هل يعود العرب إلى التاريخ؟/ نبيل عودة

سأل معاوية الأحنف بن قيس عن الزمان، فأجابه: " أنت هو الزمان، فإن صلحت صلح ، وان فسدت فسد ..". وأجزم أن نفس الجواب كان سيعطى للرؤساء الفاسدين في تونس وليبيا ومصر واليمن وسوريا وكل الشلة اللاحقة.
أحيانا يبدو لي أن استعمال صيغة "العالم العربي" لوصف ممالك وجمهوريات العرب هو نوع من المهزلة، أو السخرية على الذات. بعض الدراسات تقول أن 100- 150 عائلة عربية تتحكم بكل الأقطار العربية، فهل أنظمة مبنية على العائلية والقبلية، يجوز أن تحظى بصفة "عالم عربي"، أم نعود إلى الصيغة الأكثر دقة وواقعية: "دول الطوائف"؟ .. وربما تسمية قبائل أنسب، لأنه تبين أن ما يسمى جهاز دولة، لا وجود له فعليا في جمهوريات وممالك العرب !!
هل من نظام عربي يعتمد استقلالية المؤسسات والرقابة على قباطنة السلطة؟ جهاز قضائي مستقل. جهاز تشريعي مستقل يملك حرية القرار، وسلطة تنفيذية غير مرتبطة إلا بتنفيذ القانون، وجهاز رقابة على السلطة غير مقيد بأحد ؟
هل من برلمان عربي قادر حقاً على التصويت ضد أصغر وزير في أنظمة الطوائف؟
ما زالت صورة مجلس الشعب السوري المخجلة واضحة وتقدم صورة مخزية عن مستوى ونوعية البرلمانات العربية ، باستقبالهم بتصفيق عاصف لرئيس قاتل ومجرم بحق شعبه وبحق الإنسان عامة ، دون أن نرى برلمانيا واحدا لا تدغدغه الحماسة ، وكأنهم في عرض تعر في نادي ليلي ؟!
هل هذا برلمان أم بيت بائعات هوى من نوع الذكور؟
هل من انتخابات عربية لا يحظى فيها الرئيس بالإجماع من الأحياء والأموات، من الذين يبحثون عن الطعام في القمامة، حتى الذين ينزفون في زنازين المخابرات؟
في ظل هذا الوضع يستشري الفساد ويفسد الزمان.
في ظل هذا الوضع يقمع أصحاب الموقف والضمير لضمان أمن الفساد.
في ظل هذا الوضع يتعفن المعارضون في سجون وزنازين أنظمة عصر العرب الحجري الجديد.
وبالمقابل ، وهذا ليس غريبا ، عانت الثقافة العربية، بصفتها المعبر عن الضمير الوطني العربي، وعن الحلم بالتغيير من الضمور والتشرذم ،بل وهناك حالات تكلس مستهجنة، واعترت ثقافتنا حالات من الهروب من الواقع، حتى الهروب من الوطن، وأمانينا أن تعيد انتفاضات التغيير العربية، للإنسان حريته، وتعيد للمواطن العربي كرامته المهدورة في وطنه، من أنظمته أولا.. ثم من الدخلاء الطامعين على أشكالهم المتعددة، وأن ينطلق تيار التغيير بكل عنفوانه في العالم العربي عاصفا بكل حواجز الطغيان وسجون ودوائر مخابرات ملوك الطوائف، لتستعيد ثقافتنا عافيتها ودورها الطليعي في التنوير الفكري والاجتماعي.
لا يمكن نفي إنجازات الثقافة العربية المتمردة على البغاء الرسمي. إنجازات الفكر العربي المعارض للغباء العربي الرسمي. إنجازات الثقافة العربية في ساحة الفكر، الذي فشل ملوك الطوائف في قمعه ومنع تسربه من الزنازين وعن أعين الرقباء.
لا نتجاهل ان الفكر العربي المتنور، المتحرر من عقلية العصر الحجري، استطاع ان يجد انطلاقته في المنفى (المهجر)، وبعضه يواصل التحدي ودفع الثمن بالحرية الشخصية، حاملاً دمه على كفه داخل أوطانه ، وما زلنا نسمع يوميا عن سجناء الفكر والضمير والحرية ، في أنظمة تتوهم أنها قادرة على إفشال حكم التاريخ ، والبقاء في القرن الحادي والعشرين بعقليات وأنظمة القرون الوسطى.
الثقافة العربية لم تقف مكتوفة الأيدي. ولكن بجانب واحد فقط. الجانب الفكري والإبداعي الروحي.رغم الحصار وممارسة النفي.
لا يمكن الحديث عن الثقافة بمفهومها الشامل، الروحي والمادي، الذي يشمل كل ما يبدعه الإنسان في مجتمعه من ثروات مادية ونهضة عمرانية علمية وتعليمية ، من ناحية الثقافة الروحية اجتازت وتجاوزت الفكر القمعي ونشرت فكرها النير، ولكن بانقطاع كبير عن جمهورها ، ومن ناحية أخرى الجانب المادي للثقافة كان بتراجع دائم أو يفتقد للتقدم المرجو، مما زاد معدلات الفقر والأمية والتخلف العلمي والصناعي والتقني. وبمقارنة بسيطة مع اسرائيل، الدولة التي تعتبر العدو الأساسي ، والتحدي الحضاري الأخطر في تاريخ الشعوب العربية، والتي تشكل تهديدا ملموسا للمجتمعات العربية، نشهد حالة من تعمق التخلف العربي ، العلمي والتقني والاقتصادي والاجتماعي، فمقابل تطور العلوم والتقنيات واحتلال مكانة متقدمة على المستوى العالمي لإسرائيل، يحتل العالم العربي مكانة بارزة في تطوير الغيبيات والخرافات وتعميق نهج القمع وتقليص مساحة الحرية ، والحرمان من الحقوق الأساسية للمواطن وحقوق الإنسان عامة.
إن إسقاطات واقع العصر الحجري العربي الراهن يترك سلبيات وإسقاطات مدمرة ليس من السهل القفز فوقها... بل وبدأت تثمر فاكهة مشوهة في حقلنا الفكري والثقافي .. وغاب الكثير من الثمر الجيد من حقولنا.. وتشوهت عقول الشباب ببرامج التضليل الديني من تجار دين بلا ضمير يشكلون الجهاز التعليمي السائد في مجتمعاتهم. ونرى أثر ذلك في الجرائم التي ترتكب بحق الأبرياء في شتى أرجاء المعمورة.
بذلك نكسب العطف والتأييد لقضايانا؟!
العصر الحجري العربي ألحق بنا أضراراً فكرية عديدة. أفسد زعماءَ ثوريين فقدوا بوصلتهم الاجتماعية والسياسية بأوهام تتعلق بقوى تتلفع بالمقاومة ، وكل محركاتها لا علاقة لها بفكر التحرر والتقدم الاجتماعي ، بل بفكر إرجاع المرأة إلى سجنها وراء الحجاب الشخصي والحجاب الاجتماعي،بفكر تحويل الإنسان إلى أداة لخدمة تنظيمات أو أنظمة لا تعتبر الإنسان أكثر من أداة لخدمة مشاريع لا تمت بصلة لمجتمعاتنا ومصالح إنساننا ، تنظيمات مسلحة لا تخدم التنور والتقدم، وتجعل من الديمقراطية أداة تفسخ وقبر للشرعية الوطنية، ولا تخدم إلا مشاريع لا تمت بصلة لقضية تحرير الأرض وتحرير الإنسان. وآخرون سقطوا في وهم ان عصر المنطق السياسي ولّى وصارت الأقوال العشوائية تطرح بكل مناسبة وبكل ظرف. فكيف نسمي قادة أحزاب مفروض أنها ثورية، يدافعون عن أحزاب إلهية، بعجز عن رؤية الصورة العامة الشاملة، والخلفية الاجتماعية المغرقة بالرجعية الفكرية لهذه التنظيمات ، وكونها امتدادا استراتيجيا لقوى لا شيء يجمعها مع مصلحة الشعوب العربية. مع التنور العربي ، مع التقدم الثقافي والاجتماعي للشعوب العربية، مع التغيير السياسي لما فيه رفع شأن وتأثير الموقف العربي دوليا. ثم نراهم يتجندون ثرثرة بدفاع عن نظام يرتكب جرائم لا تخجل النظام النازي في وقته. بل وبعضهم تخرجوا من سجون نفس النظام القمعي، زج بهم بلا محاكمات لسنوات طويلة جدا، وعذبوا، واليوم يتحدثون عن "نظام قومي ومناضل ضد الاستعمار"، ولو ظل بهم ذرة عقل، لعرفوا انه أفضل خادم للاستعمار الصهيوني الذي يسيطر على أراضيهم ويستوطنها ، بل وضمها بقرارات برلمانه، وأعني ارض الجولان المحتل، ولا يتردد في استباحة شرعية الوطن وقصف مشاريع تعتبر ذات مستوى امني مرتفع جدا، دون أن يتجرأ "المناضلين الوطنيين ضد الاستعمار" على إطلاق رصاصة واحدة ..
قد يرفع البعض حاجبيه ويوسِّع حدقتي عينيه مستهجناً: ما دخل السياسة بالثقافة؟
يكفيني ان أقول ان أبرز مفكر عربي وعالمي معاصر ومؤثر على الفكر والثقافة والسياسة العربية والعالمية، المرحوم إدوارد سعيد، ما كان يصل إلى مكانته الثقافية الدولية والعربية، لو فصل الثقافي عن السياسي، ليس في رؤيته للقضية الفلسطينية فقط ، بل في رؤيته لمجمل حركة الثقافة العالمية وتطورها ، بل وأطلق على أحد أهم كتبه عنواناً سياسياً ثقافياً مثيراً: "الثقافة والإمبريالية". ويسجل في مقدمة كتابه رؤيته الثاقبة، يكتب:
"ان معظم محترفي العلوم الإنسانية، عاجزون عن أن يعقدوا الصلة بين الفظاظة المديدة الأثيمة لممارسات مثل الرق والاضطهاد الاستعماري والعنصري، والإخضاع الإمبريالي، من جهة... والشعر والرواية والفلسفة التي ينتجها المجتمع الذي يقوم بمثل هذه الممارسات من جهة أخرى".
وبالطبع يثبت اندماج الثقافة مع إمبرياليتها، ان الثقافة مثل سائر مكونات المنتوج الاجتماعي المادي، هي جزء من العمران الذي أنجزه المجتمع البشري.وهذا العمران يشكل تحديا لأنظمة القمع ، تواجهه بكل أجهزة الدولة القمعية.
هذا العمران نفتقده تماماً في ممالكنا الطائفية. ويبدو ان الواقع الثقافي العربي وصل إلى درجة من التأزم ، كانت من دوافع الانتفاضات المباركة التي حدثت وتحدث ولكن للأسف لا أرى أنها أنجزت ما يطمأن القلوب على مسيرة التغيير.
القوى التي من المفترض ان تقود بفكرها الاجتماعي المتحرر عملية التغيير أو تؤثر ايجابيا على مسارها، وقعت فريسة تضليل ذاتي قاتل.
هل يعبر هذا الواقع عن سقوط نهائي لتنظيمات الفكر الثوري الذي أثرى ثقافتنا وفكرنا منذ مطلع القرن العشرين؟
من قصص التراث العربي ان عمر بن عبد العزيز استعرض وضع الخلافة الأموية في أيام الوليد بن عبد الملك قال:" الحجاج في العراق والوليد في الشام، وقرة بمصر وعثمان بالمدينة وخالد بمكة.. اللهم قد امتلأت الدنيا جورا وظلما.."!!
بدلوا الأسماء، وكأننا خرجنا من التاريخ منذ ذلك الوقت، واليوم نعود إليه من نفس المكان ، مع حلم بأن نكون جزءا من التاريخ الإنساني، نساهم بتقدمه وارتقائه!!

CONVERSATION

0 comments: