الشقراء المعجبة بحديث " الخلقُ عيالُ الله..." ثائرة/ حمّودان عبدالواحد

أنهيتُ محاضرتي حول موضوع " الأنسنة في الاسلام " وفُتِحت الأبواب أمام الاسئلة والنقاش ، وما أن أعلِنت نهاية اللقاء الثقافي حتى ارتفعت التصفيقات في أرجاء المدرّج الواسع الجميل مصحوبة بتعبيرات الشكر والتقدير...
بدأت أجمع أوراقي وقارورة ماء صغيرة وأضعها في شنطتي وإذا بأفراد من الحاضرين يحومون حولي ويبدؤون في طلب استفسارات وطرح بعض الأسئلة... وما أن انتهوا حتى جاءتني فتاة شقراء حلوة ، أنيقة في لباسها ، فرنسية في غاية من الحشمة والحياء ، لكنّ رأسَها مرتفعٌ وأنفها شامخ ... ذات شخصية ... استسمحَتْ في صوت خافت ونظرات كأنّها خائفة أو معجَبة :
- إذا سمحتم !
– نعم ، تفضلوا !
– عجيب ورائع ما سمعته اليوم عن الاسلام ، لقد أعجبني كثيرا كلامُكم... !
– شكرًا !
– ما أعجبني أكثر وترك في نفسي أثراً بالغاً هو حديث الرسول عن الانسانية !
– تقصدون " الانسانية كأسرة ..." !
– نعم !
– لماذا أعجبكم هذا الكلام الصادر عن رسول الاسلام ؟
- أعترف أنني لم أسمع في حياتي كلاما أجمل وأعمق منه ... إنه ساحر وجذاب ويستحيل الصمود أمامه !
وبما أنّني رأيتُ أحدَ المسؤولين عن تنظيم اللقاء الثقافي يشير علي من الباب الفوقي للمدرّج بالإسراع حتى لا أصل متأخرًا إلى مأدبة العشاء التي دعيتُ إليها ، أفهمتُ الفتاة الشقراء أنّي مستعجل لكني أبديت لها في نفس الوقت اهتمامي بحضورها واحترامي لها :
– هل من خدمة ، أيتها الآنسة ؟
- كم أحبّ أن تعطوني نصّ الانسانيّة ... !
– بكل فرح ، هل تريدون أن أكتبهم لكم بخط يدي ؟
- سيحصل لي كبير الشرف ... !
أخرجَتْ قلما رأسه رصاص وناولتني إياه ، فكتبت لها حديث الرسول الكريم على صفحة ورقة بيضاء : " حديث نبوي شريف : الخلق عيال الله وأقربكم إلى الله أرحمكم بعياله " ، وقرأته لها ثم عقبتُ مباشرة قائلا :
- أرجو ألا تزعجك كلمات " نبوي شريف " لأنه لا يدخل في معتقداتكم ، وإن شئتم محوتها وعوّضتها بجملة " يقول رسول الاسلام "...
صدرتْ منها نظرةُ استغراب وشدّت على شفتيها ثم قالت وهي تهز رأسها في إشارة منها إلى أنها غير متفقة :
- ومن قال لكم أني لا اعتقد بأن محمدا رسول الله ؟ أنا لا تزعجني هذه الكلمات ، بل بالعكس...
نظرتُ إليها مشدوها وحاولتُ أن أتدارك الموقف : - عفوا أيتها الآنسة ، أنا لم اقصد...
لكنها قاطعتني وهي تبتسم :
- أنا لا أقرأ العربية ، هل يمكنكم أن تترجموا لي هذا الحديث ؟
- بكل فرح !
وقبل أن أبدأ في ترجمته بالفرنسية ، أحببتُ أن اقول لها شيئين ، أن تكتب هي بنفسها هذه الترجمة ، فقبلت في عفوية واندفعت نحو الطاولة ، ثمّ أخبرتها أنّ هذه الترجمة الجميلة الناجحة التي تكنّ عن معرفة عميقة باللغة العربية هي لشاعر فرنسي كبير من أصول لبنانية اسمه صلاح سطيتي... وهنا قاطعتني الفتاة :
- أعرف الآن لماذا لم أصمد أمام كلام الرسول ، فالمحتوى العربي الانساني العظيم للحديث قد ترجمه إلى الفرنسيّة عاشق كبير للعربية ، له بالاضافة إلى العلم الكافي بخبايا اللغة إحاطة بموارد الشعر والجمال فيها... أين يمكنني أن أجد ، من فضلكم ، هذا الكنز الثمين ؟
أخرجت كتابا من محفظتي وأريته لها :
- هنا في هذه التحفة الناذرة ! وكما ترون فالعنوان جميل وأخاذ " نورعلى نور أو الإسلام المبدِع " ! (2)
- لم يسبق لي أن رأيتُ هذا الكتاب أو سمعتُ به ...
- لستم الأولى ، فأغلب الناس وحتى أصدقائي لا يعرفونه ... في الحقيقة لم يطبع إلا مرّة واحدة ونُسَخه الأولى لم تكن كثيرة...
قالت وهي تسجل عنوان الكتاب :
- سأجده على الانترنت ، فربّما يبيعه أحد على موقع خاص بالكتب التي لم تعد موجودة في السوق... !
- أتمنى لكم ذلك !
وقبل أن تودّعني أخرجت من جيبها - في حركة موزونة وأنيقة - شيئا ما وقالت لي في ثقة وانشراح :
- هل تقبلون مني هدية صغيرة عربونا على امتناني وتقديري لكل...
وقبل أن تكمّلَ جملتَها قلت بسرعة مردّدًا :
- بطبيعة الحال ... بطبيعة الحال !
أعطتني " باجا " يمثل راية تونس ، على شكل حمامة رأسها هو حرف الحاء العربية وبقية جسمها بقية حروف الحرية ، حيث توجد نجمة تونس والهلال ... تحمل الحمامة في فمها غصن زيتون...:
- أنظروا هذا البادج ، كيف تجدونه ؟ إنه جميل ، أليس كذلك ؟
- رائع ، والله ...رائع جدا !
- أنا أهدي لكم هذا الباج ... لأني أنا التي تصوّرتُه وقمت بتصميمه... هل هو في مستوى الحلم الذي أشرتم له عند حديثكم عن تطلعات ثورة الشعوب العربيّة ؟
- إنّه موفق تماماً ... آية في الإتقان... هو دليل على أنّكم فنّانة ... اسمحوا لي أن أهنئكم ... ثمّ فيه شجاعة نعم شجاعة حقيقية...
قاطعتني بجدّيّة حادّة وجافّة وقالت في نبرة مرتجفة عميقة كأنّها تؤدّي قسمَ الولاء أمام حضور وشهود عيان :
- إنّنا مع الشعوب العربيّة ...على الشباب هناك أن يعلموا أنّهم ليسوا وحدهم في المعركة ضدّ أعداء الحرّيّة والإنسانيّة ... أقسم لكم أنّنا لن نسكت ولن يهدأ لنا بال حتى يستردّ إخوانُنا العرب والمسلمون كرامتهم ! نحن أسرة واحدة ... كفى الأرض ما تعيشه من ظلم واستهذار لحقوق البشر !
*******
أعترف بأنّ هذا اللقاء لم يعجبني فقط ، بل ترك في نفسي أثراً جميلا ما زالت أصداؤه تتردّد في أعماق نفسي ودروب وجداني وتشغل حيزاً واسعا من فكري...
لمّا انتهى الحديثُ بيني وبين هذه الفرنسيّة الشقراء وودّعتني ... وقفت برهة وكأني أتفكر... وانتبهت لأشياء غابت عني لما كانت هي أمامي... إنّها لم تكن وحدها بل كانت مصحوبة بشابة شقراء أخرى لم تتدخل بكلام ، لكنها كانت تسمع وتلتقط كلماتي قبل أن تخرج من فمي... وكانت هي الأخرى تحمل بادج " تونس حمامة الحرية "...
هذه الشقراء شابة وجميلة وذكية ومبدعة ... وتعيش في فضاء ديموقراطي تتمتع فيه بحريتها إلى حدّ تُحسَدُ عليه ... ولا تبدو تشتكي من نقص مادي فحالتها وهيئتها يوحيان بالعكس ... إنها لا ينقصها على ما يبدو شيء... فما الذي دفع بها إلى أن تهتم بتونس وثورات الشعوب العربيّة وتعبر عن تضامنها بطريقة فنية وجمالية مع ثورة شعب ينتمي إلى عالم صورته سيئة ومرعِبة في مخيّلة الغربيّين ؟ هل لأنّها مُجرّد ثائرة ضدّ الظلم وإرادة استعباد الانسان لأخيه الانسان... ومتعاطفة مع المظلومين والمحرومين من الحرية ؟
إنّها وهي التي تنتمي - كما تعوّد الرجالُ عامّة والرجلُ العربي خاصة أن ينعتوا هويّتها الأنثوية – إلى الجنس اللطيف أو الضعيف ، تتحدّى بحق كل الأفكار المسبقة التي يُرَوَّجُ لها لاعتبارات سلطوية وسط الرأي العام عن المرأة ... لكنّ أكبر تحدّ تقومُ به هو ذاك الذي قبلتْ أن توجّهه إلى نفسها بتغلبها على أنانيتها الفردية... وهذا النوع من التحدي بحاجة إلى ذكاء فعلي وجرأة كبيرة لا يصدران إلا عمّن هو واع بحياته وذاته ... بحقوقه وواجباته...
لو أرادت هذه الشقراء – وهي حسناء فاتنة ولها من وسائل الإغراء الأنثويّة ما أستحيي عن وصفه في هذا المقام - الدنيا بذهبها وماسها وبترولها وغازها وجميع رؤوس أموال بنوكها... لو شاءت جاها وسلطانا وشهرة لركع لها العالم... فما الذي تبحث عنه في حديث محمّد عليه الصلاة والسلام " الخلق عيال الله " ؟
أوَ تكون باحثة عن إنسانيتها الحقيقية ، وهي التي تقطربالانسانية ؟ أوَ تكون باحثة عن الحبّ الصفي النقي، وهي التي من يراها تشمله الرحمة الالهية ؟ أم تُراها في حنين وظمإ إلى موطن الروح الاصلي حيث السعادة في حضن الخلود ؟ أوَ لا تكون تريدُ – وهي الحرّة – أن تترجمَ الأفكارَ والمبادىء التي تؤطر حياتَها إلى فعل " الحضور " الوجودي الذي بموجبه يؤدّي الانسانُ شهادةً أمام الكائنات والكون والخالق بأنّ الأمانة التي حملها ما زال مفعولُها قائما ما دامت السماوات والأرض...؟
*******
ابتسمتُ في الأخير، رميتُ بنظرة عميقة إلى الأفق أتبعتُها بتنهّد طويل ، وسمعتُ صوتا في قرارات نفسي يشدّني - في إيقاع طلبي رحموي - إلى الخالق الذي يستحمّ عيالُه بنور الحياة في بحْرٍ من حبّه الفياض :
رحمتَكَ يارب ... عطفك يارب ... حنانك يارب... اِرحم عيالك برحمتك الواسعة ، إنّك كنت بنا رحيما !
--------------------------------------

(1) مادة هذه الحادثة- الذكرى - ليست من وحي الخيال ، هي واقعية ترجع إلى محاضرة حول موضوع " الأنسنة في الاسلام L’humanisme en islam " كنت ألقيتُها بدعوة من جمعية " التفكير من أجل التحرك " في مدرّج ثانوية سانت إكسوبيري بمدينة مرسيليا في 17-02-2011 ... أمّا الشكل فيخضع إلى ذاتية الاسلوب وفردية اللغة الشخصية.
(2) الكتاب بالفرنسية هو :
STETIE Salah, Lumière sur lumière ou l’islam créateur, Les Cahiers de l’Egaré, Marseille,1992.
وترجمة الحديث النبوي الشريف بالفرنسيّة هي :
L’humanité entière forme une famille unique dont Dieu a la charge. Le plus aimé des hommes auprès de Dieu est celui qui, à cette famille sienne, sait se révéler le plus utile.

CONVERSATION

0 comments: