(إن قرار منظمة التحرير الفلسطينية بالتوجه إلى الأمم المتحدة هو قرار للجامعة العربية كذلك منذ عام 2006، لكن دولة الاحتلال الإسرائيلي وراعيها الأميركي "تمكنا ... من تفريغ خطة المجموعة العربية من محتواها ومضمونها")
تبدو جامعة الدول العربية اليوم أمام اختبار فلسطيني جديد عشية استعداد منظمة التحرير لايداع طلب قبول فلسطين دولة مراقبة غير عضو في الأمم المتحدة في أيلول / سبتمبر المقبل، تخير فيه الجامعة بين صدقيتها الفلسطينية وبين ضغوط علاقات معظم دولها مع الولايات المتحدة، خصوصا في ضوء المعارضة الأميركية المعلنة للطلب الفلسطيني مما يضع على محك الاختبار أيضا تعهد الجامعة بتوفير "شبكة أمان" مالية للسلطة الفلسطينية تقيها العقوبات الأميركية – الإسرائيلية المتوقعة في حال تقدمت المنظمة فعلا بطلبها.
عشية اجتماع وزراء خارجية لجنة متابعة مبادرة السلام العربية في العاصمة القطرية الدوحة في الثاني والعشرين من الشهر الماضي، قال نائب الأمين العام للجامعة العربية السفير أحمد بن حلي إن الرئيس محمود عباس يسعى إلى حصول فلسطين على وضع دولة مراقبة غير عضو في الأمم المتحدة "لتكون فلسطين دولة تحت الاحتلال وليست أراضي متنازع عليها" فشلت "عملية السلام" في التفاوض على وضعها النهائي منذ عام 1993، مع أن القمة العربية الأخيرة في بغداد قررت "دعم التوجه الفلسطيني" نحو "الحصول على العضوية الكاملة".
وقد أيدت لجنة المتابعة العربية مسعى عباس الجديد متجاهلة قرار قمة بغداد، لكنها لم تستجب لطلبه تحديد موعد لتقديم طلب بمسعاه إلى الجمعية العامة، بسبب "ضغوط" أميركية ومن "بعض الأطراف العربية" لتأجيل موعد تقديم الطلب إلى ما بعد انتخابات الرئاسة الأميركية (صالح رأفت عضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير)، مع أنه "لا يمكن التعويل على موقف الإدارة الأميركية بعد الانتخابات" (واصل أبو يوسف عضو تنفيذية المنظمة)، ورحلت اللجنة اتخاذ قرار بالموعد إلى الخامس من الشهر المقبل، بحجة منح المنظمة مهلة "للتحضير" لتقديم طلب كانت المنظمة قد جهزت فعلا كل وثائقه ومستلزماته وأجرت كل الاتصالات اللازمة لدعمه عشية تقديمها طلب الحصول على العضوية الكاملة في أيلول / سبتمبر من العام الماضي، وهو الطلب الذي مني بالفشل بسبب عدم جدية الجامعة العربية في دعمه لدى الحليف الأميركي لمعظم دولها الأعضاء.
لقد أعلن وزير خارجية السلطة الفلسطينية برام الله د. رياض المالكي أن عباس سوف يودع الطلب الجديد لدى الجمعية العامة للأمم المتحدة بعد مخاطبته لها في السابع والعشرين من الشهر المقبل، بالرغم من مماطلة لجنة المتابعة العربية، لكن عباس قرر عدم إحراج لا لجنة المتابعة ولا الإدارة الأميركية لذلك فإنه لن يطلب في خطابه تحديد موعد لإجراء اقتراع على الطلب.
ومن الواضح أن الجامعة العربية ليست جادة في دعم المسعى الفلسطيني الجديد إذا كان سيقود إلى مواجهة مع الولايات المتحدة، ومن الواضح كذلك أن عباس محاصر بين رهانين كلاهما خاسر بحكم التجربة التاريخية على الولايات المتحدة من جهة وعلى الجامعة العربية من جهة أخرى، لذلك فإنه بدوره لا يبدو جادا في التوجه إلى الأمم المتحدة ويبدو كمن يلوح بهذا الخيار تكتيكيا لا استراتيجيا.
لقد بدأ "القطاع الخاص" والمجتمع "المدني" الفلسطيني مؤخرا تسويق مبادرة السلام العربية، "إسرائيليا" ودوليا، كما كشف رجل الأعمال الفلسطيني منيب المصري لصحيفة "القدس العربي"، آملا في أن ينجح رجال الأعمال في ما فشل فيه رجال السياسة والحكم في (57) دولة عربية وإسلامية تتصدرهم منظمة التحرير الفلسطينية منذ تبنى مؤتمر القمة العربية في بيروت المبادرة عام 2002.
والمفارقة التاريخية أن رفض دولة الاحتلال الإسرائيلي للتعاطي مع "الإجماع" الرسمي العربي والإسلامي على هذه المبادرة يكاد يحولها إلى أداة استجداء سياسي من أجل موافقة دولة الاحتلال على إنشاء دويلة فلسطينية على جزء من الأراضي العربية المحتلة عام 1967، تعيش في "أمن وسلام" إلى جانب دولتهم، أو في ظلها لا فرق، بعد مضي ثلاثة وتسعين سنة تقريبا على توقيع اتفاق بين أمير عربي مسلم وبين زعيم صهيوني، كجزء من مؤتمر باريس للسلام الذي انعقد بعد الحرب العالمية الأولى، استجدى فيه الصهاينة تعاونا عربيا في إنشاء "وطن" لليهود في فلسطين.
والمفارقة السياسية في هذه المبادرة أنها حظيت بموافقة جماعية من دول الجامعة العربية عند تبنيها قبل عشر سنوات وحظيت كذلك بإجماع قمة منظمة المؤتمر الإسلامي التي استضافتها طهران عام 2003 بموافقة حتى من "دول المقاومة والممانعة".
والمفارقة الفلسطينية في المبادرة أن قمة بيروت العربية تبنتها دون مشاركة رئيس منظمة التحرير الفلسطينية، ياسر عرفات، حيث كانت قوات الاحتلال تحاصره في مقره برام الله بالضفة الغربية، ولهذا السبب بالذات كان ينبغي على قمة بيروت، التي عجزت حتى عن تأمين اتصال هاتفي لعرفات لمخاطبة القمة، أن "تؤجل" في الأقل إعلان تبني المبادرة حتى تضمن مشاركة عرفات ولو هاتفيا، لكنها لم تفعل، وتركت عرفات لمصيره تماما مثلما بقيت الجامعة العربية متفرجة على قوات الاحتلال الإسرائيلي وهي تحاصره في بيروت قبل ذلك بعشرين عاما.
لقد كان اعتراف قمة الرباط العربية عام 1974 بمنظمة التحرير ممثلا شرعيا وحيدا للشعب الفلسطيني في ظاهره اعترافا عربيا بحقه في الوجود على الخريطة السياسية كشعب شقيق وفي أن يكون له قرار مستقل في تقرير مصيره فوق ترابه الوطني، لكنه كان كذلك إعلانا من جامعة الدول العربية بالتنصل من مسؤولياتها القومية في "تحرير" فلسطين، ولم تكد تمض بضع سنوات على ذاك الاعتراف حتى أكد التناقض بين المقاومة الفلسطينية وبين معارضة الجامعة العربية لها مدى البون الاستراتيجي الشاسع بين الطرفين، لتدخل منظمة التحرير في صراع مع النظام العربي تمخض في النتيجة عن رضوخ المنظمة لجنوح هذا النظام إلى الاعتراف بدولة الاحتلال والسلام معها.
وتذكر مبادرة "القطاع الخاص" والمجتمع "المدني" الفلسطيني مؤخرا لتسويق مبادرة السلام العربية بأن "تفعيل" المبادرة كان قرارا لقمة الجزائر العربية عام 2005، وتذكر أيضا بأن الرئيس محمود عباس الذي انتخب في العام ذاته لولاية مدتها أربع سنوات التزم منذ انتخابه التزاما صارما بالمبادرة وبالتنسيق والتشاور مع جامعة الدول العربية بشأنها، ليتبين الآن بأن جدية الجامعة العربية في "متابعة" المبادرة لا تزيد على جديتها في دعم صمود عرب فلسطين فوق أرضهم، ناهيك عن دعم مقاومتهم من أجل التحرير والعودة.
إن الوضع العربي الراهن يسخر من قرار قمة الخرطوم العربية عام 1967 بلاءاته الثلاث الشهيرة للصلح والتفاوض والاعتراف بدولة الاحتلال، ومن قرار قمة الجزائر عام 1973 ب"الاستمرار في استخدام النفط سلاحا في المعركة" ضدها، ومن اعتراف قمة الرباط في السنة التالية بمنظمة التحرير ممثلا شرعيا وحيدا لشعبها تنتظر دول الجامعة العربية في الوقت الحاضر توقيتا مناسبا لإعلان استبدالها رسميا بسلطة الحكم الذاتي الإداري المحدود في الضفة الغربية وقطاع غزة، لتبلغ السخرية ذروتها برفض قمة بغداد عام 1978 لاتفاقيتي كامب ديفيد اللتين أخرجتا القوة العربية الأكبر في مصر من الصراع مع الاحتلال ودولته ليتولي أحد المفاوضين الرئيسيين على الاتفاقيتين، وهو د. المحامي نبيل العربي، الأمانة العامة للجامعة العربية حاليا.
ومن الواضح أن قرارات الجامعة العربية الخاصة بالقضية الفلسطينية تظل حبرا على ورق تتراكم في الأدراج العربية المهملة مثلها مثل قرارات الأمم المتحدة ومجلس أمنها، ويبدو عرب فلسطين اليوم مغلوبين على أمرهم عربيا مثلما هم مغلوبون على أمرهم دوليا، وتبدو قياداتهم بلا خيارات غير الاستمرار في الرهان المجرب العقيم على الجامعة العربية وعبرها على الأمم المتحدة، وتحرص كلتا المنظمتين الاقليمية والأممية على منع عرب فلسطين وقياداتهم من البحث عن أي خيارات أخرى، مع أن لجوءهم إلى خيار المقاومة للثورة على وضع مماثل في أواسط ستينيات القرن العشرين الماضي كان المخرج الوحيد لفرض وجودهم على الخريطة السياسية العربية والدولية، ولفرض اعتراف المجتمع الدولي بوجود الشعب الفلسطيني، وبوجود ممثل شرعيي له، وبحقه في تقرير مصيره فوق جزء من ترابه الوطني.
ومما لا شك فيه أن عرب فلسطين وقياداتهم يشعرون بالمرارة وهم يرون الجامعة العربية تنجح اليوم في إيصال الأسلحة وصرف مليارات الأموال وتنظيم مسلسلات المؤتمرات الأممية وعقد التحالفات الدولية من أجل "تغيير الأنظمة" في الأقطار العربية والإسلامية بينما تقف عاجزة تماما عن أي إنجاز مماثل يستهدف تغيير نظام الاحتلال الجاثم على صدور عرب فلسطين منذ النكبة عام 1948، وبينما يرسخ احتلال عام 1967 جذوره الاستعمارية الاستيطانية بتهويد متسارع يسابق الزمن فيكاد لا يبقى أي جدوى عملية لمبادلة الأرض يالسلام التي تقترحها مبادرة السلام العربية.
وربما ينسى كثير من المراقبين أن قرار منظمة التحرير الفلسطينية بالتوجه إلى الأمم المتحدة هو قرار للجامعة العربية كذلك منذ "اتفق وزراء الخارجية العرب على نقل المسؤولية عنها (أي "عملية السلام") إلى الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي" كما قال الأمين العام السابق للجامعة د. عمرو موسى في منتصف عام 2006. لكن دولة الاحتلال وراعيها الأميركي "تمكنا ... من تفريغ خطة المجموعة العربية من محتواها ومضمونها"، كما قال عضو تنفيذية المنظمة تيسير خالد في حينه، أولا عن طريق عقد مؤتمر أنابوليس في الولايات المتحدة عام 2007، وثانيا عبر ماراثون المفاوضات الثنائية بين عباس وبين رئيس وزراء دولة الاحتلال الأسبق ايهود أولمرت، وثالثا عبر المحادثات غير المباشرة برعاية أميركية، ثم عبر المحادثات الاستكشافية برعاية أردنية التي فوضت الجامعة منظمة التحرير بدخولها لمدة أربعة أشهر انتهت أوائل تموز / يوليو الماضي، بانتظار أن تتمخض انتخابات الرئاسة الأميركية هذا العام عن آلية تسويف جديدة تمكن الجامعة العربية من الاستمرار في مماطلتها في نقل ملف "عملية السلام" إلى الأمم المتحدة.
إن الفلسطيني الذي لا يزال يتوقع من الجامعة العربية أن تكون سندا لكفاحه الوطني، ويعقد عليها آمالا يعرف قبل غيره أنها تفتقد الإرادة أو القدرة على تحقيقها، ربما يكون بحاجة إلى التذكير بأن "تغيير اسمها"، واقتراح إنشاء منظومة اقليمية بديلة لها تضم دول الجوار (واقترح بعض العرب انضمام "إسرائيل" إليها أيضا)، هما مسألتان كانتا من أهم القضايا التي كانت معروضة على جدول أعمال قمتها الاستثنائية في سرت عام 2010 !!
* كاتب عربي من فلسطين
* nassernicola@ymail.com
* nassernicola@ymail.com
0 comments:
إرسال تعليق