بين برلمانَيْن: كن واقعيًا واطلب المستحيل/ جواد بولس

"كنيست" إسرائيل وما يتيحه لنا من قصص وخيال، ومن متاعبَ وتسالٍ، تستدعيني دائمًا أن أشقى وأنا أحاول تصوّرَ حياتنا في هذه الدولة بدون تمثيل فيه، كما ينادي البعض ويصلّي آخرون.
فكيف كان من الممكن أن نفوِّت فرصةَ مشاهدة "الطيبي" يغيظ الكهانيين بفعلة تثبت لكثيرين، مجدّدًا، أنّ لا شجاعة انتقائية، لأنّها كانت دائمًا الوجه الآخر للجبن. يمزّق صورة كهانا ويدوس عليها وهو "الأحمد" ينتصر لإنجيل المسيح، فيثور كهانيون ويتوعدون ويغتاظ بعض من "زملائه" وكثيرون من الثرثارين والعجزة.
والمجلس التشريعي الفلسطيني، وليد أنبوبي سليم من جسد مشوّه. مبخرة انطفأت لترينا كم هشّة هي أمانينا، فلنكن واقعيين وعندها فلنطلب المستحيل.
إلى فلسطين سآخذكم (فلبلادي دائمًا أعود) فهنا ما زالت تنشر تصريحات على لسان شخصيات فلسطينية وقادة، يشجبُ مطلقوها تشريعًا إسرائيليًا حديثًا يستهدف أعضاء المجلس التشريعي الفلسطيني الذين انتخبوا في حينه ضمن قائمة "الإصلاح والتغيير"، حتى بعد تغيير اسم الكتلة وتسميتها "بالأعضاء المسلمين" أو بمسميّات جديدة.
للحقيقة لم أفلح بفهم ما وراء هذه التصريحات الشاجبة، فان استبعدنا أهمية التعبير عن التضامن العام بين زملاء المؤسسة الواحدة، أو بين مناضلين في نفس الخندق، لن يتبقى أي معنى وقيمة لتصريح العديدين من قادة الفصائل الفلسطينية، وآخرهم  كان الأمين العام لحزب الشعب الفلسطيني الصديق بسام الصالحي، وهو يؤكد شجبه للخطوة الإسرائيلية المذكورة ويندد ويحث برلمانات العالم ويطالبها بالتدخل لزجر إسرائيل ووقف تماديها وقمعها.
لا غضاضة في الشجب ولكن للقضية فصولًا طُويت وتبعاتٍ ما زالت على المحك.
ما أثار هذه القضية في هذه الأيام، برأيي، هو الإفراج عن مجموعة من السادة النواب وعلى رأسهم معالي الدكتور عزيز دويك، الرئيس المنتخب للمجلس التشريعي، ومن جهة أخرى تعديل في أنظمة الطوارئ وإدراج أسماء تنظيمات جديدة والإعلان عنها كمحظورة ومنها، كما قلنا، ما قد ينطبق على السادة النواب الإسلاميين. فملاحقة نواب المجلس التشريعي المنتخبين ضمن قائمة الإصلاح والتغيير بتهمة تماثل هذه القائمة مع تنظيم "حماس" هي قضية قديمة، بدأت باعتقال العشرات من النواب والوزراء بعيد اختطاف الجندي شاليط في العام ٢٠٠٦. اعتقلتهم إسرائيل وقدّمتهم متهمين بثلاث تهم نسبت إليهم وهي عضوية ونشاط وإشغال منصب في تنظيم محظور. وكان القصد، طبعًا انتخابهم القانوني في قائمة الإصلاح والتغيير التي اتهمتها إسرائيل، يا للعجب!، بالتماثل مع تنظيم "حماس".
في حينه احتج من احتج وأعرض من أعرض وابتهج من ابتهج. أمّا الأهم يبقى، باعتقادي، متعلّقًا بكيفية إدارة تلك الأزمة من قبل ضحاياها ومردود ذلك على ما يجري اليوم. فمع بداية حملة الاعتقالات اتخذت حكومة فلسطين في تلك الفترة وقياديو البرلمان الفلسطيني من أعضاء قائمة "الإصلاح والتغيير" غير المعتقلين (في غزة وفي الضفة) قرارًا يلزم جميع القياديين المعتقلين بعدم الاعتراف بقانونية اعتقالهم وبعدم شرعية إجراءات التحقيق معهم وبوجوب رفض جميعهم لصلاحية المحاكم العسكرية وإلزامهم بعدم التعاون مع تلك المحاكم ولا بأي شكل من الأشكال.
في حينه أقيمت هيئة قانونية للدفاع عن جميع النواب والوزراء وعيّنتُ رئيسًا لطاقم الدفاع وفوّضتُ أن أنقل القرار أعلاه لجميع المعتقلين وهكذا فعلت. (بعد حين ولاختلاف الرأي اعتزلت مهمتي في هذه اللجنة).
من الواضح أن القضية كانت سياسية بامتياز وما أسمته إسرائيل لوائح اتهام كانت بالحقيقة اعتداءات صارخة على الشرعية الفلسطينية وإرادة الشعب الحرة الممارسة بانتخابات ديمقراطية وبمراقبة أمم العالم التي أقرت بنزاهتها وصحة ما أفرزته من نتائج. مع هذا، بعض المستشارين، عن جهل وسوء تجربة، أساؤوا تقدير المعاني السياسية لما يجري، من جهة، وبعض النواب أبدوا ضحالة سياسية وضعفًا من جهة أخرى، فأهملت القرارات السياسية الهامة وتصدّرت الفردية وبدأت تتساقط المواقف وكل "متّهم" بدأ يفتّش عن أهون الحلول وأقصرها ففتحت أبواب النيابات العسكرية.
عاد القديم لقديمه: نظام ودولة شرّعت قوانين وعرَّفت الجريمة وحدَّدت العقاب. متَّهمون يفاوضون من أجل عدْلِ محتلٍ وفرج. جميعهم أدينوا وبعضهم، من خلال صفقات، اعترفوا "بالتهم" فسجنوا راضين مرضيين.
ما يجري في هذه المسألة اليوم هو وليدُ ذلك القصور. إسرائيل تتابع ضرباتها وتبقى هي صاحبة الفعل ونحن نتابع شجبنا واستنكارنا ونبقى نتخبط ونبحث عن ردة الفعل.
أكتب لا لأنكأ جرحًا اندمل، إن اعتقد البعض أنّه اندمل، بل لقراءة ما يجري، وحتى يتسنى لنا ذلك علينا تقييم ما جرى، فمع تعديل قوائم الإرهاب الإسرائيلية وإضافة العشرات من التشكيلات المحلية الجديدة والمتغيّرة تقوم إسرائيل بخطوات من الجائز أن يكون لها أبعاد سياسية لن تصب في صالح الوحدة الفلسطينية المرجوة؛ فالإفراج مؤخرًا عن عشرات من المعتقلين الإداريين، عدا عن كونه استحقاقًا إنسانيًا وواجبًا، يحتمل من المعاني والفرضيات السياسية احتمالات أخرى تبقيها إسرائيل أسيرة مخططاتها التي استهدفت دائمًا وحدة ومصلحة الشعب الفلسطيني.
"كن واقعيا واطلب المستحيل"، نسَبَ العالم هذه المقولة لأرنيستو تشي جيفارا، الثائر الذي لا يموت وسيد الرومانسيّة الحمراء. تحميل هذه المقولةِ على جناحَي حالمٍ أوفى وأجدى لها، حتى وإن عاشها أجدادنا أهوالًا ومعاناة في زمن "السفربرلك"، فبقوا هم وغاب السلاطين، ومارسها آباؤنا، عنادًا وحنكة، فسلموا من نزوحٍ ومن رفق جمعيّات الغوث ووكالات العطف المعلب كالجبنة ولحمة "البوليبيف" !
كن واقعيًا، نعم يا رفيقي. فبيِّن أين الصواب وأين الخطأ؟. مستحيل أن نهزم احتلالًا يعرف عنّا وعن واقعنا أكثر مما نتجرَّأ نحن أن نعرف. فالجرأة شرط الحرية، ممارستها بشكل انتقائي هي الوجه الآخر للجبن وهو مقدمة جميع الهزائم.

CONVERSATION

0 comments: