المجتمع المقدسي ما بعد مرحلة الاستنقاع/ راسم عبيدات

.....جريمة قتل جديدة في القدس راح ضحيتها الشاب محمد عزيز دعيس من شعفاط،والجريمة تلك كسابقاتها من الجرائم التي حصلت لا توجب قتلاً ولا جرحاً ولا داحساً ًولا غبراء.
ومسلسل القتل المتواصل لا يلوح في الأفق القريب أي بوادر على أنه سيكون له حد أو عقوبات رادعة تجعل من يفكر بارتكاب جريمته يحسب ألف حساب قبل الإقدام عليها،والمأساة هنا أننا نقدم أنفسنا على أننا"خير أمة اخرجت للناس"،ومضرب الأمثال في"المحبة والتسامح واحترام الآخر"،ولكن الواقع يدحض صحة ذلك حيث أننا الأمة الأكثر دجلاً ونفاقاً ودفناً للرؤوس في الرمال،ومعظم مشاكلنا وخلافاتنا نعالجها ب"المون والطبطبة والتخجيل والضحك على اللحى والذقون"،كجزء من ثقافة عربية سائدة،وأنا متيقن أن مجموعة الدراويش والشعوذة والفكر الانغلاقي سيقولون هذا زنديق وكافر،فنحن الأمة  العريقة صاحبة القيم والأخلاق وغيرها من اللازمة المشروخة،وأنا استغرب أن تلك الجرائم لا تحدث في الدول والمجتمعات التي نتهمها بالفساد والانحلال الأخلاقي والانهيار القيمي الا ما ندر،ونحن الأوصياء والأوفياء للقيم والأخلاق وغيرها،تتكرر وتزايد عندنا تلك الجرائم والمشاكل.
 نحن أمة " ضرب الموزر يلبقنا" هذا الموزر الذي لا نوجهه الى صدور أعداءنا،بل نستعمله من أجل نحر أنفسنا وذاتنا،والشماعة جاهزة الاحتلال هو السبب ولو وجوده لما حدثت عندنا أي جريمة أو حتى مشكلة اجتماعية،ولكن هذا ليس بصحيح،فإنا أحياناً أرى ان المسألة أبعد من غياب الوعي وانتشار الجهل والتخلف والعقلية القائمة على الثأر والانتقام،والعصبية القبلية المستحكمة في ذواتنا،بل أتطير وأقول لربما هناك خلل جيني عندنا،وان عقولنا بحاجة إلى إعادة تطويع وتجليس،والمسألة ليس تفسيرها روحاني بالبعد عن الدين فأوروبا وأمريكا لديها فصل بين الدين والدولة ولا تحدث عندها مثل هذه الجرائم على تلك الخلفيات،أما نحن مجتمعات"الورع والتقوى والنساك والزهاد"،أصبحت تحدث عندنا بشكل شهري وربما تصبح جرائم القتل يومية،والمشاكل والخلافات الاجتماعية فهي تتكرر وتحدث بشكل شبه يومي.
مجتمعنا بحاجة الى  علاج جذري وعمليات قيصرية حتى وان كانت مؤلمة،ولكن من اجل ان تبني مجتمعات حديثة عليك أن تخوض معارك حقيقية ضد الجهل والتخلف والغباء وسياسة النفاق والدجل والمداهنة القائمة عليها معظم حياتنا،هذا ضروري من أجل ان نمنع انهيار وتفكك مجتمعنا،والذي يتعرض الى خلخلة وهزات عنيفة ربما تقوده الى الدمار والتفكك،حيث ان الشعارات والخطب الرنانة وما يجري ويحدث من مسرحيات وأفلام وسيناريوهات معدة سلفاً ومرسومة في الجاهات والعطاوي والصكوك العشائرية،وما يرتجل من كلمات زائفة وكاذبة عن تسامح وكرم عربي أصيل،ثبت انها لا تحد من المشاكل والجرائم،بل تتكرر وتتزايد تلك المشاكل على نحو أوسع وأكثر شمولية وعمقاً،حيث تغيب لغة الحقيقة والمصارحة والمكاشفة،وتسود لغة المداهنة والمحاباة والنفاق والدجل،وفي العديد من الأحيان تولد تلك الحلول قهر داخلي.
من يرى ويشاهد جوامعنا مليئة بالمصلين،يتبادر الى ذهنه الى أننا امة صلاح ونساك وتقاة وورع وخشوع،ومجتمعنا ربما وصل الى درجة الكمال،وهو كما يقول الحديث الشريف كالبنيان المرصوص،ولكن عندما تغوص في العمق تجد نسبة ليست بالقليلة منهم تقاطع بعضها البعض،ونسبة أخرى تاكل لحم بعضها البعض غيبة ونميمة،تداهن وتنافق وتتعرض لسيرة ومناقب ومسلكيات  بعضها البعض بأقذع الأوصاف،وبالتالي يصبح ما قاله الكاتب المصري علاء الاسواني في مقالته اخلاق بلا تدين أفضل من تدين بلا أخلاق صحيحاً،فنحن لدينا انفصال بيت العقيدة والسلوك،التدين والأخلاق،ونتعامل مع الدين على أن مجموعة فروض فقط.
 نحن امام خلل بنيوي في تفكيرنا وتربيتنا وثقافتنا ووعينا،وامام مواريث اجتماعية قائمة على تقديس وتأليه الفرد أو صاحب القرار،يغلف بشعارات وعبارات زائفة عن طاعة الكبير واحترامه والأخذ برأيه حتى لو كان يقود الى الخراب والهاوية،أي نعطل عقولنا ونلغي دورنا وثقافتنا ووعينا،ربما لصالح جاهل يقودنا نحو التهلكة،ألم يظهر في مصر الكثيرين ممن ذرفوا الدمع على مبارك وعهده البائد رغم كل المفاسد والجرائم التي ارتكبها بحق الشعب والأمة؟الخلل هنا كبير وعميق وبحاجة البحث والاستقصاء؟.
العلاج بحاجة الى حلول خلاقة ومبدعة وخروج عن ما هو مألوف وقائم،وبداية العلاج التوقف عن سياسة النفاق والمداهنة والدجل،واعتماد وانتهاج سياسة المصارحة والمكاشفة وتسمية الأسماء بمسمياتها،والنشر والفضح والتعرية علناً وجهراً لمن يقومون بأعمال تهدد السلم الأهلي والأمن والنسيج المجتمعي أو يقومون بإعمال بلطجة وزعرنة وفرض الخاوات والإستزلام والإسترجال على الضعفاء،أو غير المسنودين والمدعومين عشائرياً وسلطويا ًأو تنظيمياً  أو الإستيلاء على أملاك وعقارات وأراضي الآخرين بغير حق،أو تسهيل استيلاء المستوطنين والاحتلال عليها،وأشدد هنا على السماسرة والمحامين والمهندسين ورجال الاعمال الذين باتوا كالاخطبوط يدمرون المجتمع المقدسي وينخرونه ويقومون بأدوار واعمال مشبوهة في عمليات تسريب الاراضي والعقارات عبر تزوير أوراق ثبوتيتها وملكيتها،وتجري عملية تلميع لهم على نحو يثير الكثير من الريبة والشكوك حول من يساندهم ويقف خلفهم في المستويات العليا،وكذلك ايقاع اشد العقوبات بمن تثبت عليه تلك الجرائم،أو من يوفرون لهم الحماية والتغطية والحضانة في المستويات الرسمية على مختلف مسمياتها سياسية،أمنية،اقتصادية،اجتماعية وغيرها.
العقوبات والمحاسبة والمساءلة بحاجة إلى خلق جسم مقدسي يمتلك ويخول بصلاحيات تنفيذية تخول وتفوض له من قبل المقدسيين أنفسهم،جهاز يكون المبنى الوطني بمختلف ألوان طيفه السياسي على رأسه وقمته،ويكون له اذرع قادرة على ترجمة وتنفيذ القرار والعقوبات التي تسن وتشرع.يقيناً أن مجتمعنا المقدسي دخل مرحلة ما بعد الإستنقاع،حيث طفت وتطفو على السطح الكثير من المسلكيات والممارسات السلبية،وكذلك علقت وتعلق في النسيج المجتمعي المقدسي الكثير من الطحالب التي تحاول أن تتسلق على قمته،مستغلة ضعف وغياب المرجعيات الوطنية،وغياب العنوان والمرجعية الموحدة.
بالضرورة ان تتضافر وتتكاتف جهود كل الخيرين في القدس،من اجل منع حالة الإستنقاع والانهيار والتدمير للنسيج المجتمعي المقدس،علينا ان نرفع صوتنا عالياً،ونقول يكفي للعنف يكفي للقتل يكفي لتدمير النسيج المجتمعي،يكفي سكوتاً عن الحق،يكفي نفاقاً ودجلاً ومداهنة وقلب للحقائق ومناصرة للبغي والعدوان،ودعماً وتغاضياً عن الفساد والمفسدين.

CONVERSATION

0 comments: