الشعب يريد إسقاط النظام الطائفي/ جورج قرم


تمرّ أمامي هذه الأيام الثورية المجيدة في أنحاء مختلفة من الوطن العربي وأنا أتساءل بشيء من القلق، أين الجماهير اللبنانية التي يمكن أن ترفع شعار التحرر من جميع أنواع الظلم والقهر السياسي والاجتماعي والاقتصادي التي تعاني منها، ذلك انني لا ألمس إمكانية نزول الشباب اللبنانيين مجتمعين متحدين للمطالبة بإسقاط النظام الطائفي. هذا المارد الشمولي التوتاليتاري الذي يسجنهم خلف أسوار العنصرية الطائفية البشعة، وهي التي يتمترس وراءها زعماء هذا البلد منذ قرنين. والتاريخ اللبناني حافل بالثورات الشعبية الاجتماعية التي انحرفت نحو التقاتل المذهبي والطائفي والديني، مما سمح لزعماء الطوائف وعائلاتهم بأن يؤبدوا سيطرتهم المطلقة على مقدرات البلاد. وعلى خلاف تونس او مصر او أي بلد عربي آخر فهل يمكن ان نطالب بإسقاط ديكتاتور واحد في التركيبة الطائفية التي تحكم بلدنا؟ وهل يمكن أن نطالب بترحيل كل أمراء الطوائف في ظل وجود عصبيات عشائرية زبائنية مذهبية الطابع تضرب جذورها في أعماق المجتمع عبر شبكات واسعة من المؤسسات الخيرية وغير الخيرية وعلاقات إقليمية ودولية مكثفة شرقاً وغرباً؟
بالتأكيد يبدو مثل هذا المطلب ضرباً من الخيال، ومع ذلك هل نبقى مكتوفي الأيدي لا نستلهم من تجارب تونس ومصر لبناء مستقبل مختلف تماماً عن ماضينا التعيس، حيث حفل تاريخنا قبل الاستقلال وبعده بالفتن الطائفية الفتّاكة وعمليات السلب والنهب لخيرات ومقدرات بلدنا تحت شعارات برّاقة مثل «الإعمار» أو «تلازم المسارين اللبناني والسوري» أو «لبنان أولاً» أو أيضاً «العودة الى الدولة» ؟ هل سيبقى العنصر الشاب اللبناني في سجون المذهبية العنصرية الحائلة دون اللقاء الجامع من أجل التغيير، بحيث لا خيار له إلا خيار الهجرة او التكيّف مع أوضاع الفساد المستشري في البلد والزبائنية والطائفية بحثاً عن فرصة عمل أو مساعدة خيرية الطابع للحصول على الخدمات الطبية والتربوية؟
أظن أن ما قدّمه لبنان من شهداء من اجل الوطن ـ سواء في الفتن الداخلية الفتّاكة، أم في تحرير الأرض من الاحتلال الصهيوني ومقارعة جيش العدو مقارعة فعّالة وناجحة، ومنعه من العودة الى احتلال جنوب البلاد ـ يبرهن بما لا لبس فيه على روح التضحية للعنصر الشاب اللبناني، ولو اختلفت الدوافع او تناقضت في كثير من الأحيان. والحقيقة أن شبكات المال والإفساد قد أتت تشلّ قدرات الطبقة الوسطى اللبنانية على الانتفاضة السلمية والديموقراطية الطابع على غرار ما نشهده في كل من تونس ومصر، حيث الشعارات تؤكد على الرغبة الجارفة لدى تلك الفئات في تأمين كرامة المواطن تجاه كل أنواع الظلم السياسي والاجتماعي والاقتصادي، متجاوزاً كل الحدود الاجتماعية والمناطقية والخوف من أجهزة القمع المحلية.
ومن مفارقات الوضع اللبناني المفجعة أن الشباب المنتفض في كل من تونس ومصر وغيرها من الاقطار العربية، ربما استلهم من التجربة اللبنانية والتضحيات بالأرواح لدحر الاحتلال الصهيوني ومنعه عام 2006 من العودة الى لبنان أو كسر إرادة المقاومة وجمهورها، بينما في لبنان يبقى اللبنانيون أسيري السجون الطائفية المختلفة والخوف الدفين من تركها وهدمها.
فيا ترى ماذا يمكن أن يكون الهدف الجامع في لبنان الذي يوّحد العنصر الشاب من كل الفئات والمذاهب إلاّ شعار سقوط النظام الطائفي لتحرير الإنسان اللبناني من هذا الخوف الديني والمذهبي البغيض من الآخر؛ هذا الخوف الذي يشلّ كل القدرات بحــيث باتت أية تظـاهرة ضدّ غلاء المعيشة يُنظر اليها على انها تـحدّ طائفي محــفوف بمخاطر انفــجار فتنة فتّاكة جــديدة. والغريب في الأمر أن النخبة السياسية المثقفة قد أجمعت على ضــرورة إقامة الدولة المدنية، ولكن هذا الشــعار لم يُترجم يوماً بأية خطوة تجاه تحقيقه؛ بل نحن أبعد ما نكون عن الحالة المدنية التي تحّول رعايا الطوائف والمذاهب الى مواطنين متساوين في الحقوق والواجبات، يناضلون سوياً لتحقيق مجتمع العدالة والتنمية التي يستفيد منها جميع أبناء لبنان من دون تفريق أو تمييز مناطقي أو قطاعي أو اجتماعي.
لذلك لا بدّ من رفع شعار سقوط النظام الطائفي لتحرير الإنسان اللبناني من أغلاله، فالطائفية لن تزول من النفوس طالما المؤسسات السياسية والثقافية والتربوية والإعلامية تعمل ليلاً ونهاراً لتعميقها في ذهنية اللبنانيين خدمة لزعماء الطوائف، وفي كثير من الأحيان خدمة للقوى الإقليمية والدولية التي تتصارع في الساحة اللبنانية. فمتى يتفق العنصر الشاب اللبناني على مثل هذا الخيار، غير عابئ بمناخ العنصريات والنرجسيات المذهبية والطائفية القاتلة التي أفشلت كل محاولات الإصلاح منذ عهد فؤاد شهاب؛ وكيف يُمكن القضاء على تلك النرجسيات المجنونة من دون رفع شعار سقوط النظام الطائفي الذي هو مصدر شقائنا والذي لا بدّ من التجمّع ضدّه للقضاء عليه والدخول في العصر الإصلاحي الذي نتوق اليه، بدءاً من قانون انتخابي عصري يتمثل فيه جميع الحساسيات السياسية اللبنانية وانتهاءً بتجنيد كل الطاقات الاقتصادية المهدورة من بشرية وطبيعية في بلادنا، من أجل تحقيق نهضة إنتاجية توفّر فرص العمل للعنصر الشاب في كل المناطق اللبنانية من دون استثناء. أما مكافحة الفساد فستبقى شعاراً جميلاً غير قابل للتطبيق في ظل وجود الحمايات الطائفية المتوفرة للفاسدين والمفسدين.
فهيّا بنا الى اعتماد ونشر شعار إسقاط النظام الطائفي.

CONVERSATION

0 comments: