قدر لهذا الأمة أن تقاسي عقوداً من الانزواء والارتكاس في الظلمة والتبعية .. ولكن يبدو أن هذه العقود آخذة بالانقضاء .. لقد طفح الكيل بالأمة .. وبدأت زمان غضبها النبيل .. ففي غضون شهر واحد بدأت خيوط الشمس تشرق من مغربنا التونسي لتصل إلى مشرقنا المصري .. وتمددت بسرعة الضوء إلى الشوارع العربية التي أخذت تشهد إرهاصات الحدث التونسي والمصري ... كيف لا .. والوجع واحد وممتد.. والقهر الاقتصادي والاجتماعي والاستغلال الطبقي يكاد يكون واحداً ..
لكل منا نسخته من القمع والاضطهاد.. وكلنا يعاني من الاستئثار بالسلطة والثروة .. وكل أوطاننا شهدت وتشهد تلاعباً بمقدراتها ومقدرات أبنائها .. وكلها تقاس من بطش واستبداد سياسي .. وما يتخللهما من فساد ونهب واستباحة ..
أوطان يتم التعامل معها كما لو أنها "دكاكين بقالة" .. أو بقرة حلوب حين يجف ضرعها تذبح وتؤكل لحماً وعظما.. أو مزارع ورثوها كابراً عن كابر.. فتحولت أوطاننا إلى إقطاعيات .. تدار بمنهج ينتمي إلى العصر الحجري .. من قبل إدارات تتحكم بكل التفاصيل .. من الخبز حتى الإعلام والثقافة والتعليم والتشريع .. إدارات تعتقد يقينا بأننا شعوب لا تقرأ .. وإن قرأت لاتفهم .. وإن فهمت لا تتذكر .. إدارات تظن أن الأمة - كل الأمة - مصابة ب" الزهايمر "..
ومن طرائف هذا التعويل السلطوي على فقدان الأمة لذاكراتها ما يبثه الإعلام من منجزات وهمية .. وادعاءات الذكاء والعبقرية والتميز .. وخرافات الاستقرار .. فمن الأخبار التي يمكن أن تدرج في باب المضحك المبكي .. أنه في يوم سقوط "طاغية تونس" خرجت صحيفة "أخبار اليوم" المصرية لتتحدث عن "أفضل فترات الرخاء في عهد مبارك" .. ظناً منها أن مصرياً واحداً يمكن أن يصدقها .. في حين أن الأرقام التي تصدر عن دوائر حكومية مصرية .. تشير إلى أرقام مفزعة للرخاء المزعوم .. فعلى سبيل المثال ( لا الحصر).. يعترف رئيس الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء المصري بأن نسبة البطالة فى مصر تبلغ 51% من حملة المؤهلات العليا .. وأن هذه النسبة تبلغ 20 % من قوة العمل المصرية .. كذلك الأمر فإن تقارير التنمية البشرية الدولية تشير إلى أن "مصر" تحتل الترتيب "120" من أصل "151" دولة في التنمية البشرية .. كما أن مصر هي الثانية بين الدول الأكبر في معدلات الفقر (بعد اليمن) .. وأن نسبة المديونية فاقت حد الخطر إذ أن مديونية مصر تساوي 76.9% من الناتج القومي .. .. وغير ذلك من مؤشرات الرخاء التي يعرفها " كل المصريين "
إن ذاكرة المصريين لتحتشد بسجلات ثلاثين عاماً من الفساد والاستبداد والنهب والفقر والجوع والمرض والتجهيل.. وستبقى تحتفظ بخاتمة عهد رسموه بالبلطجة والفتن الطائفية وتهديدات الحرب الأهلية .. !!
أما بالنسبة للكرامة العربية والذاكرة الجمعية الثقافية والحضارية للأمة فإن جميع السلط العربية سعت بكل ما أوتيت من قوة إلى مسح كل آثار الكرامة والذات الثقافية والحضارية والإنساني لهذه الأمة .. عبر الإمعان في إذلال الشعوب وإهانتها .. وتسليط اللصوص والفسدة على مقدراتها ..!!
السلط العربية أخذتها العزة بالاثم .. وأعمتها شهوة الثروة .. فاستمرأت التفرد بالقرار .. واستهترت بكل أشكال الحوار .. وانحازت لحوار الهراوات والبساطير .. والقنابل المسيلة للدموع .. حتى وصلت إلى حوار الجمال والخيول والبغال والجنازير .. لتسجل سبقاً وفرادة في هذا المجال !!
سلط .. لا تحسب حساباً لحقيقة أن الأمم ليست كتلة جامدة بمقدار ما هي سلاسل متصلة من أجيال تتوالى .. أجيال تبحث عن حقها في وطن حر .. وحياة كريمة .. أجيال تصنع ثقافتها وذاكرتها الجمعية بعيداً عن أبواق السلط ومؤسساتها.. أجيال تصر على ألا تنسى حصارها بالقمع والاستبداد .. أجيال خرجت على أقانيم الخوف والترويع .. أجيال لا تقبل بتهميشها وجوعها وحرمانها لحساب أبناء النخب الحاكمة .. أجيال تبحث عن فرص عمل في وطنها لا في بلاد الاغتراب والتيه .. أجيال فشلت كل السلط في ترويضها .. أو في تشكيل هويتها .. أو صياغة ذاكرتها ومشاعرها .. أجيال ما زالت على قيد كرامة وعزة وشموخ..
أجيال تطلقها "لا " مدوية من "ميدان التحرير" في القاهرة وكل ميادين التحرير في المدن والشوارع العربية .. نياية عن الأمة .. !!
فيا أيها الناس ( اللي فوق) صدقوا ولو لمرة واحدة :
• بـأن الذل والخضوع والاستسلام لم يعد قابلاً للتوريث كما المناصب!!
• وأن شعوب الأمة لم يعد لديها ما تخسره!!
• وأن أجيال الأمة كل الأمة - شبت على أطواق السلط وجنازيرها .. ( وبغالها وجمالها.. ) !!
• وأن ثورة مصر – التي أطلق عليها في أيامها الأولى ثورة الجمال – سيكون لها حتماً ما بعدها .. فهذه الأمة تعيش اليوم زمان الشباب التونسي والمصري الجميل ..فهاهي الشوارع العربية من المحيط إلى الخليج تشهد إرهاصات هذا الزمان !!
• وأن مارد الأمة حين يخرج من القمقم .. ويكسر جدار الخوف .. لن يعود إلى القمقم ثانية .. !!
• وأن الضمير العربي الجمعي اليوم هو في أبهى لحظات استفاقته يستمتع جيداً بالدرسين التونسي و المصري ..
وأخيراً لا بد من أن نعيد التذكير بحقائق تم القفز عنها في حلكة زمان آخذ بالأفول ( والحمد لله) ومنها :
• أن الأمة العربية، أمة " الله أكبر ولا إله إلا الله " .. مهما انحنت فلن تستمر في الانحناء لأنها لن تخرج على عقيدتها !!
• وأنها أمة عزة وكرامة .. فرغم ما تعانيه من حالة انكسار وهزائم فهي قادرة على النهوض والتوحد.. وعلى وأد كافة مشاريع الفوضى الخلاقة التي باتت سلاحاً بأيدي المتشبثين بالسلطة !!
هاهي الشرارة قد انطلقت .. فتونس قد عادت لأمتها .. وهاهم شباب مصر "أعادوا الأمة" إلى دفء مصر وأفقها الواسع ..
فيا أيها الثوار.. يا أشرف الناس .. شكراً لكم .. إذ أعلنتم الثورة على أقانيم القزامة والتقزيم .. وانتشلتم تونس ومصر وأمتكم معهما من وهدة الدونية..
شكراً لكم لقد أعدتم لنا وطنا أثيراً عزيزاً .. !!
نبايعكم اليوم .. فتقدموا المسيرة وليحفظم الله !!
0 comments:
إرسال تعليق