في ذكرى جبهة الحكيم والشهيد والأسير/ عطا مناع

لن يبقي في الوادي إلا حجارته الكبيرة، كلمات قالها الكاتب الجزائري الطاهر وطار في مرحلة حرجة عاشها الشعب الجزائري خلال معركته التحررية من الاستعمار الفرنسي، وإذا اعتبرنا أن الشعوب الطامحة للحرية تتقاطع في أهدافها ومراحل النكوص والتراجع التي تعيشها فإننا كشعب فلسطيني نعيش الحقبة الاسوء في نضالنا التحرري من اجل الدولة وتقرير المصير.

لكل شعب رجالة الذين حفروا عميقا في ذاكرته، هي الحجارة الكبيرة التي لا يمكن تجاوزها حتى في أحلك الظروف الوطنية، فهم من لعبوا دورا في صنع تاريخه ونذروا أنفسهم من اجل الأهداف الجليلة رغم شدة العاصفة، وهذا ينطبق على شعبنا الفلسطيني الذي وضعوه في مرحلة الكوما كمحاولة لشطب الذاكرة وإسقاط الثقافة الاستهلاكية التي سرعان ما تتبخر لعدم توافقها مع واقع وتطلعات وثقافة شعبنا الذي قدم مئات الآلاف من الشهداء والأسرى والجرحى على طريق الحرية والاستقلال من الاحتلال الإسرائيلي.


هي الذكرى الثالثة والأربعين لانطلاقة الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، التي تأتي في ظروف تعتبر الاسوء في تاريخ نضالنا التحرري من الاحتلال بهدف الوصول لتحقيق المصير وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وثوابت الشعب، والثوابت هدف ورجال، رجال منهم البسطاء ومنهم القادة البسطاء الذين اختلطوا بالأرض وتوحدوا بها وقالوا كلمتهم متحدين المستحيل وعلى رأسهم الحكيم الذي آمن بما اعتقده البعض مستحيلا، ومن الصعب على رفاقه وأنصاره أحياء الذكرى بدونه، فالحكيم بمثابة البوصلة فكراً وممارسة، فالحكيم جورج حبش من الحجارة الفلسطينية الكبيرة الذي يطل علينا بملامحه وتفاصيله وقراءته الدقيقة للحاضر والمستقبل الفلسطيني، فهو الذي حذر القيادة الفلسطينية من التبعات الخطيرة لاتفاق وأسلو، وهو الذي امن أن بالعبد القومي للقضية الفلسطينية، هذا البعد الذي يحافظ على ديمومتها وحضورها في أوساط الجماهير العربية.

في ذكرى انطلاقة جبهة الحكيم وأبو علي مصطفي واحمد سعدات وآلاف من الشهداء والأسرى، تستحضر الجبهة الشعبية حكيمها وشهيدها وأسيرها وكأنها تستعين بهم على رداءة المرحلة وعقم الأداء السياسي والفكري المسيطر على الساحة الفلسطينية، أبو على الذي أكد في أكثر من مناسبة بعد دخوله ارض الوطن على الوحدة الوطنية قولا وممارسة لتأتي عملية اغتياله من طائرة أباتشي احتلالية إلا تأكيد على عقم المنهج التسووي الذي ينظر لعملية أوسلو التي كانت فخاً لمنظمة التحرير الفلسطينية، اتفاقية أغرقت الشعب الفلسطيني في بحر من دماء الضحايا وجلبت له الدمار دون وقفة تقيميه لأداء منظمة التحرير التي ارتضت لنفسها السير بالاتجاه الواحد؟

ولا يمكن الاحتفال بذكرى الجبهة بدون الأمين العام الأسير القابع في زنازين العزل، فاحمد سعدات الذي عرف الاحتلال وأدرك أن اليمين الإسرائيلي عازم على تصفية القضية الفلسطينية شعباً وقيادة وأرضا، ويتجلى ذلك بالإجراءات الإسرائيلية الغير مسبوقة المتمثلة بمسابقة الزمن في البناء الاستيطاني لإحداث تغير على الأرض، وإدارة الظهر لمن وقعوا معهم اتفاقية أوسلو، وتميزت رؤية سعدات الثاقبة بأنها جمعت بين النظرية والممارسة التي كانت امتداداً للفهم العميق والواضح لمؤسس الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين الدكتور جورج حبش؟

لا زال القائد المؤسس حاضراً في العقول، رغم حالة التردي العام التي تعصف بثقافتنا الوطنية، وحضور الحكيم يؤكد أن فعل القادة الحقيقيين لا ينتهي بموتهم، فهم يعيشون ابد الدهر لأنهم استطاعوا ببساطتهم الوطنية التسلل إلى عقول وقلوب الطامحين للحرية والانعتاق من الاحتلال رغم اعتقاد الكثيرين بانعدام الأمل جراء حالة التيئيس التي تطحن الشعب الفلسطيني جراء الفوضوية التي تعصف بالمشهد الفلسطيني، فوضوية عكست نفسها قهراً وتفريطا على شعبنا الذي يفتقر للقائد الحكيم القادر على قراءة الواقع وتغييره بمعزل عن ردود الفعل السياسية والميدانية التي تفتقر لمراكمة الانجازات واعتماد السياسات الغير تقليدية في الدفاع عن شعبنا الذي يتعرض لأبشع هجمة في تاريخه.

في الذكرى يعود السؤال المركزي الذي تطرحه الحركة الوطنية الفلسطينية بكل توجهاتها ، السؤال الذي يقلق مضاجعنا ويحول حياتنا إلى كابوس، إلى أين نحن ذاهبون؟؟؟؟؟ وهل قضيتنا الوطنية فقدت أسباب وجودها؟؟؟ وما العمل مع الأداء العقيم الذي فكك واقعنا الوطني وحولنا لمجرد قطعان تسير على غير هدى؟؟؟ أداء فرغ المقاومة من مضمونها والسياج الذي يحتضنها جراء الممارسات اليومية للمنتفعين والوطنجين الذين غلبوا الخاص على العام وأصبحوا عبئا على الشعب باسم القانون والمقاومة، هذا الوضع زاد من التشظي الداخلي وجسد حالة العجز والدوران في الحلقة المفرغة، لدرجة أن حال المقاومة كم يطلق الرصاصة على قدمه بسبب افتقاره للبعد الشعبي والشعار الواقعي الذي يفعل فعلة في أوساط الشعب.

وبما أن الخيط الفاصل بين المقاومة والنهج التسووي رفيع جداً لان الأمور تقاس بالنتائج، والنتائج تحكي نفسها بنفسها داخلياً ووطنياً، ولا أميل للانجرار وراء الشعارات التضليلية لأصحاب الانقسام، تلك الشعارات التي تخدر الشعب باقتراب التوافق والمصالحة وكأن أمورهم بأيديهم، والحقيقة أن كافة ممارسات القمع والاعتقال السياسي وتكميم الأفواه والسطو على حرية الرأي هي المشهد الأكثر وضوحاً للحالة الداخلية التي وصلت إلى العظم.

لا نحتاج إلى ذكاء للإجابة على السؤال المقلق الذي يطحن ساحتنا الداخلية، وخاصة في ظل الإدراك الأكيد أن المصالحة بعيد المنال، وأننا لا نستطيع العودة بعجلة الزمن إلى الوراء، وهذا يتطلب من شعبنا وقواه الوطنية الاعتراف بالواقع الحقيقة، واقع اللامقاومه وعدمية المنهج التفاوضي مما يفتح المجال للبحث عن العلاج الذي لن يكون سهلا، وقد يكمن العلاف برفض واقعنا المرير كمقدمة إلى تغييره، والأكيد أن التغيير لن يكون نخبوياً، فالتغيير يأتي من شرائح الشعب التي باتت بأمس الحاجة للخروج من ورطتها وتحملها للنتائج الخطيرة للأداء السياسي الفاشل لقادتها.

في الذكرى الثالثة والأربعين لانطلاقة الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين نستذكر موقف الدكتور جورج حبش من اتفاقيات أوسلو وعملية التسوية"طفل الأنابيب" الذي ولد ميتا، جورج حبش الذي وصف بأنة من ألد أعداء أوسلو، ونستذكر الشهيد أبو عالي مصطفى الذي قالها واضحة أننا عدنا لنقاوم لا لنساوم، ولن تكون الذكرى مكتملة والأمين العام قابع في زنازين العزل، والذي يدعوا للتوقف والأمل بالمستقبل أن شعبنا الفلسطيني قادر على النهوض من كبوته وان السنوات التي يعتقد البعض أنها سمان سرعان ما تذهب، ولكن بعد أن نكون قد دفعنا الثمن مضاعفاً.

CONVERSATION

0 comments: