عهداً لك أخي الشهيد فؤاد/ د. مصطفى يوسف اللداوي

في مثل هذا اليوم قبل تسع سنواتٍ، ارتقى إلى العلى أخي فؤاد شهيداً، ليلحق بركب الأنبياء والصديقين والشهداء في مقعد صدقٍ عند مليكٍ مقتدر، وقد اختاره الله بعين رعايته من بين إخوته وأخواته الإثني عشر، ليكون هو الشهيد المنتقى، والشفيع المرتقب، وصاحب الحظوة والرفعة والمكانة، ولتكون له الصدارة من بيننا، والقدر العالي والمقام الرفيع المميز عنا، وقد كان حالماً بالشهادة متمنياً لها، وساعياً من أجلها، صدق الله مقصده فأناله مأربه، وحقق له غايته، واتخذه دون غيره شهيداً.

إنه فؤاد السابق في الجهاد والمقاومة، الشاب الجلد النشط، المتأخر بين إخوانه سناً، والمتقدم مكانةً ورفعةً، الذي حول خزائنه إلى مخازن سلاح، وأحال حقائبه إلى مستودعات ذخائر، وجعل كل أثوابه عسكرية، وكل ألعابه وهوياته قتالاً ومقاومة، فما تميز في شئٍ كتميزه في جمع السلاح واقتناء المتفجرات، قد استشهد في مثل هذا اليوم وهو العائد للتو من جولة صباحيةٍ دك فيها وإخوانه المستوطنات الإسرائيلية بصواريخ المقاومة التي أثمرت من بعده خيراً، وحققت ما كانت ترجو وتتطلع، إذ انسحب الاحتلال الإسرائيلي من قطاع غزة، وتخلى عن مستوطناته فيه، وفكك قواعده ومعسكراته، وترك عملاءه وأعوانه، ورحل في جوف الليل لا يلوي على شئٍ سوى النجاة من الموت، والسلامة من الإصابة والملاحقة، فقد كان له رجال المقاومة بالمرصاد، يتعقبون جنوده، ويلاحقون قوافله، ويفجرون سياراته وآلياته، ويطلقون عليه نيران أسلحتهم من كل مكان، تصطادهم وتنال منهم، وتزهق أرواحهم كأنفاس ذبابٍ يختنق فيتساقط، وكجرذانٍ مذعورةٍ أدركت منيتها، وشعرت بمقتلها، فهربت مسعورة، تدور في مكانها كدوران فأرٍ في مصيدة، فما ضاعت دماء الشهداء هدراً، ولا ذهبت جهودهم وتضحياتهم أدراج الرياح، فقد بارك الله فيها حريةً وتحريراً وعزةً وكرامة، ما زلنا نتفيأ ظلالها، ونعيش أيامها، ونتطلع لمثلها في أرضنا العزيزة، في الضفة الغربية والقدس وعموم فلسطين كلها، فما أضعف الصاروخ الذي أصاب أخي المقاومة، ولا أسكت فوهات البنادق، ولا أوهن عزائم الرجال، ولا قلل من عزم المقاومين، وتدافع المجاهدين، بل جاءت من بعده أفواجٌ مقاتلة وكتائبٌ مقاومة، أوهنت العدو وأوجعته، ونالت منه وأربكته، وحققت ما كانت تأمل وتتمنى، وحمل الراية من بعدهم رجالٌ أخلصوا الله نواياهم وأعمالهم، فبارك في أعمارهم وعظم جهودهم، وحقق على أيديهم ما عجزت جيوشٌ قبلهم على تحقيقها.

لك أخي فؤاد وأنت بين يدي الله الأعظم، وروحك في قنديل معلقٍ تحت عرش الرحمن الأكرم، عهد الشهداء المقدس، وميثاق النبيين الأشرف، أن نكون وأهلك وإخوانك الذين تركتهم من بعدك وأنت منهم الأغر على العهد، لا نلين ولا نستكين، ولا نضعف ولا نتردد، ولا نهادن ولا نسالم، ولا نقيل ولا نستقيل، ولا نغير ولا نبدل، ولا ننحرف ولا نضل، ولا نتخلى ولا نستسلم، وأن يبقى نهجنا المقاومة، وسبيلنا الجهاد، وطريقنا ذات الشوكة مهما كانت موجعة، وألا نلتفت إلى دنيا زائفة، ولا إلى بريقٍ أخاذ، ونعاهدك وإخوانك الشهداء أن تكونوا لنا مثالاً يحتذى، ونموذجاً يقتدى، نسير على دربكم، ونقلد جهادكم، ولا نحيد عن أهدافكم، ولا نتخلى عن الغاية التي قاتلتم من أجلها، وضحيتم بأرواحكم دونها.

لست وحدك أخي فؤاد من استشهد وارتقى بروحه إلى الجنان، ونال بدمه رضا الرحمن، وصادق في جنان الخلد النبيين والصديقين والشهداء، ولكننا بك نزهو ونفخر، وبشهادتك نتيه ونفخر، فأنت في الجنةِ فرطُنا، وعند الله شفيعنا، ويوم الحساب في ميزان أعمالنا، تستنقذ أهلك، وتشفع لأبويك، وتأخذ بيد إخوانك وأخواتك فتتجاوز بهم الصراط، وتعبر بهم إلى الجنة رائداً لهم، إذ لك تفتح الأبواب، ومن أجلك تتحات الذنوب، ويهون الحساب، ويسقط العقاب، فقد وعدك الله أن تكون شفيعنا ورائدنا وسابقنا، فطوبى لنا بك، وهنيئاً لأمك التي أنجبتك، وحبست دموعها وهي تنظر إليك شهيداً مسجى، فما بكتك وأنت بقايا جسد، وما جزعت عليك وقد حرَّق الصاروخ جسدك، جمعك الله أخي فؤاد بأبيك الذي سبقك، وأخيك الذي يتطلع إلى مكرمتك، وأملنا أن تستقبلنا بين يدي الله، فتقرع بيديك المضرجة بالدماء أبواب الجنة لندخلها وإياك لله شاكرين وله ساجدين.

لست وحدك أخي فؤاد شهيداً، فكثيرٌ من أبناء أمتنا الإسلامية وشعبنا الفلسطيني الذين مضوا على الدرب، وسبقوا على النهج، فكانوا سابقين في الشهادة، متقدمين في التضحية، متنافسين أيهم ينال الشهادة، فلا يكاد يخلو بيتٌ فلسطيني من شهيدٍ، كما لا يخلو من أسيرٍ أو جريح، فشعبنا كله شعبٌ مجاهدٌ مقاتل، قد ضحى بالأعز والأنفس، وبالأغلى والأعظم، من أجل أن يحرر أرضه، ويستعيد حقه، ويعود أهله إلى أرضه ووطنه، وقد نلنا بعض ما أراد الشهداء، وسيكون لنا من بعدهم ما تقر به عيونهم، وترتاح إليه قلوبهم، وترضى به نفوسهم، وستغدو أرضهم حرة، وبلادهم عزيزة، ورايات شعبهم مرفوعة، وأعلام بلادهم خفاقة، وسيندحر العدو عن أرضنا، وسيرحل عن بلادنا، مهما طال الزمن وتأخر النصر، فهذا وعد الله الخالد لنا بالنصر المبين والعز المكين.

أعلم أخي فؤاد أنك وكل الشهداء السابقين واللاحقين أحياءٌ عند الله ترزقون، تتابعون وتلاحظون، ترون وتسمعون، تشاهدون ما يجري، وتتابعون ما يقع، وترنون بعيونكم إلى أهلكم وشعبكم، وتشفقون عليه من عدوكم، وتحزنون عليه لما أصابه من بعض أهلكم، وتتطلعون إلى اليوم الذي يتخلص فيه شعبكم من عدوه، ويحرر أرضه، ويستعيد عزته وكرامته، ولكني أعلم أن حزنكم على ما أصاب شعبكم من فرقةٍ وخلاف، وانقسامٍ واقتتال أكبر بكثير مما نالهم من عدوهم، وأعلم أن قلوبكم على أهلكم جزعة، ونفوسكم لما أصابهم مكلومة، ولسان حالكم يخاطب القائمين على الفرقة والاختلاف، تصرخون في وجوههم أن كفى احتراباً، وكفاكم إساءةً إلى شعبكم، وإضراراً بمصالحه، واستهانةً بمعاناته، وهدراً لطاقاته وجنوده، فيسروا الحوار، وأزيلوا العقبات، وكونوا لبعضكم إخواناً سمحين، ولقضيتكم جنوداً مخلصين، ولشهدائكم أوفياءً بارين، سلام الله عليك أخي الشهيد فؤاد، وسلام الله عليكم أيها الشهداء الأجلاء، سلام الله عليكم في الخالدين.


CONVERSATION

0 comments: