندًا لها ،ولا ندرى مدى إدراك المجاهدين لحجم الأخطار المتوقعة من الطابور الخامس من الجواسيس ، فلم تكن المعركة بهذه الصفة وطنية خالصة ، وإنما حالة من الدفاع عن النفس الفردي والجمعي المحدود .

4. المؤشرات على منطق مَرضيٍّ داعمٍ ومُعزِزٍ للفعل الإجرامي اليهودي : في إطار المكون السيكوبوليتيك (الوهن والضعف والتحلل السياسي) تطور منطق جمعي موازٍ ، منطق ساديّ النزعة نما من خلال انحراف الصراع عن مجراه الطبيعي في مراحل سابقة سادت فيها أجواء معاهدات السلام مع المحيط ، وتم اختراق الكثير من الخطوط الحمراء إلى ماراء البيئة الطبيعية للصراع القدري ، وتهاوت قلاع وحصون الممانعة ، واقترب الأمر من تجريم المقاومة الجسدية أو مجرد التفكير فيها ، هذا بالطبع لدى الغالبية التي قبلت الإدانة الذاتية من حلفاء الكيان الصهيوني خلال حملة الحرب على الإرهاب في عهد كلينتون وبوش ، وأخذت مؤشرات بوصلة الصراع تتقلب وتتحول إلى ميادين مصطنعة بديلة ، حتى رست على شاطىء غزة بعد فوز حماس التاريخي ممثلة للنموذج الفلسطيني الوطني لحركة الإخوان المسلمين في انتخابات يناير 2006 م ، وشمل معها الجماعات التي تتبنى المنهج الإسلامي الجهادي خاصة كمنظمة حماس والجهاد في قطاع غزة والضفة وكل من يؤمن بحتمية مقاومة اليهود الغزاة .

يقول هذا المنطق : " إنه ما دام الهدف الأيديولوجي النهائي المعلن لهذه الجماعات المقاومة هو الفوز بإحدى الحسنيين :النصر أو الشهادة ،وما دام النصر مستحيلاً في هذه المرحلة من الصراع انسجامًا مع مقولات واستحقاقات وفرضيات مبادرة السلام العربية الضمنية والمعلنة،فلم يبقَ أمام هذه الحركات أو الجماعات إلا خيار الشهادة ، ولا يهم مَنْ يقوم بذبح هؤلاء ويجعل منهم شهداء أو حتى ضحايا،فالأمر حينئذ لا يمثل فارقًا ما دامت النتيجة واحدة،وتنسجم مع المطلب الإيديولوجي الذي يختصر المسافة إلى الجنة أو إلى الهدف المعروف لدى كل جماعة تؤمن بالمقاومة كل حسب النهاية المنطقية للجهاد الجسدي أو الروحي،سواء أكان الاستشهاد بيد الصهاينة أم بفضل معلومة قدمها جاسوس،أم بمعلومات منظمة جاهزة من أجهزة سلطة أوسلو المشؤومة، أو على يد زبانية أمن عباس في أقبية التعذيب،أو عن طريق سكوت عربي،أو بمؤامرة أمريكية أو غير ذلك من الجهات الداخلة في صناعة الفعل أو الموجهة للسلوك الأمني بمفهومه النسبي أو المضاد للفعل الجهادي،المهم أن كل هذه الأطراف قد تخلصت من حماس ومجموعات المقاومة المحاصرة" .

5 . والصهاينة اليهود يعلمون ذلك تمام العلم ، وهم على دراية تامة بما توسوس به نفوس كل من التزم بظاهرة السيكوبوليتيك طوال أيام حرق الأهل في غزة ، ولا يزالون يحاصرونهم ،وانفراد (أبو الغيط وغير) من رموز ذلك المكون الانحرافي المتواطىء مع الصهاينة بهم . وقد وجهت هذه الحالة النموذجية الفعل اليهودي الصهيوني مباشرة إلى احتضان الفريق الذي يعتبرونه (عدوًا جديرًا بالتأجيل المؤقت) كما أوحت به سنوات من المفاوضات العبثية ، وليس حلفاء كما يحاول هذا الفريق تصوير أنفسهم ؛ بزعم أنهم حسموا خيارهم وهو ما يسمونه الالتزام بعملية السلام ، ولم يقتصر السلوك الصهيوني العدواني على ذلك بل أمعن في الفعل ورد الفعل وفي تضخيم أفعال من اعتبرهم أمام الرأي العام الصهيوني أعداء يجب التعامل معهم بقوة ، والتخلص منهم بنفس مستويات العنف المضخم دعائيًا ، وهم فصائل المقاومة وكل (من / أو ما) يمتُّ لهم بصلة ،حتى وصل التدمير إلى المؤسسات العامة والمساجد والمدارس والبيوت الآهلة بالسكان والمستشفيات ، ومؤسسات وكالة غوث وتشغيل اللاجئين (الأنروا)التي يفترض أن تحظى برعاية دولية.

5. الفرز النوعي لمكونات المجتمع في غزة:ومن الملامح الاجتماعية لميادين المواجهة كان الفرز النوعي للتدمير الشامل واضحًا من استهداف كل ما له علاقة بحماس والجهاد الإسلامي وغيرهما من الفصائل الجهادية ، وربما تصاعدت أهداف العدو الصهيوني كما ظهرت من آثار التدمير لتشمل اجتثاث عوامل البقاء لقطاعات معينة من الشعب الفلسطيني ومنع النمو الطبيعي للأسر الممتدة امتدادًا تراكميًا من النواحي الإثنية والثقافية،والاستئصال الجسدي الجماعي المتعدد المباشر للأسر الملتزمة دينيًا وجهاديًا كان هدفه منع الامتداد والنمو الطبيعييْن لهذه الأسر ، وإعادة ترتيب الخيارات الاجتماعية عن طريق عقد مقارنات بين (مَنْ هو مع ، ومَنْ هو ضد ) السلطة وحليفها الصهيوني ومتبنيها المكون العربي الجديد.

ثالثًا :المرجعية الثقافية

من الآن فصاعدًا لا توجد حجة مقبولة لمن يحاول أن يتجنب التفسير الديني للصراع مع اليهود الصهاينة الغزاة ،ذلك التفسير الذي سيطر في مراحل سابقة من تاريخ الصراع ، ثم استُبعِد لتحل محله مدارس أثبتت التجارب قصورها وعجزها، وإذا كان من فضلٍ لهؤلاء الصهاينة الذين غزوا غزة في معركة العزة فهو إثبات الكفاءة المطلقة للدين كمحرك للجماهير ، وأن المدرسة الدينية هي الأقدر على شرح الصراع مع اليهود ، وما ذلك إلا لأن هؤلاء المجرمين أكدوا خصائصهم الإجرامية التي ألبسوها ثوب الأعمال الحربية منطلقين من منطلقات دينية توراتية مزيفة ،ولكنها على أي حال كانت تمتلك القدرة على تحريك الفعل اليومي للشخصية الإجرامية اليهودية ، ولا مبرر لتبني مقولات العقلانية المزعومة والفرص المتكافئة في التعبير ، والحرية في الرأي ليقدم لأجيال الأمة النخب الإجرامية اليهودية بحجة معرفة ما لديهم ، وليس لديهم إلا الفكر الديني المحرف المحبذ للإجرام ، ومن هنا وجب أن تغير وسائل الإعلام الكود الدلالي للصراع ، فتعيد مصطلح عدو عند ذكر هذا الكيان الغريب .

إن من تابع أفعال (هؤلاء المجرمين الرسميين) طوال الحصار قبل ظهيرة السبت الدامي 27ديسمبر 2008 م وحتى نهاية الأعمال الحربية من جانب واحد لا يبقى لديه أدنى شك في المنطلقات الدينية لهذا الغزو الهمجي ، لقد كان الجندي اليهودي الصهيوني يتلو ما يعتبره (كتابه المقدس) في ظل الدبابات ، ويسطر عبارات الحقد التي تفرضها عليه هذه الكتب على جدران البيوت المهدمة ، وقد أوردت مصادر الأخبار قول (الحاخام اليهودي ) الذي أوصى الجنود الصهاينة بالإفراط في القتل والتدمير، وقد عززت هذا الفهم للسلوك الإجرامي اليهودي نتائج انتخابات هذا الكيان التي أظهرت تقدم المرشحين المتطرفين الصرحاء الخلص،ودفعت بهم إلى المقدمة والواجهة الاجتماعية ، مع العلم أنه لا فرق بين صهيوني وآخر ، فالكل يقع تحت تأثير مناهج الفكر الديني العنصري لافتقار هؤلاء اليهود إلى الوحدة العنصرية الإثنية السلالية ، لأنهم جاءوا من كل بقاع الأرض ومن مختلف الأجناس .

وفي المقابل فإن حماس وفصائل المقاومة الأخرى توزعت مناهج الفعل لديهم وتنوعت تنوعًا كبيرًا ، ولكنهم تجمعوا تحت تأثير عاملين أساسيين وهما : الأول الشعور العالي بالخطر الذي يهدد الحياة في ظل اختلال شديد في ميزان القوة ،والآخر الوحدة الوطنية التي ارتفعت بها الفصائل عن البرامج الذاتية أو الارتباطات الخارجية ، وبهذه المناسبة يصبح لزامًا على جميع القوى الوطنية الفلسطينية منذ اليوم توحيد المنطلقات الأيديولوجية ، والارتفاع فوق الجراح لاعتماد إستراتيجية وطنية تتبنى منطلقات أيديولوجية شعبية تزيد من ربط الداخل بالخارج ربطًا رسميًا وليس شكليًا أو عاطفيًا.

لا بديل بعد اليوم للشعب الفلسطيني من التوجه الديني الإسلامي مهما رافق ذلك من الصعوبات ، فبأي حق يُسمح لليهود الصهاينة الغزاة بالانطلاق من الكتب المزيفة ، ويحجر على مقاومة الشعب الفلسطيني استثمار عمقه وتراثه الديني الحق؟ ومحضنه ودرعه الطبيعي العروبي ؟

رابعًا :المرجعية الإثنية( ظاهرة مجتمع الجريمة الشاملة)

أظهرت الأفعال اليهودية الصهيونية في المؤسسة العسكرية وفي كل مستويات الفعل الرسمي والشعبي أدلة قولية وفعلية قوية على ما يمكن التعبير عنه بمجتمع الجريمة الشاملة ، وليس ذلك تعبيرًا عن واقع المجتمع المدني اليهودي في فلسطين ، بل هو خاصية مجتمعية عامة يمثل ظاهرة إنسانية فريدة منذ نشأة هذا الكيان وخلال مراحل تكونه ، ولا نقول تطوره لأن التطور يحمل ضمنًا بعض صفات تمايز وتفاضل اللاحق على السابق ، فأصول هذا المُكَوِّن الاجتماعي قامت على أركان جريمة يطلق عليها في علوم الجريمة (بالجريمة الكاملة)وحيث تتوفر ثلاثة أركان للسلوك والفعل الإجرامي :المجرم والضحية والغرض أو الهدف أو الفرصة ، وظل نموذج هذه الجريمة بشروطها الكلاسيكية يتكرر مع كل فعل مجتمعي .

إن أخطر ما يمثله الوضع الراهن للظاهرة المجتمعية اليهودية الشاملة أنها تأكدت وتمأسست في المؤسسات التشريعية العليا ، وظهرت باوضح صورة في الانتخابات الأخيرة حيث تلاشت الفوارق بين قيادات السلطة التشريعية ، وتقاربت نتائج الانتخابات وتقاسمتها الأحزاب نتيجة لتبني مكونات السلوك الإجرامي الذي مارسته قيادات المجتمع في الماضي ، وقررت المبالغة في ممارسته ، ومن المعروف أنه لا يوجد مدنيون بالمعنى القانوني أو الإنساني العام في الكيان الصهيوني ، فجميع الناشئنة يتم تشكيل سلوكهم تشكيلاً إجراميًا كلاسيكيًا بغرس التعاليم الدينية والمدنية التي تدعو إلى استئصال الأعداء الأغيار وكل ما يمتُّ لهم بصلة ،وفي الماضي كان الباحث في تكوين المجتمع اليهودي في فلسطين يجد بعض الجهات والقطاعات التي تمارس السلوك المدني الذي جاءت به معها من أوطانها التي هجِّرت منها ، ولكن أجيالهم الذين يخضعون للفكر الصهيوني لا تلبث أن يتم صبهم في القوالب الإجرامية الشاملة القائمة على العنف والعنف الاستئصالي فقط ، وهذا ما تمثله نماذج الفعل الصهيوني اليومي في قطاع غزة والضفة.

ونتيجة لكون هذا المجتمع جاء من أصول وأعراق شديدة التنوع ، بحيث يستحيل القول بالوحدة الإثنية فقد قام المتنفذون التشريعيون والتنفيذيون ومصممو البرامج الثقافية بدمج مصطنع بين الأصل الإثني العرقي والانتماء الديني ، ولا يفلت من هذا الطوق التنميطي عميق الأثر أكثر الأفراد ادعاءً للفلسفة اللبرالية أو العلمانية التي يمثلونها لاستمالة فريق أوسلو المخدوعين .

إن حقيقة الافتقار إلى الأساس الوطني لبناء أيديولوجيا تعمق الانتماء والولاء للوطن كنتيجة للعيش قرونًا طويلة ،والارتباط الثقافي الطبيعي التراكمي لأجيال الشعب مع الأرض والماء والهواء والكائنات الأخرى التي تتقاسم عناصر البيئة باسلوب المشاركة والتساند البيولوجي ، والتآلف النفسي ، الافتقار إلى هذا الأساس الفطري لدى الكائن البشري يجعله على استعداد ليفك ارتباطه مع المحيط الطبيعي والبيولوجي تحت الشعور بأي تهديد حقيقي أو مُتَخيل كما هو الحال مع الأغراب اليهود الصهاينة المتواجدين حاليًا في فلسطين المحتلة ، وهذا من شأنه أن يؤسس للسيكوسوسيال الجمعي الانحرافي ، ويصبغ السلوك العادي بصبغة الإجرام كما تعرفه المراجع العلمية والنظريات التي تدرس الجريمة ، ولا ينفع من التقليل من آثارها التدميرية الآنية والمستقبلة كل عمليات العلاقات العامة وصناعة الأنصار بدافع الأيديولوجيا الكاذبة كما يحدث حاليًا في العالم الغربي الذي يتبنى الكيان الصهيوني ، ويؤيد جرائمه ويعتبرها دفاعًا عن النفس .

خامسًا : رمزية القوة

كانت الحرب في قطاع غزة تبدو في جانبٍ منها وكأنها حرب بين مستويين من مستويات المعرفة تفصل بينهما مسافات واسعة في النوع والكم :قوة لها خصائص تقنية عالية ومتقدمة ،وظفت فيها منجزات معقدة من منجزات التقدم العلمي التجريبي التي أقامت لها الحركة الصهيونية مؤسسات متضافرة متكاملة تبنت العلم التجريبي منذ بداية تأسيس الكيان الصهيوني ، وقد أثمرت شبكة واسعة من المؤسسات الصناعية المتقدمة والمتخصصة ،وكلها تخدم المؤسسة العسكرية بهدف خلق قوة فعل قادر على التعامل مع الأزمات والاستجابة لمتطلبات الأمن بالشروط والمواصفات التي تحددها الإدارات العليات عبر مؤسسات اتخاذ القرار، وكانت مظاهر ذلك واضحة في الطائرات الحديثة المعدلة من طراز F16،وطائرات الأباتشي صائدة المدرعات، وهي طائرات مخصصة أصلاً للحروب التي تنشب بين الجيوش التقليدية حيث تتقابل تلك الطائرات مع طائرات في نفس مستوى كفاءتها التقنية، ولم تُصنع لتستخدم في تدمير البيوت والمؤسسات المدنية وقتل الأطفال والنساء وكبار السن وملاحقة ركاب السيارات والدراجات إلا على يد الصهاينة وحلفائهم الأمريكان،لأن قتل الإنسان لا يحتاج إلى هذا المستوى العالي من التقنية ، إلى جانب أنواع من الدبابات وحاملات الجنود والجرافات وكاسحات الألغام وطائرات بدون طيار ، وأنواع من القنابل والمقذوفات المحرمة دوليًا،ومن البدهي تصور أن خلف هذه الأنواع من الأسلحة تقف أجهزة عالية التخصص والاحتراف الفني والتقني في مجال الإدارة والسيطرة والتحكم والتوجيه،واستخدام آخر ما توصلت إليه الصناعات الحربية في الكيان الصهيوني وفي الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا وغيرها من المناطق المفتوحة أمام العدو في شتى بقاع العالم استثمارًا لقوة المال ، واستفادة مما تتيحه العولمة المعلوماتية من المجهولية انسيابية الحركة ، والقدرة على التستر والتخفي والتمويه والتحرك بحرية تامة على مساحة واسعة من الأرض والسيطرة على الأجواء ، وعلى مستوى التنفيذ الإجرائي فلم يكن من السهل أمام الصهاينة أن يمارسوا جرائمهم دون الاستفادة من كم هائل من المعلومات المنظمة التي ساعدتهم على رسم خريطة واضحة لساحة حركتهم في قطاع غزة أشبه بمخططات المنشآت الهندسية ، فليس الصهاينة جنسًا فائق الخصائص الإنسانية حتى تتوفر لهم هذه التسهيلات ، ولكنهم يعرفون كل زاوية شارع في قطاع غزة ، وكل حفرة في طريق ، وكل عمود في جسر ، وكانت الخبرات والمعارف التراكمية بكل مستوياتها عاملاً فاصلاً جعل الصهاينة يتجولون بدباباتهم وطائراتهم بكل يسر وسهولة .

1 وفي المقابل كانت حماس وبقية الفصائل الفلسطينية في جبهة تتسلح بثمرات من المعارف الذاتية (البدائية) إذا قيست بما استخدمه العدو من الأسلحة التي لا تقاس تقنيتها أمام ما هو متوفر لدى عدوها الذي انفردت به ، فالبنادق الرشاشة وبعض المدافع المضادة للطائرات لا تساوي شيئًا في ميزان الحروب بالقياس إلى ما استخدمه العدو في حربه التقنية العالية على غزة .إن الذي كان يقف في وجه اليهود الغزاة في هجمتهم على قطاع غزة يمثل مُخْرَجات أنموذجٍ لمجموعة متقدمة الخصائص الإثنية والثقافية والنفسية من أمة قررت التضحية بهم بتأثير عوامل متنافرة متناقضة ، ولكنها تلتقي كلها وتنسجم في الهدف النهائي للحرب المعلنة منذ حصار الأبطال في غزة بعد أن اطمأنت أنظمة السيكوبوليتيك إلى شق الصف الوطني ، واحتضنوا أصفياءهم من فريق أوسلو المشؤومة أملاً في سلام مستحيل .

2 عندما نصف بأسلوب تقريري موضوعي أسلحة المقاومة بأنها (بدائية)قياسًا إلى ما توفر للعدو اليهودي الصهيوني؛ فإننا لا نقصد الحط من قيمتها أو التقليل من أثرها ، فالوسائل الدفاعية أو الهجومية للنيل من العدو لا ينبغي أن تقتصر على أدوات القتال التقليدية كالمدافع والبنادق والمتفجرات وغيرها ،وأحيانًا تكون بعض الوسائل الفطرية المكتسبة من الخبرات اليومية أكثر فعالية من أفتك الأسلحة ، وهذا ما اتبعته حماس والفصائل المجاهدة .

3 وكان هذا الفارق في السلاح برهانًا على أن الحرب في حقيقتها كانت بين نوعين أو مستويين من المعارف أو الثقافات ، أو بين مُخرجات تلك المعارف والثقافات: مستوى المعرفة التجريبية العالية التي تتسلح بها جماعات امتلأت شهوة في القتل والانتقام ،ومستوى المهارات الفردية المحاصرة ، والثقافة الدينية البطولية التي تتسلح بقوة النص الإلهي ، وحب الوطن ،واليأس مما عند البشر ،والأمل فيما عند خالق البشر ،ووعود السماء. قدمت حماس في أحد برامج فضائية الأقصى معلومات عن مناعة جدار الممانعة الدينية (الجهاد من منطلق ديني) وورد ذلك على لسان اثنين من قياديها البارزين اللذين يتمتعان بمصداقية ،وهما الدكتور الداعية حسام الزرد والدكتور عبد الرحمن الجمل،حيث ذكرا أمثلة على معجزات حقيقية وعلامات واقعية صادقة عن نجدة الله للمجاهدين وحمايته لهم وقت الشدة ، ومنها النعاس والنوم ، والسحاب ، وإنطفاء نار عظيمة في منطقة المغراقة جنوب مدينة غزة بعد ثلاث دقائق من انتهاء دعاء المقاتلين وضراعتهم وتذللهم أمام الله ، وورد أحد هذه الأمثلة على لسان الدكتور محمد سعيد القحطاني ـ وهو عالم سعودي ثقة ـ أمام مؤتمر الحملة العالمية لمقاومة العدوان على الشعب الفلسطيني المنعقدة في استانبول بتركيا ، حيث قال : إن أحد المختصين أخبره أنه قرأ في إحدى صحف العدو الصهيوني أن جنديًا صهيونيًا ممن اشترك في الحرب على غزة أقسم أمام جنرال يهودي صهيوني بأنه رأى رجالاً بملابس بيضاء وبسلاح أبيض كانت تلاحقهم وتقاتلهم أثناء العدوان الصهيوني الإجرامي على غزة.

وأسوق ذلك للتأكيد على قوة النص الديني في تحقيق النصر ، وأن أسباب النصر ليست بالضرورة مادية ، لكن ذلك لا يقلل من ضرورة الأخذ بالأسباب، والاستعداد بكل أسباب القوة من كل نوع ،ومن أي جهة كانت .

1. الهجمة الصهيونية اليهودية على قطاع غزة مُخرجات نظام تربوي شوفوني تزييفي مصطنع يشعر بخواء المحتوى الثقافي ، وينكشف يومًا بعد يوم أمام النقيض التاريخي العقدي الوجودي الحق المدافع عن ثوابت الحق التي لا تقبل المساومة ، ولا تقبل القسمة إلا على الواحد الصحيح ، ولن يطول الزمن حتى تقف الأمة على خط التماس مع نقيضها الوجودي ، فالحقيقة الثابتة تؤكد أن شعوب الأمة العربية ترفضه ، وتقاوم كل دعوة للتطبيع معه ، وأن من بين أسباب قوة هذا الكيان أنه يبني قوته على ضعف مَن يفترض فيهم أنهم أعداءه ، هو يصر على العداء وهم يصرون على السلم ، وهو سباق غريب لم يشهد التاريخ له مثيلاً.



خامسًا :السيطرة والتحكم

1 على الرغم من تدمير العدو الصهيوني لمؤسسات العمل الرسمي الحكومي في القطاع ، وللمساجد التي تشكل الرابط الحقيقي للضبط الاجتماعي والفردي لدى الغالبية العظمى لأفراد الشعب الفلسطيني ، وبالرغم من امتداد يد الإجرام إلى تدمير المنازل التي هي الوحدات الطبيعية للسكن وللشعور بالأمن الفردي والاجتماعي بهدف خلق حالة من التشرد البيولوجي والاجتماعي والنفسي تنعكس على هيئة عدم انضباط سلوكي عام ، ولأن معظم مؤسسات حركة حماس والفصائل كانت تقريبًا غائبة غيابًا مظهريًا حيث تترصدهم الطائرات وجماعات الجواسيس والطابور الخامس ، على الرغم من كل ذلك فقد تجلت حقيقة حركة حماس ليست كحزب سياسي أو منظمة قتالية ، أو مجرد هيئة توزع الصدقات ، بل كسلطة مسؤولة كفؤة أثبتت بالممارسة العملية وبدرجة عالية جدوى العمل التربوي والدعوي والتنظيمي والإعداد الدفاعي والقتالي المناسب للظرف ، والمهارة في استخدام مقومات القوة المتوفرة بطريقة اقتصادية،واستثمرت أفضل خصائص شعبها ، وتمكنت تحت الحصار والقصف المتواصل من أن تثبت للعالم قدرة مثالية من الصبر والثبات ، والانسجام التام بين العقيدة والسلوك ، وبينما كان من شأن مناظر الدماء والأشلاء والدمار أن تهز أركان أقوى الأنظمة ، وتسقط أصلب الحكومات ، فإنها على العكس من ذلك كله، فقد تسامت طبقات الشعب الفلسطيني فوق الجراح على مستوى جميع فئات العمر وتحت أقسى الظروف ، وقدمت صورة مشرفة للترابط والتكافل الاجتماعي الراقي الذي ستر الكثير من جوانب السيكوسوسيال لدى الطرف المعادي المنحاز إلى العدو الذي شكلَّه المنافقون والمنحازون انحيازًا أوليًّا ممن يدَّعون الانتماء إلى حزب فتح .

2 الكيان الصهيوني كيان عسكري مسيَّس منذ البداية ،ويقوم بتجربة هذه الخاصية كلما استجد على مستوى النظر والتطبيق آخر ما توصلت إليه العقول الإنسانية ، ومن البدهيات في فهم القدرة على التحكم والسيطرة لدى هذا الكيان أن نضع في الحسبان استثمار موقع فلسطين ،وخصائص البيئة والتربة وقرب مناطق التجمعات البشرية ومؤسسات الإنتاج من ساحل بحري طويل على البحر البيض المتوسط ، فالمواقع العسكرية تتمتع برديف إسنادي إستراتيجي مثالي ،



سادسًا : بعض الدروس المستفادة:

1 انقشعت غمامة الخداع ، وأبصر كل ذي فكر وعقل، وصحت الضمائر التي أفسدتها الصهيونية عقودًا ، ولبَّست عليها حقيقة الباطل وألبسته ثوب الحق ، واستفاقت الفِطر السوية ، وتنبه الغافلون ، وافتضح أمر الصهاينة المجرمين الذين أقاموا كيانًا على الباطل.

2 من الآن فصاعدًا سوف نستخدم مسميات( يهود ، ويهودي وصهيوني ،وعدو ... إلخ ) عندما نناقش أي قضية متعلقة بالمجرمين اليهود الصهاينة المحتلين لفلسطين تحديدًا، وبشكل صريح وبلا حرج من أي نوع ، ليس من منطلق عنصري ، بل تعبيرًا عن أمر واقعي ووجودي فرض نفسه قبيل وأثناء وبعد معركة العزة ، فجماهير المجتمع اليهودي الصهاينة المحتلة لفلسطين ـ وليس فقط من يُوصف بالتطرف من بعض زعمائهم كما كان الأمر في الماضي ـ يعلنون بكل صراحة ـ ومنذ تَمكنهم من جماعة أوسلو التي سايرتهم في جرائمهم المعرفية والدلالية والواقعية ـ أن لهم هدفًا واحدًا هو يهودية الدولة ، وقد عبروا عن حقيقة هذا الاسم الذي يشكل مكونًا ثقافيًا ذا خصائص موضوعية منفرة في الثقافة الإنسانية تناولتها الكتب الموجودة بين يدي اليهود والنصارى ،وعرضتها في مواضع كثيرة ، وهي متأصلة في الميثولوجيا والعقائد الدينية لديهم .

3 جاء القرآن الكريم مصدقًِّا ومؤكِدًا للصواب من هذه الخصائص ، ومصححًا للفاسد منها ، فما رصده القرآن الكريم وقررته وصدقته وقائع السيرة النبوية ـ وهما أصدق وأوثق مرجعٍ علمي ومعرفي إنساني ـ يشكل منهجًا ثابتًا ، ومن هنا كان لزامًا العودة إلى (الكود الدلالي القرأني الحق فيما يتعلق بهؤلاء المجرمين ، إذ هم يعلنون عمليًا ، ويلتزمون بكل خصائص الفعل الإجرامي المعادي لكل ما تواطأت عليه العقول السوية من قواعد الحق والخير والجمال ، مع الاعتراف بأن من هؤلاء البشر بعض مَنْ يقف عند الحق ، ويلتزم به ، وقد شاهدنا بعض الأدلة الواقعية على ذلك في الهبة الجماهيرية العالمية احتجاجًا على ممارسات الصهاينة الإجرامية في غزة ، ولكنها لا تقاس بما تمثله الغالبية العظمي من هؤلاء اليهود المحتلين لفلسطين .

4 ليعلم أهلنا في غزة ،والمسؤولون عن المجتمع منهم ،وأهل الحل والعقد ،وأصحاب الرأي ، وقادة الفكر ، والمقربون من أصحاب القرار ليعلموا جميعًا :أنهم الآن يتحملون المسؤولية التاريخية في تقرير مصير واقع ومستقبل شعبهم كله ،وأن القضية في طريقها إلى التصفية بالأسلوب الذي رسمته سلطة أوسلو ومبادرة السلام العربية ، فعليهم ألا ينساقوا خلف الدعوات الخادعة للسلام الزائف ، وأن ينبذوا من بينهم الفاسدين من مؤيدي جماعة أوسلو ، وأدعو العقلاء من حزب فتح خاصة بأن يثوبوا إلى رشدهم ، وأن يعودوا إلى الصف الوطني الذي عملوا على شقه وتكريس انقسامه جريًّا وراء سراب خادع بدعوى السلام المستحيل مع المجرمين القتلة طوال عقدين ، وساعدوا عن وعي أو غير وعي على تكريس ثقافة الانقسام والخلاف ، وليعلموا أنهم مسؤولون أمام الله أولاً ، وسوف يسألون عن كل قطرة دم سالت بسبب المواقف التي تتابعت منذ قيادتهم للشعب في مشروع السلام الضبابي ، وبالتفريط الذي كرسوه سياسة خفية ومعلنة ، وليتبرأوا من محمود عباس وفريقه ، ويضعوا أيديهم في يد إخوتهم في حماس وبقية الفصائل ، ويسيروا مع كتائب شهداء الأقصى الأبطال الذين تبرأوا من تجار القضية ، وخاضوا معركة العزة والشرف والكرامة في خندق واحد مع إخوانهم المجاهدين في غزة.

5 ولتعلم حماس التي تنوء بأعباء ما بعد الجرائم الصهيونية أن الأيام القادمة ستكون فاصلة،فإما أن يُكتب اسمها في سجل الخالدين بحروف من نور،أو يُفرض عليها أن تنزوي في زوايا التاريخ كحركة قادت الشعب في آخر فصول التسوية،وعلى الأخوة من قيادات حماس في الداخل ألا يسمحوا للقيادات الخارجية بامضي بعيدًا في المصالحة مع تجار أوسلو الذين يتسترون حاليًا وراء بعض الأسماء ، ويقدمون التنازلات الظاهرية ليعودوا إلى الصورة في إطار صفقة ترتبها مصر، وسوف ترون أنكم ستندمون حين لا ينفع الندم بعد أن تكونوا فرطتم في قضية شعبكم ، وحشرتكم جماعة أوسلو المدعومة بجبهة ما يسمى بالاعتدال العربي والرباعية الدولية في قطار التسوية ، إن المؤمن كيِّسٌ فَطِن،وأنتم أهل لكل جليل من الأعمال ، وما النصر إلا من عند الله.

6 لتعلموا أيها الوطنيون الأبطال في غزة والضفة أن مشروع أوسلو المشؤومة ماضٍ قطاره، وما معركة غزة إلا محطة ليندفع من جديد ، فلا تكن دماؤنا وقود قطار الخزي والعار بصحبة الجواسيس الذين قاتلوكم في صفوف الأعداء،وأثخنوا جراحكم مع اليهود القتلة المجرمين، ولا تعطوا الدنية في دينكم وأعراضكم وأوطانكم،وقد صمدتم في معركة العزة،ولا ينبغي التفريط في ذرة تراب من الوطن،وإلا لكان الخير هو في الذهاب مع محمود عباس من البداية بلا تضحيات،وليفعل حينها الله ما يشاء ، أما وقد فرضت عليكم الحرب والقتال ،ومنَّ الله عليكم بالنصر فلا يجوز بيع الوطن في حال النصر والصمود .

7 إن عودة محمود عباس ستكون الهزيمة الحقيقية لكم،ولن يرحمكم أحد إذا فرطتم تحت أي شعار في ثوابت شعبكم ، وماذا تكونون قد فعلتم إذا كان محمود عباس وفريق أوسلو سيعودون بعد كل هذا العناء والتضحيات؟فكان من الأفضل لكم ولشعبكم أن تنساقوا معه دون خسائر ؟

ولعمري لو كان الشيخ أحمد ياسين والرنتيسي وأبو شنب والمقادمة والجمالان والأسود المعتقلون في سجون اليهود المجرمين وأمثالهم من الرجال القادة الرواد أحياء وأحرارًا على مسرح الفعل الوطني بالداخل، لكان الموقف مختلفًا جدًا ، وليس ذلك حطًا من أقدار أبطال حماس وجنود القسام ، وشجعان الفصائل والسرايا ، والتنظيمات الشجاعة في غزة والضفة ،ولا إنكارًا لحجم التضحيات ، ولكن الخطب جلل ، والمصيبة لا تزال قائمة جاثمة ، ونذر الشر لا ينكرها ذو حصافة وصاحب عقل ، وما نقوله لكم مصدره نبع الحب لكم جميعًا وهو تذكير وتحذير ودعاء لكم بالثبات والنصر المؤزر .

الخلاصة:

تقتضي الأمانة والصدق مع الله ورسوله ودينه ومع النفس والاهل والوطن أن يتنصل الشعب الفلسطيني في الضفة والقطاع من تبعات أوسلو،وأن يتوقفوا عن التحرك في حدود ما فرضته من التزامات،وأن ينزعوا من رقابهم كل أي التزام من أي نوع،وأن يكفوا عن لعبة الاستفادة من هذه التجربة اللعينة،ويؤسسوا لمؤسسات تتجاوز هذه السلطة العميلة التي تقوم بدور وظيفي لخدمة أهداف الاحتيال الصهيوني،إنهم بشكل أو بآخر وبكل ما يمثلونه شركاء فيما وصلت إليه تجربة أوسلو اللعينة من نتائج كارثية ،وعليهم أن يتحملوا نتائج النقد الذاتي لك ما أسهوما في صناعته من تلك النتائج التي تراكمت،وليخرجوا عن عملية استهواء الذات واحتكار الحقيقة الوطنية،واختزلت الوطن إلى مستويات متدنية تأنف منها العجماوات التي تفدي أوطانها بحياتها.

{إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَذِكْرَىٰ لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ .(ق 37}

(... والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون .)(يوسف 21)

دكتور أحمد محمد المزعنن mr_ahmed48@hotmail.com

CONVERSATION

0 comments: