غزة في الظلام خرجت، ورغم الحصار احتفلت، عضت على جرحها وابتهجت، غنت ملء حنجرتها ورفعت بالصوت عقيرتها، زغردت نساؤها وهاهت عجائزها، وصدحت مآذنها، وكبرت مساجدها، وطاف في شوارعها رجالها بسياراتهم، وعلى أقدامهم زحفاً، يرقصون ويدبكون ويهللون ويرفعون الأعلام المصرية، وصور الرئيس القادم من بين صفوف الشعب، فما أقعدهم الحزن، ولا شل حركتهم الدم، ولا أخافتهم أصوات الطائرات، ولا وقع الصواريخ وهي تقصف أطرافه، وتمزق أشلاءه، فقد قررت غزة أن تحتفي بالفارس المعقود عليه الأمل، وقد طال الليل الذي سبقه، وأرخى سدوله الظلماء على أهله سنيناً، فها قد امتطى مرسي صهوة جواده، وانبرى من بين أقرانه، ليكون رئيساً لأم الدنيا وسيدة العرب، التي نروم غضبتها، ونتطلع إلى نصرتها، وترنو عيوننا وقلوبنا إلى مواقفها، لتعود مصر أرض الكنانة، تضرب بسوطها من ظلمنا، وتصد بعزتها من يفكر بالاعتداء علينا.
لا تقل فرحة سكان قطاع غزة عن فرحة المصريين جميعاً من مؤيدي الرئيس المصري الجديد محمد مرسي، بل لعل فرحتهم بإعلان فوزه تضاهي فرحة المصريين السعداء بذهاب الكابوس واستعادة الأمل، إنها فرحة اليتيم الذي عاد إليه أبوه، وسعادة الضعيف الذي انكسر ظهره فعاد إليه ولده، إنها فرحة الغريق الذي امتدت إليه يدٌ قوية لتنتشله، إنها فرحة القوم الذين أدركهم السبي فانشق عليهم الجبل بفارسٍ أعاد إليهم الأمل الذي كاد أن يذوي، فقوى عزائمهم، وشحذ هممهم، وشد من عزيمتهم.
أحال سكان غزة في جوف الليل قطاعهم إلى ميدان تحريرٍ فلسطيني، ترتفع فيه أعلام مصر وصور رئيسها الجديد، واجتمع فيه الشيوخ والشباب والنساء والأطفال، والقادة والمسؤولون، والمقاتلون والمرابطون، كلٌ يبدي فرحته، ويعبر عن سعادته، يوزعون الحلوى، وينثرون الأرز، ويتبادلون التهاني، وعلى وجوههم تظهر الفرحة، وعلى شفاههم ترتسم الابتسامة، فالرئيس الجديد رئيسهم، وأمره يهمهم، فهم جزءٌ من مصر وأهلها، سكناً وإقامة، قرابةً وصهراً، لهجةً ولساناً، ثقافةً وتعليماً، هوىً ومحبة، مودةً وتعلق، ماضٍ وتاريخ، وحاضراً ومستقبلاً، أفلا يفرحون له وبه وهو الذي يعد باسم المصريين الطيبين الصادقين أنه لن ينسى غزة ومعاناتها، ولن يسكت عن ظلمها وحصارها، ولن يقبل بالإغارة عليها من جديد، وأنه لن يتركها وحيدةً ضعيفة، يتغول عليها العدو وبها ينفرد، فلن تكون غزة بعد اليوم وحيدة أو يتيمة، وستغدو قوية كما لم تكن قبل اليوم ضعيفة.
كما كانت غزة حاضرة في الانتخابات المصرية، وحبست أنفاسها خلال فترة الانتخابات، وكادت تختنق قبل إعلان النتيجة، وأثناء الجدل الذي دار في الأوساط المصرية حول هوية الفائز بمنصب الرئيس في مصر، فقد كانت تخشى عودة سجانها، وأحد جلاديها، ومن وافق على حصارها، وسكت على ظلمها، وتآمر مع عدوها، إذ كان البديل المرشح هو وريث النظام وأحد أركانه الذي شارك في جريمة حصار قطاع غزة، وساند الاحتلال الإسرائيلي في عدوانه عليه، وسكت على ظلمه واعتدائه على سكانه، وعلى استهدافه لأهله ورجاله.
لكن الله سلم وقدر لهذه الأمة رجلاً آخر، وقيادة جديدة، هي بالتأكيد والضرورة مختلفة عمن سبقها، وسيكون لها أثرها الجديد وفعلها المغاير الذي نأمل ونرجو، وهو الذي يتناسب مع عظمة مصر وتاريخها، وحجم تضحياتها وعطاءاتها، وعمق حضارتها وأصالة دورها، فمصر أعظم من أن تذل، وأكبر من أن تصغر، وأقدس من أن تهان، وأكرم من أن تساق، وأقوى من أن تخضع، وأعز من أن تستسلم وتخنع، وأنبل من أن تسكت على ظلم، وأشهم من أن ترضى بضيم، وأشجع من أن تجبن عن الرد أو تتراجع عن الصد، فلا يقودها إلا عظيم، ولا يسوسها إلا عزيز، ولا يعتلي سدة رئاستها إلا من كان كعمروٍ أو صلاح الدين.
وصل أخيراً محمد مرسي إلى سدة الرئاسة في مصر، وأصبح رئيس أكبر دولةٍ عربية، منتخباً من قبل الشعب، مختاراً من بين الناس، ومفضلاً من بين المرشحين، وهو الذي كان للتو رهين السجون، وحبيس الجدران، يقبع خلف قضبان البغي والظلم والاضطهاد، يعاني من عسف الجلاد وطغيان السلطان، فها هو يكسر القضبان، ويحطم الأسوار، ويفتح أبواب الزنازين ليخرج غيره من الرجال، وينطلق على صهوة جواد مصر الأشهب نحو الأهداف العليا التي نادى بها وحزبه، فأيده فيها المصريون ونخبهم السياسية والفكرية.
فلا ينسانا مرسي وقد أصبح الرئيس، ولا يهملنا وقد صار الأول، ولا يقايض علينا وقد غدا عزيز مصر، فعيون الفلسطينيين وأولهم سكان قطاع غزة يتطلعون إليه، ويأملون فيه، فليكن التخفيف عن إخوانك في غزة من أول قراراتك، وباكورة أعمالك، فسيحفظ لك التاريخ أنك أول من حطم باستيل النظام البائد، وغيتو المتآمرين على أمتنا، إذ كان قطاع غزة في عهد السابقين باستيلاً كبيراً وسجناً عاماً، وعزلاً عنصرياً مقيتاً، فيه قرابة المليوني سجينٍ ومعزول، فحطم أيها الرئيس القادم باستيل إسرائيل ومبارك، وافتح المعبر لأهلك، وأنر بيوت غزة بنور مصر، وأمدها بالكهرباء الذي يضيئ ليلها، ويحيي نفوس أهلها، التي أضنتها العتمة، وأوهت عزيمتها الحرارة، وأوجعها ألم نقص الدواء وعجز العلاج.
قُدْ أيها الرئيس بنفسك قوافل الإغاثة لأبناء أمتك، ويسر على المرضى علاجهم، وسهل على الغائبين عودتهم، واجمع شمل المشتتين، ووحد جمع المتفرقين، وقم أيها الرئيس القادم بتمزيق قوائم المدرجين، وإلغاء أسماء الممنوعين، وأغلق حجز مطار القاهرة، وامنع نقل الواصلين منه أو إليه بالسيارات العسكرية من وإلى المعبر ، فنحن أهلك، وسكان غزة ربعك، نحبك ونحب مصر، ونخاف عليك وعلى أمن مصر، فهذا اليوم يومك، وهذا الفعل ينتظرك، فعجل بقراراتك التي ننتظر ولا تتأخر، فقد والله أصابنا السقم، وحل بنا البؤس، ونزل بنا الشقاء، واعتورنا التعب، ونال منا الجهد منالاً عظيماً، فعجل رعاك الله بفتح ما انغلق، وتحرير من انحبس، وتيسير من تعطلت مصالحه، وتعقدت مشاغله، وأرسل إلى العالمين رسائل مصرية، تخيف وترهب، وتحذر وتتوعد، بأن فلسطين وشعبها جيران مصر، لهم عليها حق النصرة والإجارة، تقاتلون من قاتلهم، وتعادون من يعتدي عليهم، وتنتصرون لهم إذا دعوكم للنصرة وسألوكم العون والمدد والمساعدة.
0 comments:
إرسال تعليق