خيبة أمل الفلسطينيين في ثورة مصر/ د. مصطفى يوسف اللداوي


لا شئ مما كان يأمله الفلسطينيون من ثورة 25 يناير المصرية قد تحقق، فقد خابت آمالهم، وغارت أحلامهم، وذهبت طموحاتهم أدراج الرياح، وهم الذين كانوا يأملون في ثورة مصر أن تعيد إليهم بعضاً من حقوقهم الضائعة وكرامتهم المهدورة، وتنقذهم من المعاملة المذلة والمهينة التي كانت الأجهزة الأمنية المصرية تستخدمها ضد الفلسطينيين عموماً وضد سكان قطاع غزة على وجه التحديد، فلا شئ تغير في معاملة الحكومة المصرية للفلسطينيين، فإن كان المجلس العسكري قد غير اسم الأمن المركزي المصري إلى الأمن الوطني، فإنه لم يغير عقيدته المعادية لسكان قطاع غزة، إذ ما زال يحمل مع جهاز المخابرات العامة المصرية الكره والحقد على سكان غزة، ويتعامل معهم كأنهم أعداء أو محاربين، أو أنهم رعايا دولة معادية بينها وبين مصر مشاكل وأزمات، أو كأن لمصر مع الفلسطينيين ثأرٌ قديم يريدون أن يثأروا لأنفسهم منهم، إذلالاً ومهانة.

لا شئ تغير في المعاملة المصرية لسكان قطاع غزة، فمازال الفلسطينيون يحتجزون في قبوٍ مظلمٍ ضيقٍ قذرٍ في مطار القاهرة الدولي، يخلو من أبسط شروط الاحتجاز الإنسانية، فلا مقاعد ولا مكان للجلوس والراحة، ولا دورات مياه تصلح للاستخدام الآدمي، ولا مياه صالحة للشرب، ولا طعام يقدم لهم، ولا يسمح لهم بشراء ما يحتاجون إليه من طعامٍ أو شراب، يحشرونهم بالعشرات مع مشتبهين آخرين من كل أجناس الدنيا، من المتهمين بالاتجار بالمخدرات والتهريب والتزوير والجريمة، ويسوقونهم كالمجرمين إلى القبو الأثيم، الذي سكنه لأيامٍ طويلة آلاف الفلسطينيين العائدين إلى غزة أو المسافرين منها، وكأنهم متلبسين بجريمة ضد مصر، أو متآمرين على أمنها وسلامتها وسيادتها، يسوقونهم دون أن يعرفوهم ما هي جريمتهم، وما هو الخطأ الذي ارتكبوه، ولا يسمحون لهم بالشكوى، ولا يسمعون منهم أصوات الاستغاثة ولا نداءات الاستجداء، ولا أنين الألم، فكل جريمتهم أنهم من سكان قطاع غزة، وأنهم ينتمون إلى هذا الشريط الجغرافي المتاخم للحدود مع مصر، ولو أنهم حملوا جوازاتِ سفرٍ أخرى أو جنسية بلادٍ أخرى، فإنه لن يسمح لهم بالعبور أو المرور في الأراضي المصرية، فجريمتهم أنهم غزازوة ولو اغتسلوا بماء البحر الذي يجاورهم فإنهم سيبقون غزازوة، ولن يقوَ البحر على تطهيرهم من تهمة الانتماء إلى قطاعهم الحبيب، فهم منه وهو منهم ولا يريدون التخلي عنه.

في القبو الشهير لا يفرق ضباط الأمن المصري في معاملتهم القاسية المذلة المهينة بين رجلٍ مسنٍ أو امرأةٍ عجوز، ولا بين شابٍ أو فتاة، فكلهم يساقون إلى القبو، وفيه يفصلون بين الأب وأبنائه، وبين الأم وأطفالها، ولا يسمحون لهم برؤيتهم أو الحديث معهم، ولو كان الطفل رضيعاً فإنهم يفصلونه عن أمه، ويطبقون ضدها سياسة غريبة مهينة قد لا يقوى الاحتلال على تطبيقها على سجنائه، فقد أجبره الأسرى الفلسطينيون على أن تحتفظ المرأة الأسيرة بطفلها أو مولودها معها في زنزانتها أو غرفتها، ولكن الأمن المصري يرفض أن تحتفظ المرأة بأطفالها معها، ويخرجهم من مطار القاهرة وحدهم، ويمنعهم من انتظار أمهم في المطار.

في القبو الأثيم وبعد ساعاتٍ من الاحتجاز يساق المحتجزون إلى التحقيق والمساءلة، ويجلسون أمام ضباطٍ مختلفين من جهازي أمن مصر العريقين، يستوفون منهم المعلومات، ويعرفون منهم المزيد، ويسألونهم عن كل ما خفي عنهم وغاب عن علمهم، مما لا يتعلق بأمن مصر وسلامتها، ولا يضر أهلهم وشعبهم، ويتهمونهم بالكذب والتضليل ومحاولة الإخفاء، ويوجهون إليهم التهم والأباطيل، ويمطرونهم بالسباب والشتائم وما يرد على ألسنتهم من الكلمات البذيئة الشائنة المهينة، وهم الذين كانوا قد دخلوا مطار القاهرة بثيابٍ نظيفةٍ جميلة، وفي حوزتهم أموالهم ومقتنياتهم، وفي حقائبهم هداياهم وملابسهم، فهم جميعاً من كرام الخلق وأعزة الناس، يلقون كل ترحيبٍ وحفاوة من أهل البلاد التي يسكنون فيها، أو يعبرون إليها، يقدرونهم ويبجلونهم ويبشون في وجوههم، ويقدمون إليهم ما يحتاجون من مساعدةٍ ومعونة، ولكن ما إن تحط أقدامهم أرض مصر الكنانة، ويقرأون على بوابتها قول الله عز وجل "إدخلوا مصر إن شاء الله آمنين"، حتى ينقلبوا إلى مجرمين أو منبوذين مطلوبين، تتأخر جوازات سفرهم، ويمضي الذين كانوا معهم ويغادر الذين جاؤوا بعدهم، بينما هم يبقون ينتظرون في صالات مطار القاهرة، حتى يأتيهم ضابطٌ يحمل حزمةً من جوازات السفر، فينادي عليهم واحداً تلو الآخر، ثم يسوقهم جميعاً إلى القبو الآثم الملعون، ليبدأوا منه رحلة العذاب.

لا شئ تغير بعد الثورة المصرية فمازالت قوافل المرحلين تمخر الطريق الصحراوي من القاهرة إلى بوابة العبور في رفح، وفيها يزج بجميع فئات سكان قطاع غزة، لا فرق بينهم، فهم جميعاً سواء، مواطنين فلسطينيين، ينص دستور إنسانيتهم المعذبة على المساواة، فتحرص على الحكومة المصرية على عدم التمييز بينهم، الرجال والنساء والصغار والكبار كلهم سواسية كأسنان المشط، يتجرعون من نفس كأس العذاب والإهانة، ويتلقون ذات المعاملة، وتسيرهم في قوافل محروسة بعناصر أمنية إلى بوابة العبور، وفيه تحتجزهم لساعاتٍ أخرى قبل أن تقوم بتسليمهم إلى الجانب الفلسطيني، وكأنهم مجرمين أو مطلوبين، يتطلب تسفيرهم وترحيلهم تنسيقاً أمنياً مع جهاتٍ أخرى.

ما يقوم به الأمن المصري تجاه سكان غزة جريمةٌ قومية، وخيانة للأمانة الوطنية، وإثمٌ كبيرٌ بحق الشعب الفلسطيني لا يغتفر، وليس له ما يبرره، فالحكومة المصرية الحالية التي تدعي أنها حكومة الثورة، وأنها بريئة من كل مؤامرات وسياسات القيادة المصرية البائدة، وأنها تحاكم رموزها وقادتها ومجرميها، وقد أعلنت أنها تنوي التخفيف من معاناة سكان قطاع غزة، وأنها ستقف إلى جانبهم، وستزيل العقبات والصعاب التي تعترضهم، ولكن الحقيقة أنها واصلت النهج القديم، وأبقت على الضباط الأمنيين أنفسهم، فمازالت العقليات الأمنية التي أهانت الفلسطينيين هي التي تتعامل معهم، ومعها أجندتها الأمنية، وقوائمها الخاصة، وأجهزتها الإليكترونية التي تحمل ذات الأسماء والمعلومات، لمطلوبين وممنوعين وقوائم سوداء لا تشطب ولا تنسى.

ما تقوم به الحكومة المصرية يتنافي مع قيمها التي قامت عليها، ويتناقض مع مبادئها التي نادت بها، إنها بممارساتها المهينة لسكان قطاع غزة تكره الفلسطينيين بهم، وتدفعهم إلى التفكير بعدم العودة إلى بلدهم، فهم جميعاً يحبون زيارة قطاع غزة، والإقامة فيه مع أهلهم وأسرهم، فهم في غزة قد ولدوا وفوق ثراها شبوا وترعرعوا، وإليها يحنون وإلى شواطئها يشتاقون، ولكنهم يخافون الأمن المصري، وسوء المعاملة التي يستقبل بها العائدون، إن مصر بهذا السلوك الشائن تشارك في جريمةٍ كبيرة، ومؤامرة خطيرة، إنها تيئس سكان قطاع غزة، وتدفعهم نحو الهجرة، واستبعاد خيارات العودة، إنها غاياتٌ مشبوهة، وسياساتٌ معادية، لا نملك غير هذا الوصف لها، ولا نستطيع أن نبرءها منه ما لم نرى منها تغييراً يرضي النفوس، ويثلج القلوب، ويسعد المحبين ويغيظ الحاسدين.


CONVERSATION

0 comments: