وليد جنبلاط ليس أحجية ولا لغزاً!!/ محمد فاروق الإمام

قد اختلف كثيراً مع بعض المحللين لشخصية الزعيم الوطني اللبناني وليد جنبلاط، فكثيرون يعتقدون أنه رجل متلون زئبقي لا مبدأ له يميل حيث يجد مصلحته وثبات موقعه على رأس الطائفة الدرزية في لبنان، وآخرون يعتقدون أنه أحجية ولغزاً لا يمكن التعرف على مكنون صدره وفكره.
وأنا – كما قلت – أختلف مع هؤلاء عند قراءة عقل وفكر هذا الزعيم السياسي الذي نادراً وجود مثله في أي بلد عربي، فهو زعيم واقعي ورث السياسة عن أبيه ففاقه وتقدم عليه، وفهم أن السياسة هي فن الممكن وليس المناطحة وكسر القرون والعظام والسير في دروب المطبات والأشواك والألغام، فإذا ما تغير 180 درجة بانتقاله من فريق الرابع عشر من رمضان، وتراجعه عن تبنيه – علناً - اتهام الأسد الأب بقتل أبيه كمال جنبلاط، وأن الأسد الابن هو وراء مقتل رفيق الحريري رغم قناعته بفعل ذلك من الأب والابن، ظناً منه أن دور النظام السوري في لبنان قد انتهى بعد رحيل جيشه منه، وتراجعه عن هذا الاتهام، وتقديمه الاعتذار للسيد بشار الأسد، وذهابه لتقبيل أعتاب قصره في دمشق ليغفر له ويصفح عنه، وتركه فريق الرابع عشر من آذار وانضمامه إلى فريق الثامن من آذار بعد موقعة بيروت في السادس من أيار عام 2008 عندما غزت ميليشيات حسن نصر الله العاصمة بيروت والجبل حيث مواقع جنبلاط وداره ومركز قوته، ولم يتمكن فريق 14 آذار من فعل شيء لا في حماية نفسه ولا في حماية حلفائه رغم وجود السلطة بأيديهم، وقد تمكنت هذه الميليشيات من احتلال بيروت خلال ساعتين ووضعت يدها على كل مؤسسات الدولة والأماكن الحساسة فيها وهددت الجبل بالاستيلاء عليه لولا تدارك جنبلاط الأمر وسلم بالأمر الواقع كي يحمي نفسه ويبعد عن طائفته عواقب وتداعيات ما يمكن أن يصيبها لو ركب رأسه وناطح صخرة حسن نصر الله، وهو العارف بضعفه وحجم طائفته التي هي أقلية في لبنان لا يمكن لها الدفاع عن نفسها أمام ترسانة أسلحة ميليشيا حسن نصر الله المدعوم من فقيه قم وملاليها والنظام السوري الذي غادر لبنان شكلاً وبقي ضمناً عبر حلفائه الأقوياء وطريق السلاح المفتوح الذي لم يتأثر بخروج القوات السورية من لبنان.
اليوم وبعد الأحداث الملتهبة في سورية حيث ينتفض الشعب السوري بكل طوائفه ومكوناته في وجه النظام السادي الذي حكم سورية لنحو نصف قرن بقوة البسطار والبندقية، انتفاضة تحولت إلى ثورة تداعت لها كل المدن االسورية وبلداتها وقراها مطالبة بإسقاط النظام ورحيل بشار الأسد، دون أن يتمكن هذا من إخماد هذه الثورة أو التقليل من وهجها واتساعها، رغم زجه بكل فرق أمنه وشبيحته وعسكره ممن باعوا أنفسهم للشيطان في مواجهة المتظاهرين السلميين لأكثر من أربعة أشهر سطر فيها الشعب السوري أروع الملاحم وهو يستقبل بصدره العاري بشجاعة وعزيمة وإصرار رصاص هؤلاء الساديين، ويقدم قوافل الشهداء قافلة بعد قافلة وهو مصمم على انتزاع الحرية والفوز بالكرامة وركل هذا النظام إلى مزبلة التاريخ والقصاص العادل مهما غلت التضحيات وارتفعت فاتورة أثمانها.
أمام هذه الحقائق والوقائع توقف وليد جنبلاط يقرأ الأحداث بعين ثاقبة وذهن متقد وعقل واع، حتى ما إذا رجح لديه أن النظام السوري لم يعد ذلك النظام القوي المتماسك وقد عصف ببنيانه التآكل وبشعبيته الانحدار، وبعد تخلي الأصدقاء عنه بفعل حماقاته وسفاهة رموزه وغبائهم، وقد أداروا ظهورهم إلى كل مسلمات العقل والمنطق وتوجهوا كالثور الإسباني الهائج نحو حتفه، ظناً منه أن خصمه وعدوه هو تلك الخرقة الحمراء التي يلوح بها ذلك المصارع الإسباني، حتى إذا ما أُسخن بالجراح خر صريعاً وسط استهجان اللاعبين والمتفرجين دون أن تشاهد دمعة تسيل من عين مشفق عليه.
جنبلاط دعا قبل أيام النظام السوري إلى " تنفيذ الوعود الإصلاحيّة التي أطلقها بشار الأسد دون إبطاء، وفي مقدمها رفع حالة الطوارئ عمليّاً وليس نظريّاً، ومحاسبة المسؤولين عن الارتكابات الخارجة عن القانون سواءً أكانت من مسؤولين أمنيين وعسكريين أم مجموعات مسلحة، وتطبيق مراسيم العفو العام وإطلاق سراح جميع المعتقلين السياسيين".
وبالأمس أوضح وليد جنبلاط من موسكو سرّ موقفه الحقيقي مما يجري في سورية بعد حثّه نظام الأسد على تطبيق الإصلاحات وانتقاده أنظمة الممانعة. وقد رفض جنبلاط الدخول في سجالات مع أصحاب نظريات الانعطاف والالتفاف خاصة وأنه كما قال "حسم خياره وأنه ثابت في الموقع الذي اختاره". وأضاف "أنا خائف على سورية ومقتنع بأن سورية تُحمى بالإصلاحات السريعة. وأنا لا أقول شيئاً جديداً. أليس ما أطالب به هو تلك الوعود التي وعد بها الرئيس بشار الأسد، في خطابيه الثاني والثالث، أنا لم آت بجديد من عندي، ما أقوله ينطــــلق من حرصي على سورية ومن قناعتي أن الأصلح لسورية اليوم قبل الغد هو إجراء الإصلاحات والتعجـــيل فيها، ولقناعتي أيضاً أن الإصلاح كما ينقـــذ سورية، ينقذ لبنان نظراً للترابط العضوي بينهما في السياسة كما في الأمن، وتلك المعادلة التاريخية كرّسناها في الطائف".
وتابع الزعيم الدرزي "أنا قمت ومن دون تكليف من أحد، بل كلفت نفسي بنفسي بأن أكون سفيراً عن سورية من أجل الإصلاح، زرت فرنسا وقال لي آلان جوبيه (وزير الخارجية الفرنسي) فليتوقف القمع في سورية، كما زرت روسيا للغاية ذاتها، وأنا أعرف حرص روسيا على سورية وعلى الاستقرار في سورية ولكن لا بد من الإصلاح وكل القريبين من سورية يريدون ذلك".
إن ما يقوم به جنبلاط من زيارات لعواصم عالمية بهدف دفع هذه العواصم إلى الضغط على بشار الأسد ليستجيب لنداء العقل والنزول عند مطالب الجماهير السورية، والتوقف عن القمع البشع تجاه المتظاهرين السلميين ولجم أجهزته الأمنية وفرق موته وذئاب شبيحته التي يسلطها على هؤلاء المتظاهرين دليل رجاحة عقل وليس زئبقية وتلون، وهو صادق عندما يقول أن هدفه من هذه الزيارات: "لقناعتي أن الإصلاح كما ينقـــذ سورية، ينقذ لبنان نظراً للترابط العضوي بينهما في السياسة كما في الأمن" فنجده هنا مشفق على سورية كإشفاقه على لبنان، لأنهما توأم لا يمكن عزل ما يجري في سورية عما يجري في لبنان والعكس صحيح.
جنبلاط في موقفه هذا سبق معظم المفكرين والمثقفين العرب بدعوته الصادقة وخوفه وحرصه على سورية دون التفتيش عن النوايا، فيما لم نسمع بمثل هذا الموقف الصريح والجريء من الزعماء العرب وقادتهم ومفكريهم سواء في السلطة أو في الساحة السياسية، اللهم إلا من قلة من الكتاب والمثقفين الذين انحازوا إلى صف الثورة السورية ومطالبها العادلة وهذا ما دفع الثوار في سورية إلى تسمية الجمعة الماضية، إشارة إلى موقف العرب والعالم المخزي تجاه ما يجري في سورية من قمع وحشي للمتظاهرين، بـ(صمتكم يقتلنا)!!

CONVERSATION

0 comments: