هل انتهى عصر السلاطين وانقضى زمن الفتن؟/ د. لؤي صافي


الانتفاضات والثورات العربية الحديثة التي بزغت مؤخرا في تونس واينعت في مصر وتأججت في اليمن والبحرين وتحركت في العراق والجزائر واهتزت في سوريا واشتعلت في ليبيا تمثل استجابات صادقة وعفوية للضمير الشعبي المتألق في زمن الانظمة العربية الهامدة المستلبة. اختلفت الشعارات والمسميات ولكن الوسيلة واحدة والغاية مشتركة: التحرك السلمي انتصارا للحرية وتنديدا بالفساد.

التحركات الشعبية في المجتمعات العربية إرهاصات على انتهاء نظام حكم وثقافة سياسية ضاربان في جذورهما عبر قرون طويلة، وبدء عهد من الحياة السياسية يقوم على المشاركة الشعبية واحترام الحريات المدنية وبناء دولة القانون. فالأنظمة التي حكمت العرب منذ الاستقلال تحت عناوين وشعارات "الجمهورية" و "الجماهيرية" و "الشعبية" و "الديمقراطية" و "الحرية" و"الوحدة" وغيرها من الشعارات أعطت المواطن العربي أملا بفجر جديد وببدء مرحلة سياسية حديثة، قبل أن تتحول إلى شعارات فارغة وأحلام كاذبة. فقد قلبت الانظمة العربية الشعارات رأسا على عقب بعد أن احتضنت الجمهوريات نظام التوريث، وتقلصت الجماهير في شخص القائد العظيم الملهم، وسحقت إرادة الشعوب بدعوى التقدم والبناء، وفرغت الديمقرطية من مبادئها فتحولت إلى طقوس سياسية، وألقي الأحرار في السجون باسم الاستقرار، وتمزقت الأمة دويلات متصارعة يستعين بعضها بالعدو المتربص دفعا للقريب المخاصم.

النظام السياسي الذي ساد المنطقة العربية، ولا يزال، هو امتداد لنظام السلاطين الذين تمكنوا من السلطة والتحكم بالقرار السياسي باعتماد القوة والبأس. نعم لا يمتلك سلاطين اليوم طموحات سلاطين الأمس وقدراتهم، لكنهم يشتركون معهم في فقه السياسية ووسائل التعاطي مع الرعايا والخصوم. حرص السلاطين جميعا على الاحتفاظ بمظاهر الشرعية، بدءا بإمامهم يزيد بن معاوية الذي احتفظ بلقب الخليفة رغم تخليه عن مبدأي "الاختيار" و "الشورى" اللذان حكما تداول السلطة خلال العقود الاولى للخلافة. وتتابعت سلسلة السلاطين-الخلفاء إلى ان ضعفت السلطة المركزية العباسية ليستقل مقام السلطان عن مقام الخليفة وليتحول الأخير رمزا لوحدة الأمة المجزءة التي تقاسم نفوذها سلاطين الدولة.

السلاطين الذين ظهروا بعد انهيار الدولة العثمانية وانتهاء فترة الوصاية الاستعمارية كانوا أشد وطأة على الشعوب العربية لأنهم لم يكتفوا بالتحكم بالدولة بل بسطوا نفوذهم على دوائر المجتمع المدني، لتتحول مؤسساته النقابية والتجارية والتعليمية إلى أدوات لحماية السلطان والتسبيح بحمده والتنويه بعطاياه المستمرة. لقد تمكن المجتمع العربي التاريخي من الاحتفاظ باستقلالية مؤسساته المدنية من خلال استقلال أوقافه. فكان الوقف قاعدة مالية مستقلة عن الدولة لتمويل المؤسسات المدنية كالمدارس والمستشفيات والنقابات إلى أن أتت دولة ما بعد الاستقلال لتصادر هذه المؤسسات وتلحقها بجهاز السلطان. ولتتحول بعد ذلك مؤسسات المجتمع المدني بأسرها إلى وسائل في يد قائد الجند ورجل الأمن للتحكم بالرعية وترويضهم على حب السلطان.

النظام السلطاني لا يقتصر اليوم على الانظمة الوراثية بل يكاد يشمل كل الجمهوريات العربية. استمرارية النظام السلطاني واضح للعيان لا يحتاج إلى جهد لإظهاره. الادوات واحدة والثقافة مشتركة والسلوك متشابه. فاختيار الرئيس مهمة النخبة الحاكمة وشرعيته تتحصل بمبايعة الرعية ومباركة الشيوخ المقربين والمفتين الناصحين. قرارات الرؤساء أعطيات مباركة، وأعطياتهم مكافئة للمداحين والمتزلفين والخانعين، وخصومهم خارجون عن القانون، ومعارضيهم طلاب دنيا، والمنتفضين على استشراء الفساد بين اعوانهم طلاب فتنة.

ومنذ دخول حكم السلاطين بعد سنوات الفتنة الكبرى التي برزت نتيجة لعجز المجتمع السياسي الإسلامي الأول عن تحويل مبدأي "الاختيار" و "الشورى" إلى مؤسسة رسمية يتم خلالها وعبرها التداول السلمي للسلطة، تحولت "الفتنة" إلى فزاعة تلقى في وجه كل المنتفضين باسم "الحرية" و "العدالة". بل إن حماة السلطان حاولوا أن يؤسسوا لمجتمع الخضوع والاستكانة بتكريس العبارة الشهيرة "الفتنة نائمة لعن الله من أيقظها" ونسبتها زورا وبهتانا إلى الرسول الكريم. هذه العبارة التي يلقيها اليوم علماء السلطان في وجه الاحرار باطلة لأن من يقولها ويرددها لا يفقه ما يقول، بل تراه ينعق بما لا يسمع ويردد ما لا يعلم.

الفتنة اليوم ليست نائمة بل قائمة تلاحق الناس في أسواقهم ومحاكمهم ومدارسهم ودواوين دولتهم. الفتنة اليوم لا تتجلى بالدعوة إلى حرية الصحافة والتعبير والمسؤولية والمحاسبة، بل في استشراء الفساد والرشوة واعتقال أصحاب الرأي والناصحين والغيورين على مسقبل الوطن والمواطن. الفتنة قائمة في التخلف المذري الذي يجسم على صدور العرب ويرهق كاهلهم بعد تراجع أدائهم السياسي والثقافي، لينضاف إلى التراجع المؤلم في أداء العرب العلمي والتقني والحضاري.

يبدو واضحا اليوم أن لا سبيل إلى وأد الفتنة سوى قيام دولة القانون ومجتمع الحريات لكي يتمتع الابناء بما غاب عن الآباء: العيش الكريم والمشاركة الحقيقة بعيدا عن التخوين والتخويف والتهديد. الفتنة قائمة لعن الله من حرص عليها وابقاها تنهش في جسد الأمة وإرادة الشعب، ورحم الله من أطفأها بصوت الحرية والحركة السلمية المسؤولة وتلاحم ابناء الوطن على اختلاف انتماءاتهم السياسية والدينية والطائفية والعرقية.

د. لؤي صافي استاذ الدراسات الشرق أوسطية وناشط في الدفاع عن حقوق الجالية العربية والإسلامية في أمريكا، يرأس المجلس السوري الأمريكي


Louay M. Safi, Ph.D.
Common Word Fellow
Alwaleed Center for Muslim-Christian Understanding (ACMCU)
Georgetown University
3700 O Street NW, ICC 163
Washington DC 20057
202-683-6887

CONVERSATION

0 comments: