هل يظل مصير القدس مجهولا؟/ حسن العاصي

تتصاعد خلال هذه الفترة وتائر المواجهات ، بين أبناء شعبنا الفلسطيني الأعزل في الأراضي المحتلة ، وبين حكٌام إسرائيل ، في وقت تزداد فيه محاولات السلطات الصهيونية الإستباقية لفرض واقع جديد قائم في مدينة القدس المحتلة ، باعتبارها عاصمة موحدة أبدية لإسرائيل كما يزعمون ، يترافق ذلك مع حملة منظمة تتزايد فيها مصادرة الأراضي الفلسطينية في الضفة الغربية ومحيط مدينة القدس الشريف .

وبتداخل الحسابات السياسية الداخلية بالحسابات الخارجية في إسرائيل ، ثمة حقيقة واحدة تفرض نفسها على الفلسطينيين والعرب ، الذين مازالوا يراهنون على إختلاف الأداء السياسي بين الأحزاب الإسرائيلية ، ويدفعون ثمن تنافس هذه الأحزاب ، التي تتسابق لتأكيد تفوقها في مصادرة المزيد من الأراضي الفلسطينية ، والتشدد في عملية السلام ، لإظهار ولائها للدولة العتيدة .

ومن أهم المفارقات البغيضة أن مقياس شعبية وجماهيرية اي زعيم صهيوني داخل إسرائيل ترتبط مباشرة بموقفه من الإستيطان ، وقدرته على المناورة في وجه الممانعة الدولية لاستمرار بناء المستوطنات .

ومن الحقائق الساطعة ، أن بناء المستوطنات الصهيونية فوق الأراضي الفلسطينية المصادرة ، لاتفرضه الحاجة السكانية بقدر مايستهدف تهويد الأرض ، ذلك أن نهج الإستيطان وثوابته واحدة ، وأن لاشيء يتبدل أو يتغير في الفكر والتخطيط ، سواء أكانت الحكومة يمينية أم يسارية ، حكومة حرب أم حكومة سلام ، لأن وجود إسرائيل وإستمراريتها يرتبطان بقدرة هذا الكيان الغاصب على فرض الأمر الواقع ، وهذا ماعبر عنه الكاتب الإسرائيلي "ميرون بنفنستي" بقوله : أن تاريخ المشروع الصهيوني هو سلسلة من الوقائع المفروضة من خلال مجموعة من المحاولات المخططة والهادفة إلى خلق واقع استيطاني في فلسطين .

وقد نجحت الصهيونية عبر رسائل عديدة وبأساليب مختلفة ، أن تجعل الكثير من اليهود عبر العالم مشروع مهاجر وبالتالي مستوطن ، لذا لم تتوقف عمليات القضم الإسرائيلي المنظم للأراضي الفلسطينية طوال أكثر من ستين عاما، والنتيجة أن الفلسطينيين الذين باتوا يشكلون حوالي "18" في المائة من سكان الأراضي العربية المحتلة عام "1948" لايملكون سوى"4" في المائة من مساحة الأرض ، كما أن المناطق الفلسطينية الأخرى التي يشكل سكانها أغلبية ساحفة ، لايملكون فيها سوى "38" في المائة ، وهي باتت محور نشاط إستيطاني واسع هي الأخرى .

إن تطور النهج السياسي لدى حكام إسرائيل وتأثيراته على حقائق الواقع السياسي والإقتصادي والديمغرافي في الضفة والقدس ، يسمح لنا أن نرى الإحتلال الإسرائيلي في سيرورة تكوينه وتطوره كتاريخ قائم ، مرتبط بتناسق كامل مع الماضي الإستعماري الصهيوني في فلسطين ، وتذكرون كلام "يغال آلون" رئيس أركان الجيش الإسرائيلي السابق الذي قال : أن حدود الدولة التي لم يستوطن اليهود على إمتدادها ليست حدود آمنة .

من هنا يمكن فهم الربط الدائم لدى حكومات إسرائيل المتعاقبة بين الأمن والإستيطان في الفكر والممارسة ، فإقامة المستوطنات كانت تشكل دوما الأساس الوطيد للنهج السياسي المبهم لحكام إسرائيل ، والتي ينظر إليها كحدود جديدة لإسرائيل ، هذه الديماغوجية عبرت عنها "غولدا مائير" إذ قالت : أن حدود إسرائيل ، هي حيث يقيم اليهود ، لا حيث يوجد خط على الخريطة ، ولهذا فإن سياسة خلق الوقائع الجديدة وبناء المزيد من المستوطنات لابديل عنها ، ليس فقط كأداة لإستكمال فكرة إقامة إسرائيل الكبرى وحسب ، بل وكما للمستوطنات أهمية كذلك في تمزيق أواصر الإتصال الجغرافي للتجمعات الفلسطينية .

أما مدينة القدس والتي كانت الهدف الصهيوني الأبرز في المشروع الإستطياني ، فقد تعرضت مقدساتها لأبشع الجرائم بدءا من حرق المسجد الأقصى ، مرورا بإجراء الحفريات حول وأسفل الحرم الشريف ، وليس إنتهاءا بهدم البيوت العربية ، ومصادرة الأراضي الفلسطينية وطرد السكان وتوسيع الإستيطان ، وليس أدل على نوايا إسرائيل تجاه القدس من قول "بن جوريون" الذي قال : لامعنى لإسرائيل بدون القدس ، ولامعنى للقدس بدون الهيكل .

ومن هذا المنظار يرى حكام إسرائيل القدس من حيث أنها إلهام ديتي قديم وسياسي راهن ، لأنها من أهم الغنائم التي حصلت عليها إسرائيل في حرب العام 1967 .

لقد قامت إسرائيل عبر حكوماتها المتعاقبة بتضييق الخناق على سكان القدس الشرقية ، من خلال إهمال الخدمات المقدمة لهم ، ف 9 في المائة فقط من موازنة القدس الموحدة تخصص لإحتياجات العرب الذين يبلغون 30 في المائة من سكان المدينة .

وفي الواقع فإن الخدمات العامة في الشطر العربي في حالة يرثى لها ، فلاتوجد مراكز تجارية ولا طرق جديدة ، وتفرض إسرائيل على العرب ضرائب مرتفعة ، وليس هناك مساكن جديدة ، ويمنع على السكان ترميم منازلهم ، ومن يخرج من القدس يخسر هويته التي تسمح له الإقامة في المدينة الشريفة ، وبالتالي يصبح مواطنا غير مقدسي ، وتمارس إسرائيل ضد السكان العرب تفرقة وتمييز عنصري واضحين ، لإجبارهم على مغادرة المدينة ، وفي الوقت الذي تشجع فيه إسرائيل الجماعات اليهودية المتطرفة على المكوث والإقامة في قلب الأحياء العربية وهم يحملون الأسلحة ، فإنها تمنع المواطنين العرب من الإقامة في القسم الغربي من المدينة ، ولا حتى في الحي اليهودي الموجود في القدس الشرقية ، وتقوم إسرائيل بإنتزاع حق المواطنة للآلاف من ابناء القدس تحت ذرائع شتى ، حيث ألغت وزارة الداخلية الإسرائيلية إقامة أكثر من 3000 مواطن فلسطيني خلال الثلاث سنوات الأخيرة فقط .

لقد بات واضحا ماتخطط له وتستهدفه إسرائيل من تهويد للمدينة المقدسة ، الأمر الذي يتطلب عودة القضية الفلسطينية إلى الأمم المتحدة وقرارات الشرعية الدولية ، التي أدانت ضم إسرائيل للقدس ولم تعترف بالتغيرات الديمغرافية والجغرافية التي أجرتها إسرائيل على معالم المدينة طيلة سنوات إحتلالها ، على الرغم من الأصوات التي تنادي بعدم جدوى اللجوء إلى الهيئات الدولية ، خاصة بعد أن إستخدمت الولايات المتحدة الأمريكية حق النقض في مواجهة إصدار قرار يدين الإستيطان ، وعلى دول الإتحاد الأوروبي أيضا مسؤولية أخلاقية تجاه هذا الملف الساخن ، وعليهم عدم التوقف عند حدود بيان برلين عام 1999 إثر انتهاء القمة الأوروبية التي أكدت على أهمية تدخل المجتمع الدولي في قضية القدس ، إذ أعاد الإتحاد الأوروبي للمرة الأولى منذ عقود مصطلح "كيان خاص" الذي إستخدمته الأمم المتحدة في قرار التقسيم رقم 181 الصادر في العام 1947 والذي وضع مدينة القدس بشقيها الشرقي والغربي في إطار خاص تشرف عليه الأمم المتحدة .

وفي هذا السياق نجد من الأهمية بمكان الإشارة إلى موقف إسرائيل من قرار التقسيم ، فقد درجت إسرائيل على التأكيد أن مرجعية مدريد تقوم على أساس قرار التقسيم الذي تعتبره إسرائيل قد إنقضى ولايجوز للعرب إثارته من جديد ، وأنهم رفضوه في العام 1947 ، ولن يبعث فيه الروح فبولهم به بعد ذلك .

والحقيقة أن هذا الموقف يقوم على مغالطة قانونية خطيرة ، ذلك أن قرار التقسيم بالذات الذي إستند إلى إرادة المجتمع الدولي حينذاك ، وسواء أكان قرارا ظالما أم عادلا ، فإنه أنشأ وضعا إقليميا ولدت بموجبه دولة إسرائيل ذاتها ، ومادام القرار صادرا عن المنظمة الدولية فإن قبول العرب به أو رفضهم لايؤثر على القرار ، والدليل أن رفض العرب لم يحل دون زرع إسرائيل بالقوة بموجب القرار نفسه ، وبالتالي يتعين على إسرائيل إما أن تقبل القرار كله ، فتسمح بإنشاء دولة عربية فلسطينية ، أو ترفضه كله فتعلن إنتهاء وجودها وتعود الأرض كلها إلى لحظة ماقبل القرار ، ذلك أن رفض ليبيا والسودان والعراق وإيران مثلا لقرارات مجلس الأمن الذي فرض عليها عقوبات دولية ، لم يلغ هذه القرارات رغم مافيها من عور قانوني يجعلها عرضة للإبطال ، وبناء عليه فإن قرار التقسيم لايسقط بمضي المدة ولابرفض أحد الأطراف ، ويظل وضع القدس الخاص فيه قائما قانونيا .

من جانب آخر ، إن العلاقة مابين قرار التقسيم وقرار مجلس الأمن رقم 242 الذي يعالج آثار حرب 1967 ويؤكد على عدم جواز الإستيلاء على الأرض بالقوة ، ويطالب إسرائيل بالإنسحاب من الأراضي التي إحتلتها يوم 5 حزيران عام 1967 ، وهذا الإشارة لاتعني مطلقا أن قرار مجلس الأمن أقر توسعات إسرائيل خلال الفترة مابين 1947 لغاية يوم 4 حزيران عام 1967 ، بما في ذلك إحتلالها للقدس الغربية ، وليست الإشارة الواردة في قرارات مجلس الأمن اللاحقة ، أن القدس الشرقية أراضي محتلة ، سوى تأكيد على معالجة القرار لآثار عدوان 1967 ، ولايعني البتة الإقتصار على المطالبة بإنسحاب إسرائيل من القدس الشرقية دون الغربية ، وهو شرح يتبناه الإتحاد الأوروبي الذي يرى أن قرار مجلس الأمن رقم 478 لعام 1980 رفض الإعتراف بضم إسرائيل للقدس كلها ، ورأى أن ضم القدس باطل وعار من كل أثر قانوني .

فالثابت أن قرارات مجلس الأمن بعد عدوان 1967 بشأن القدس تهدف إلى إعتبار إحتلال إسرائيل لهذه الأراضي كأن لم يكن بما في ذلك الضفة الغربية وقطاع غزة ، أي أن القرارات تتضمن الإعتراف بإسرائيل داخل حدودها ورفض تجاوزاتها ، والهدف من تطبيق هذه القرارات هو إزاحة عقبات تنفيذ قرار التقسيم لأن إحتلال إسرائيل لهذه المناطق يجعل تنفيذ القرار مستحيلا .

خلاصة الحديث أن أحد أبعاد اللوحة السياسية في المشهد الفلسطيني الإسرائيلي تبدو كالتالي :

لقد إرتفع عدد المستوطنون في الضفة الغربية وقطاع غزة الى اكثر من ربع مليون مستوطن مقابل حوالي 90 ألف مستوطن قبل مباشرة عملية السلام في مدريد العام 1991 .

بعد توقبع إتفاقية أوسلو البغيضة ، صادرت إسرائيل 600 ألف دونم من الأراضي الفلسطينية ، وبعد توقيع غتفاقية واي ريفر ، اقامت إسرائيل أكثر من 30 نقطة إستيطانية إضافة إلى 20 قيد البحث الآن .

يوجد الآن 250 مستوطنة تنتشر في الضفة الغربية وقطاع غزة ، فضلا عن 200 مستوطنة داخل وعلى حدود مدينة القدس الشريف ، تضم هذه المستوطنات حوالي 250 ألف مستوطن ، بحيث زادت نسبة بناء المستوطنات 200 في المائة ، وقامت إسرائيل بهدم حوالي 2500 منزلا لفلسطينيين في الخمس سنوات الأخيرة .

البعد الآخر للوحة القاتمة يظهر بالضغوط الأمريكية والإسرائيلية المتواصلة على القيادة الفلسطينية ، لتأجيل إعلان الدولة الفلسطينية ، وتقديم مزيد من التنازلات فيما يتعلق بملفات الحل النهائي " اللاجئين والقدس والحدود" الأمر الذي يضع هذه القيادة أمام خيارات صعبة ، فإن وافقت على المقترحات الأمريكية فإنها ستخاطر مرة أخرى بمصداقيتها في الشارعين الفلسطيني والعربي وتثير لديهم مشاعر السخط والاستهزاء ، خاصة في ظل ظروف ومتغيرات تعصف بالمنطقة ، أيقظت الإحساس بضرورة المقاومة ورفض كافة أشكال الوصاية الأجنبية .

أمام هذا الوضع ستواجه القيادة الفلسطينية حالة من الإحتقان السياسي ، والأزمات المتعددة المتوالية والمتولدة من وضعية عملية السلام ، خاصة في ضوء محدودية الخيارات أمامها ، وضيق هامش المناورة ، بعد أن أعطت كل ماتملك ، وفرٌطت في كثير من أوراقها الضاغطة عبر دروب الديبلوماسية السرية ، وعلى هذه القيادة أن تدرك سريعا وبعيدا عن المناورة والتوظيف السياسي مدى أهمية إعادة ترتيب الأوراق الداخلية ، وأهمها إعادة اللحمة للصف الوطني وإتمام المصالحة مع حماس وبقية الفصلئل الفلسطينية ، وخلق حالة من الوفاق الوطني على اساس البرنامج الوطني لمنظمة التحرير الفلسطينية ، إستعدادا للمرحلة المقبلة ، وكذلك توظيف العمق العربي والدولي لتحقيق أهداف الشعب الفلسطيني الذي مازال صامدا في وجه القمع والإضطهاد الاسرائيلي وفي وجه آلة القتل الصهيونية ، ويعاني الأمرين من حالة الإنقسام الداخلي .

وفي غياب هذه الرؤية ، فإن السلطة الفلسطينية ، والتي أثيتت التداعيات خلال الأعوام الماضية ، أنها الوتر الرخو ، ستواجه حتما مأزقا صعبا وسط تزايد مخاوفها من إطلاق رصاصة الموت الأخيرة .

CONVERSATION

0 comments: