نظرية نزارباييف: الرخاء الإقتصادي قبل الديمقراطية/ د. عبدالله المدني

بمجرد إلقاء نظرة سريعة على الخارطة الجغرافية لآسيا الوسطى، تصطدم العين بـ"كازاخستان" كأكبر الجمهوريات الإسلامية التي إنسلخت عن الإتحاد السوفيتي السابق من حيث المساحة التي تبلغ نحو 3 ملايين كيلومتر مربع، وهي ما تعادل مساحة أوروبا الغربية بأسرها. وبشيء من القراءة عن هذه الدولة التي يسكنها نحو 16.5 مليون نسمة فقط (حسب إحصائيات 2010)، أي بمعدل 224 إنسان فوق كل كيلومتر مربع، يكتشف المرء أن هذه البلاد تنام على ثروة نفطية هائلة، بل وتعتبر أيضا أكبر دول العالم إنتاجا لليورانيوم، الأمر الذي ساعدها على التقدم والنمو وجذب الإستثمارات الإجنبية، وتحقيق مستويات معيشية جيدة لشعبها (متوسط نصيب الفرد من إجمالي الناتج القومي في عام 2010 بلغ 8.1 ألف دولار)، وضمان حالة من الإستقرار والأمن والتناغم ما بين الأعراق والثقافات المكونة للمجتمع الكازاخي (العرق الغالب هو العرق الكازاخي بنسبة 63 بالمئة، لكن هناك نحو 130 عرقا آخر تم تهجير أصحابها من مناطق أخرى أثناء الحقبة الستالينية، ويدين نحو ثلثي السكان بالإسلام، فيما تدين البقية بالمسيحية واليهودية والبوذية والبهائية)، وذلك خلافا للدول الأخرى في آسيا الوسطى التي عانت ولا تزال تعاني من التفسخ والفقر والفوضى واللاإستقرار و الإحتقانات العرقية والمذهبية.
جانب كبير من هذه الإنجازات يعود فيه الفضل إلى نظام الرئيس الحالي والوحيد، منذ ولادة كازاخستان ككيان مستقل بعد تفتت الإتحاد السوفيتي في عام 1991 ،ألا وهو "نور سلطان نزار باييف" الذي أدار البلاد نحو إقتصاديات السوق، متخذا من "التاتشرية" البريطانية بديلا عن الإشتراكية السوفياتية، إضافة إلى إنتهاجه لسياسات خارجية متوازنة ما بين موسكو وواشنطون وبكين، وبصورة تحقق مصالح بلاده، وفي الوقت نفسه تحقق مصالح وإستمرارية نظامه دون إنتقاد أو تشهير. تلك السياسات التي يجد المراقب أفضل تجلياتها في مسائل تصدير النفط والغاز إلى الصين، ومشاريع مد خطوط أنابيبهما إلى أوروبا عبر روسيا، والإستثمارات الإمريكية متعددة الأوجه في كازاخستان، وغيرها من السياسات التي ساهمت في تحييد الأقطاب العالمية الثلاثة. ولا ننسى في سياق سرد ما فعله الرجل من أجل تدعيم أركان نظامه وكسب رضاء شعبه التخلي عن إلحاده المعروف أثناء خدمته في ظل النظام الشيوعي السوفيتي، والبدء بممارسة الشعائر الإسلامية - بما فيها الحج – وتعمير الجوامع، و إقامة مؤسسات لحوار الأديان، والتشجيع على التسامح الديني، وبناء عاصمة جديدة، بدلا من مدينة "ألما أتا" الحدودية، اطلق عليها إسم "الأستانة"، تيمنا بإسم عاصمة الخلافة العثمانية.
غير أن كل ما أسردناه في السطور السابقة لا يعني خلو "كازاخستان" من المشاكل. فالأخيرة ربما كانت حالة قابلة للإنفجار مستقبلا، خصوصا إذا ما واصل الرئيس نزار باييف سياسة تطبيق نظريته القائلة بـ"ضرورة تحقيق الرخاء الإقتصادي قبل تحقيق التعددية السياسية والإصلاح الديمقراطي. ولعل ما يزيد إحتمالات الإنفجار، ترهل النظام وتفشي مظاهر الفساد في إداراته، والتي يتجسد أفضل أمثلتها في ظهور عدد من أصحاب البلايين المرتبطين بالسلطة، وفي المقدمة منهم إبنة الرئيس وصهره، ناهيك عن مطالب جماهيرية أخرى مثل وضع حد للتضخم السريع في أسعار المواد الغذائية، من أجل لجم المنحى التصاعدي لتكاليف المعيشة والذي أثر كثيرا على الشريحة الدنيا من الطبقة المتوسطة. هذا علما بأن كازاخستان جاءت في المرتبة 105 ضمن قائمة أكثر الدول فسادا في العالم لعام 2010 والتي شملت دراسة حالة 178 بلدا.
ولعل من أغرب الأمور في هذه البلاد أن برلمانها مرر تشريعا في عام 2007 منح بموجبه الرئيس نزار باييف - دون غيره من الرؤساء المقبلين- حق الترشح لمنصب الرئاسة لعدد غير محدود من المرات كل 5 أعوام، شريطة أن ينافسه مرشحان آخران، وليس مرشح واحد "لأن ذلك لا يعتبر سباقا رئاسيا وإنما إستفتاء". إضافة إلى ما سبق، منح البرلمان باييف الحصانة ضد أية مسائلات قانونية أو جنائية في المستقبل، بل ومنحه أيضا سلطة نقض أي قرار من البرلمان في الشئون الداخلية أو الخارجية. وقد إستخدم الرجل تلك الإمتيازات والصلاحيات بمهارة في لجم أصوات معارضيه، وإخضاع وسائل الإعلام المختلفة لرقابة مشددة، وتطبيق سياسة تعيين حكام مقاطعات البلاد الأربعة عشرة بدلا من إنتخابهم، وصولا إلى تحويل كازاخستان من دولة ذات نظام رئاسي – كما يقول دستورها – إلى دولة ذات سمات أوتوقراطية فاضحة.
في الثالث من إبريل الحالي قرر الرجل إجراء إنتخابات رئاسية جديدة قبل موعدها المفترض بنحو عام كامل، ففاز بنسبة 95 بالمئة من الأصوات التي أجمع أصحابها على أنها راحت لصالح باييف بسبب ما حققه للبلاد من إستقرار ونماء، لا تتمتع بهما أية دولة أخرى في آسيا الوسطى، فيما شكك آخرون بنزاهة الإنتخابات، معيدين إلى الأذهان ما قالته "منظمة الأمن والتعاون الأوروبي" أثناء الإنتخابات الرئاسية في عام 2005 لجهة عدم شفافيتها وإستجابتها للمعايير والشروط المتفق عليها دوليا، علما أن باييف فاز في تلك الإنتخابات بنسبة 91.2 بالمئة، ولم يقر أحد بشفافيتها ونزاهتها إلا مراقبون من الصين.
وجملة القول أن نزارباييف سوف يستمر في حكم بلاده مثلما فعل طيلة العقدين الماضيين، ليكون هو ورئيس أوزبكستان "إسلام كريموف" الوحيدين من بقايا الإتحاد السوفيتي اللذين يحتفظان بالسلطة دون إنقطاع منذ إنهيار الأخير. أما إلى متى سيستمر الأول في حكم كازاخستان بقبضة حديدية، فعلمه عند الآن، وإن كان البعض يتنبأ بفترة طويلة. فالرجل لئن كان قد تجاوز السبعين، فإنه يبدو كما لو كان في الخمسين. هذا ناهيك عن أنه متشبث بالحياة إلى الحد الذي طلب معه من علماء بلاده الإسراع في إيجاد علاج لتأخير الشيخوخة ومقاومتها.
وتتمنى نسبة يعتد بها من المواطنين ألا يغيب باييف عن المشهد السياسي فجأة، وذلك خوفا من إنهيار كل ما تم بناؤه خلال السنوات العشرين الماضية من إنجازات ومعدلات نمو وصلت في العام الماضي إلى 7 بالمئة. حيث لا توجد آلية واضحة لإنتقال السلطة إلى شخص آخر، كما أن باييف لم يعين نائبا ليخلفه كيلا يشاركه أحد في السلطة، أي سار على المنوال الذي سار عليه الرئيس المصري السابق حسني مبارك.


د. عبدالله المدني
باحث ومحاضر أكاديمي في الشأن الآسيوي من البحرين
تاريخ المادة: إبريل 2011
الإيميل:elmadani@batelco.com.bh

CONVERSATION

0 comments: