المثقف والانتقائية والاستبيان/ صالح الطائي

تكاد الانتقائية أن تكون أهم أسباب اختلاف وجهات النظر الفقهية عند علماء الدين للمذهب الواحد أو بينهم وبين علماء المذاهب الأخرى، طبعا هي ليست السبب الأوحد وإنما جزءً مهما في منظومة القرار الفقهي المستنبط من النص المقدس (قرآني / حديثي) والظاهر أن العلماء الانتقائيين أورثوا المثقفين والتابعين والمؤيدين آداب هذه السياسة الانتقائية التي أصبحت الميزان المعياري الذي تقاس به الأعمال، كل الأعمال، وفق منهج انتقائي أكثر منه عقلي. بل هو بعيد عن العقل.
وأنا أتصفح وثائق "ويكيلكس" وجدت المنهج الانتقائي العربي الإسلامي للرد على ما فيها من الفضائح ظاهرا وبشكل كبير، ثم رأيت المنهج نفسه ظاهرا على أشده فيما يخص موضوعين مهمين أوردتهما الأخبار ، دلالة على أن الانتقائية الموروثة باتت من أسس حياتنا العربية المعاصرة، وفاعلة أكثر مما كانت عليه من قبل.
يتحدث الموضوع الإخباري الأول عن فتوى أصدرها "الشيخ علي جمعة" مفتي الديار المصرية حول الشك بصحة طلاق المصريين لزوجاتهم، لأنهم ينطقون القاف همزة فتتحول كلمة (أنت طالق) إلى (أنت طاليء) وبذا يخرج النص عن صيغته الشرعية، مما يعني برأي الشيخ بطلان كل طلاق تم سابقا أو يتم مستقبلا بهذه الصيغة!
ويتحدث الموضوع الثاني عن القائمة التي أعلنتها مجلة "أرابيان بيزنس" لأغنى 50 رجل أعمال عربي لعام 2010، والذين قدرت ثرواتهم الإجمالية لعام 2010 بنحو 245.4 مليار دولار، وهي القائمة التي سيطر عليها نحو 29 شخصية وعائلة سعودية من أصل الخمسين اسما موضع البحث.
الموضوعان قوبلا بتعليقات كثيرة بعضها مؤيد والآخر معارض والثالث معلل، وأن هنا لست بصدد الحديث عن آراء التأييد والمعارضة، مع أنها دلت على سذاجة فاشية سببها فراغ فكري كبير في مجتمعنا، وإنما ابغي الحديث عن القسم الثالث تحديدا أي (الرأي التعليلي) لعلاقته بآراء بعض المسلمين بالفتاوى والتعليمات التي يصدرها العلماء الشيعة،وعلاقته كذلك بالمبالغ التي صرفها ملايين الشيعة، نعم ملايين، لإحياء ذكرى الثورة الحسينية في عاشوراء وهو الرقم البسيط الذي استفز بعض المثقفين ودفعهم للطعن بالتشيع ورجاله، حيث أنهم بدأ من طالب الابتدائية، وصولا إلى الأستاذ الجامعي، انبروا للرد على هذه الفتاوى والتعليمات والشعائر مهما كان نوعها وتخصصها وغايتها وهدفها دونما تحرج، وفي ردودهم تجد الاستهزاء، والتطاول الوقح، والعيب، والانتقاص، وأمور كثيرة أخرى بعضها لا يصح صدوره عن إنسان سوي يحترم أخيه الإنسان الآخر، بله الإنسان المسلم العالم بشؤون الدين والملم بقضايا مذهبه!
وتأكيدا على ما سبق نجد في حديث المعللين عن غرابة فتوى مفتي الديار المصرية أنهم يوجبون على من ينبري للرد على فتوى العالم أن يكون عالما بمستواه، ولا يجوز للآخرين من غير ذوي الاختصاص التدخل في هذا الأمر مطلقا باعتبار أنهم استخدموا مسميات مثل (ولا مجال / ولا يجوز/ ولا يصح) أو كما في قول المتداخل "إيهاب": (علم المفتي ودرجته الدينية تجيز له الفتوى، والرد عليه يكون لمن على نفس القدر من العلم، ولا مجال هنا للرأي)
وقول المتداخل إبراهيم الأنسي": (لا يجوز أن يرد العالم إلا من هو أعلم منه، وللخلاف آداب ولحم العلماء مر، ولا يصح التسرع منا في الحكم على علمائنا)
وهناك من تحدث بعمومية "حسن النوايا" كما في قول المتداخل "ميكرو" : (والله إنما الأعمال بالنيات ولكل امرئ ما نوى، وفعلا يجب أن يكون مخارج الألفاظ صحيحة فليس نقول مثلا علي سورة الطلاق إنها صورة الطلاء أو سورة الطارق علي إنها سورة الطارء وهكذا)
طيب إذا ما كانت هذه الأقوال مستندة إلى قاعدة فقهية، أو أخلاقية، أو تربوية، فلماذا يستخدمونها بانتقائية طائفية فيطبقونها على علمائهم حتى لو كانت فتاواهم غريبة، وبعيدة كل البعد عما يقبله العقل السوي، في الأقل تحت بند (إنما الأعمال بالنيات) ولا يطبقونها على باقي علماء المسلمين، ولاسيما علماء الشيعة، وعلى خلاف ذلك يعتبرون (جاهلهم ومتعلمهم) كل ما يصدر عن العالم الشيعي مخالفا للشريعة التي كيفوها على مقاساتهم دون أدنى مجال لحسن النوايا؟
أما في انتقائية ردودهم على الغنى الفاحش الذي ترفل بعزه مجموعة من العوائل والأشخاص في دول الخليج والسعودية والكويت من الذين تبلغ الأرباح السنوية لبعضهم أكثر من ملياري دولار كما في حالة أمير القنوات الغنائية الإباحية السعودي الوليد بن طلال الذي قالت الدراسة عنه: (وتصدر الأمير الوليد بن طلال القائمة للسنة السابعة على التوالي، حيث زادت ثروته خلال الأشهر الـ12 الماضية بأكثر من 2 مليار دولار، لتبلغ 20.4 مليار دولار مقابل 18 مليار دولار في العام الماضي.) في هذه لانتقائية الأمر لا يختلف كثيرا عن موضوع الفتوى، نعم اختلفت الآراء أيضا، ولكن الغالب منها كان يؤيد حلية وشرعية وسلامة ووجوب امتلاك الأمير لهذه المليارات، وتحقيقه لهذا الربح السنوي الفاحش ويدعو له بالزيادة والبركة وطول العمر لكي يتمتع بأمواله الطائلة حتى ولو كان المتحدث حافيا جائعا عريانا وساكنا في العراء!
وتجدهم بين مشرعن لهذا الثراء الفاحش كما في قول "منتصر" (ويرزقكم م حيث لا تعلمون اللهم بارك لهم في مالهم وزدهم من خزائنك المموره مهي الحياه كده واحد معاه واحد مش لائي يا كل) وقول "خديجة" (الله لا يظلم أحد ويرزق من يشاء بغير حساب، ليش يا جماعة حاسدين وكأنكم تحاسبوا الله على إرادته، استغفر الله) وقول "قاسم" (ذلك فضل الله يأتيه من يشاء)
وبين داع بالخير والزيادة لأصحاب مليارات السحت الحرام كما في أقوالهم التي نقلتها دون تصحيح ومنها أقول: "سعاد" (بارك الله فى مالكم) و "طارق نظمي الكفري" (بارك الله لهم في مالهم واهلهم جميعا) و "محمد ضمور" (الله يزيد ويبارك ويرزقنا اجمعين) و "مريم" (الله يبارك لهم في رزقهم ويصرفنها في الحلال) و "نور وندي" (الله يبارك فى مالنا و ماله وكل أموال المسلمين ويرزقنا ويرزقه اكثر واكثر) و"عمر الزعبي" (اللهم بارك في اموال المسلمين وسخرها في خدمة نصرة الاسلام واهدي امة المسلمين) و"محمد شمس" (اللهم زد في ثروت الوليد وبارك له فيها بما يصنع من خير واحسان وذد من اثرياء المسلمين) و"افين" (اللهم بارك في ثروته واطال الله عمره)
طيب بعيدا عن البحث في شرعية مصادر هذه الأموال ووجوه كسبها وصرفها، وبعيدا عن جيوش الجياع في بلدان الأثرياء العرب، والجوع في غزة والعراق وأفغانستان والصومال وكثير من الدول العربية والإسلامية التي تعيش غالبية جماهيرها تحت مستوى خط الفقر، ونقص المدارس والمستشفيات، والبطالة المتفشية بين الشباب، والتخلف الحضاري الذي ترفل الشعوب العربية في أفيائه، لماذا تدعون لهم بزيادة الخير خيرين والربح ضعفين وهم الذين احتكروا مليارات الدولارات، وتعترضون على مسلم عراقي بسيط يرى في صرف مبلغ زهيد من قوت عائلته ومن ماله العراقي الحلال المزكى الذي كسبه بالشرف وعرق الجبين، والذي تعادل كل 1280 وحدة منه وحدة واحدة من الدولار الأمريكي، لأنه صرفه لوجه الله، إحياءً لشعيرة دينية تخلد ذكرى أشرف ثورة في تاريخ البشرية، قام بها ونهض بأعبائها الحسين وباقي أبناء وأحفاد رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم؟
فهل بعد هذا نحتاج إلى الاستبيانات والنقاشات والاتهامات لنعرف حقيقة واقعنا، ونسلط ألأضواء على مآسينا، أم أن ذلك يكفي ويزيد؟

CONVERSATION

0 comments: