"يتعلق الأمر إذن بإيجاد شيء له هذه الكثافة والوضعية التاريخية وهو من نظام القوة وليس من نظام القانون، وهو من نظام التوازن وليس من نظام الكتابة"[1]
لعل الغرض الأول من هذه التجربة التفكيرية هو البحث عن المغزى الفلسفي من كتابة الدستور في المنعطف السياسي الذي يمر به المجتمع المدني والوسيلة الهرمينوطيقية التي نستعملها في ذلك هو نص مطول للفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو من كتابه: يجب الدفاع عن المجتمع، وهو عبارة عن دروس كان قد ألقاها في الكوليج دي فرنس يوم 3 مارس 1976 بعنوان "الدستور والثورة والتاريخ الدائري"[2].وعلى الرغم من أن السياق الذي ورد فيه النص مختلف ويتعلق بنزاع معين ومعركة سياسية جرت في القرن الثامن عشر ميلادي وبالرغم من الأهداف السياسية المرجوة منه قد تجاوزتها الصيرورة التاريخية إلا أن ذلك لا يمنع استعمالنا لبعض المفاهيم والرؤى النقدية التي وردت فيه والتعامل بايجابية مع مضامينه في علاقة بلحظتنا الراهنة.
الثلاثية المشهورة التي يركز عليها ميشيل فوكو تحليله للوضعية السياسية للثورة هي الكلام والعمل والحياة. الأولى هي الظاهرة اللغة في علاقة بالأمة والهوية والثانية هي الهيمنة في علاقة بالطبقات الاجتماعية والمعارك التي تنجر عن الاقتصاد السياسي والثالثة هي الاشكالية البيولوجية وتركز على العرق والانتقاء وتستعمل تكتيك الخطاب التاريخي وسلطة المعرفة. الاشكال الذي نطرحه هنا اثناء مساءلتنا لهذا النص هو: ما الحاجة الى دستور بعد كل ثورة اجتماعية أو انتقال سياسي؟ وماهي مبررات وضعه؟ ومن هو المخول له وضع الدستور؟ وهل يتعلق الأمر بتنظيم الشكل المشترك للمعركة السياسية أم بإضفاء المعقولية على التغيرات والتحولات التاريخية ؟ هل يعيد الدستور المقترح تنظيم علاقات القوة في المجتمع وتوزيع السلطة على أسس جديدة أم يستأنف الخط الاستراتيجي لكل المعارك بين المتخاصمين في الحق السياسي؟ ألا يفضي بنا ذلك الى الوقوع في تعميم خطاب التاريخ وتعميم الصراعات؟
والحق أن اللحظة التاريخية التي نمر بها تجعل المشهد السياسي يتكون من حسابات سياسية انتخابية تتعلق بحرب المواقع واقتصاد السلطة والمنفعة المادية ومن تحالفات طبيعية على أساس التقارب الفكري والالتقاء الموضوعي ونوايا أخلاقية طهرية عند قوى تجنح نحو العفو والصفح والمصالحة ومن رهانات ايديولوجية غير معلنة وتصفية حسابات ورغبات منسية في المواجهة وأشكال انتقام مخفية. لقد حدث انقسام أخلاقي في التاريخ بين المجموعات السياسية والطبقات بين القديم والجديد وبين الثوري الجديد والراكب على الثورة ولذلك يجدر بنا اعادة رسم الخط الاستراتيجي بين الفرقاء ومواصلة تكتيكات المواجهة بأساليب غير عنفية وطرق مشروعة.
بناء على ذلك تكون الحاجة الى وضع دستور مسوغة من الناحية التاريخية والمنطقية والأخلاقية ولذلك من أجل اكتشاف مبادىء القانون المشترك بالنسبة الى الأمة وإعطاءها الصرامة اللازمة وقابلية التطبيق والاحترام من طرف المواطنين وبغية تعريف السياسة بوصفها فعل الحرب بطرق ديبلوماسية والحيلولة دون الموت العنيف والمباشر للبشر. لكن الدستور هو سن جملة من القوانين تعمل على اقامة الانسجام والتوازن والتوافق والتناسق في العلاقات بين الأفراد؟
يرى ميشيل فوكو أن الدستور هو "النقطة المؤسسة" أو "اللحظة التأسيسية" وهي لحظة فارقة في تاريخ "الجماعة السياسية" ينقلها من "زمن التوحش" الى "زمن التمدن" ويرفض بالتالي أن يكون الدستور هو مجموعة القوانين التي تم تشكيلها من طرف هيئة او مجلس او مجموعة خبراء في لحظة تاريخية معينة ويرفض كذلك أن يكون الدستور حصيلة اتفاقية قانونية مؤسسة بين الحاكم والمحكومين حصلت في زمن قديم ويتم الابقاء على صلوحيتها والمحافظة على الميثاق.
ما يهم في المشروع التحليلي لعقلانية التاريخ عند فوكو ليس العنصر الأول والثاني أي استئناف الخط الاستراتيجي ورسم خط التقسيمات الأخلاقية بل العنصر الثالث وهو اعتبار لحظة كتابة الدستور بمثابة "اعادة تأسيس استقامة شيء يمكن أن نسميه النقطة المؤسسة للسياسة والتاريخ"[3]. فكيف يكون ذلك ممكنا؟ وكيف يكون الدستور حصيلة انكسار في التاريخ من جهة ونصا متعاليا عليه من جهة أخرى؟ لماذا نستعمل التاريخ لكتابة الدستور ونؤمن بعلوية الدستور على التاريخ؟
يحاول فوكو أن يفهم فكرة الدستور كما وردت في الأدبيات التاريخية والسياسية بطريقة تختلف جذريا عن رؤية رجال القانون ووعاظ الأخلاق ويسترشد بالتصور الطبي والمفهوم العسكري. فيعلن : "لن يكون الدستور مجرد هيكل قانون أو مجموعة من القوانين ولكن علاقات قوة، ومن البين أن هذه العلاقات لا يمكن اقامتها او تأسيسها من العدم...(بل) عندما يكون هنالك شيء مثل الحركة الدائرية للتاريخ ....شيء يمكن أن يحرك التاريخ حول نفسه ويعيده الى نقطة بدايته"[4].
من نافل القول أن يكون هذا الشيء الذي يحرك التاريخ ويعيده الى نقطة الصفر ويعلن لحظة الولادة والبدء الجديد هو الثورة وذلك ضمن فلسفة التاريخ الدائري تؤمن بالانفصال والانكسار ومرور الحضارات والدول والمجتمعات بثلاثة لحظات دائرية وهي التشكل والازدهار والتقهقر.
في البداية يفهم فوكو مثلما يفهمه الأطباء ويرفض التماثل الثابت والتوافق المتساوي الذي يبحث عنه القانوني ويقترح علاقات قوة بين الخير والشر وبين المنفعة والضرر والربح والخسارة بلغة حربية عسكرية ويبحث عن التوازن بين المتخاصمين وفق لعبة التناسب بين المتنافسين. كما يطمح الدستور الى تكثيف وإقامة علاقات قوة أساسية تكون كفيلة بمنع النزاعات وإحلال السلم.
" يتعلق الأمر بوضع دستور يكون مقبولا ليس بإقامة القوانين القديمة، ولكن بشيء سيكون ثورة القوى- ثورة بمعنى الانتقال من اليل الى النهار ومن النقطة السفلى الى النقطة العليا"[5]. وهذا المطلب لن يتحقق إلا بالعزوف عن القوانين القديمة سواء أكنت اللاهوتية او الوضعية والكف عن التأسيس النهائي للقوانين المستعادة في وضح النهار والنظام المتفق عليه والمزاوجة بين التصور الخاص بالثورة ومطالبها والتصور الدستوري الوليد المختلف من رحم التحولات.
هكذا توجد ثلاثة شروط لامتلاك الدستور حق الأهلية والمشروعية التأسيسية وتتمثل في الكثافة والثراء واللاّنفاذية في علاقة باللحظة التاريخية والرضا العام من قبل المجموعات في علاقة بتوازن القوى والخيرية والحقيقية في علاقة باحترام النزعة الطبيعية وتبني السياسة الحيوية.
هكذا لا ينبغي أن نبحث عن النقطة التأسيسية في القانون ونناهض الطبيعة بل نحي صوت الطبيعة بوصفها نور الشمس الذي يضيء الأرض ويبعث الأمل والحياة في الجسد الاجتماعي[6]. فكيف يعمل الدستور على تأسيس نظام سياسي يحافظ على حياة الناس ويسمح لهم بفائض من الحرية؟ وأليس بالتوازن والتبادل في الثروات والقوانين بين الناس تتأسس السيادة والمواطنة؟
لعل الغرض الأول من هذه التجربة التفكيرية هو البحث عن المغزى الفلسفي من كتابة الدستور في المنعطف السياسي الذي يمر به المجتمع المدني والوسيلة الهرمينوطيقية التي نستعملها في ذلك هو نص مطول للفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو من كتابه: يجب الدفاع عن المجتمع، وهو عبارة عن دروس كان قد ألقاها في الكوليج دي فرنس يوم 3 مارس 1976 بعنوان "الدستور والثورة والتاريخ الدائري"[2].وعلى الرغم من أن السياق الذي ورد فيه النص مختلف ويتعلق بنزاع معين ومعركة سياسية جرت في القرن الثامن عشر ميلادي وبالرغم من الأهداف السياسية المرجوة منه قد تجاوزتها الصيرورة التاريخية إلا أن ذلك لا يمنع استعمالنا لبعض المفاهيم والرؤى النقدية التي وردت فيه والتعامل بايجابية مع مضامينه في علاقة بلحظتنا الراهنة.
الثلاثية المشهورة التي يركز عليها ميشيل فوكو تحليله للوضعية السياسية للثورة هي الكلام والعمل والحياة. الأولى هي الظاهرة اللغة في علاقة بالأمة والهوية والثانية هي الهيمنة في علاقة بالطبقات الاجتماعية والمعارك التي تنجر عن الاقتصاد السياسي والثالثة هي الاشكالية البيولوجية وتركز على العرق والانتقاء وتستعمل تكتيك الخطاب التاريخي وسلطة المعرفة. الاشكال الذي نطرحه هنا اثناء مساءلتنا لهذا النص هو: ما الحاجة الى دستور بعد كل ثورة اجتماعية أو انتقال سياسي؟ وماهي مبررات وضعه؟ ومن هو المخول له وضع الدستور؟ وهل يتعلق الأمر بتنظيم الشكل المشترك للمعركة السياسية أم بإضفاء المعقولية على التغيرات والتحولات التاريخية ؟ هل يعيد الدستور المقترح تنظيم علاقات القوة في المجتمع وتوزيع السلطة على أسس جديدة أم يستأنف الخط الاستراتيجي لكل المعارك بين المتخاصمين في الحق السياسي؟ ألا يفضي بنا ذلك الى الوقوع في تعميم خطاب التاريخ وتعميم الصراعات؟
والحق أن اللحظة التاريخية التي نمر بها تجعل المشهد السياسي يتكون من حسابات سياسية انتخابية تتعلق بحرب المواقع واقتصاد السلطة والمنفعة المادية ومن تحالفات طبيعية على أساس التقارب الفكري والالتقاء الموضوعي ونوايا أخلاقية طهرية عند قوى تجنح نحو العفو والصفح والمصالحة ومن رهانات ايديولوجية غير معلنة وتصفية حسابات ورغبات منسية في المواجهة وأشكال انتقام مخفية. لقد حدث انقسام أخلاقي في التاريخ بين المجموعات السياسية والطبقات بين القديم والجديد وبين الثوري الجديد والراكب على الثورة ولذلك يجدر بنا اعادة رسم الخط الاستراتيجي بين الفرقاء ومواصلة تكتيكات المواجهة بأساليب غير عنفية وطرق مشروعة.
بناء على ذلك تكون الحاجة الى وضع دستور مسوغة من الناحية التاريخية والمنطقية والأخلاقية ولذلك من أجل اكتشاف مبادىء القانون المشترك بالنسبة الى الأمة وإعطاءها الصرامة اللازمة وقابلية التطبيق والاحترام من طرف المواطنين وبغية تعريف السياسة بوصفها فعل الحرب بطرق ديبلوماسية والحيلولة دون الموت العنيف والمباشر للبشر. لكن الدستور هو سن جملة من القوانين تعمل على اقامة الانسجام والتوازن والتوافق والتناسق في العلاقات بين الأفراد؟
يرى ميشيل فوكو أن الدستور هو "النقطة المؤسسة" أو "اللحظة التأسيسية" وهي لحظة فارقة في تاريخ "الجماعة السياسية" ينقلها من "زمن التوحش" الى "زمن التمدن" ويرفض بالتالي أن يكون الدستور هو مجموعة القوانين التي تم تشكيلها من طرف هيئة او مجلس او مجموعة خبراء في لحظة تاريخية معينة ويرفض كذلك أن يكون الدستور حصيلة اتفاقية قانونية مؤسسة بين الحاكم والمحكومين حصلت في زمن قديم ويتم الابقاء على صلوحيتها والمحافظة على الميثاق.
ما يهم في المشروع التحليلي لعقلانية التاريخ عند فوكو ليس العنصر الأول والثاني أي استئناف الخط الاستراتيجي ورسم خط التقسيمات الأخلاقية بل العنصر الثالث وهو اعتبار لحظة كتابة الدستور بمثابة "اعادة تأسيس استقامة شيء يمكن أن نسميه النقطة المؤسسة للسياسة والتاريخ"[3]. فكيف يكون ذلك ممكنا؟ وكيف يكون الدستور حصيلة انكسار في التاريخ من جهة ونصا متعاليا عليه من جهة أخرى؟ لماذا نستعمل التاريخ لكتابة الدستور ونؤمن بعلوية الدستور على التاريخ؟
يحاول فوكو أن يفهم فكرة الدستور كما وردت في الأدبيات التاريخية والسياسية بطريقة تختلف جذريا عن رؤية رجال القانون ووعاظ الأخلاق ويسترشد بالتصور الطبي والمفهوم العسكري. فيعلن : "لن يكون الدستور مجرد هيكل قانون أو مجموعة من القوانين ولكن علاقات قوة، ومن البين أن هذه العلاقات لا يمكن اقامتها او تأسيسها من العدم...(بل) عندما يكون هنالك شيء مثل الحركة الدائرية للتاريخ ....شيء يمكن أن يحرك التاريخ حول نفسه ويعيده الى نقطة بدايته"[4].
من نافل القول أن يكون هذا الشيء الذي يحرك التاريخ ويعيده الى نقطة الصفر ويعلن لحظة الولادة والبدء الجديد هو الثورة وذلك ضمن فلسفة التاريخ الدائري تؤمن بالانفصال والانكسار ومرور الحضارات والدول والمجتمعات بثلاثة لحظات دائرية وهي التشكل والازدهار والتقهقر.
في البداية يفهم فوكو مثلما يفهمه الأطباء ويرفض التماثل الثابت والتوافق المتساوي الذي يبحث عنه القانوني ويقترح علاقات قوة بين الخير والشر وبين المنفعة والضرر والربح والخسارة بلغة حربية عسكرية ويبحث عن التوازن بين المتخاصمين وفق لعبة التناسب بين المتنافسين. كما يطمح الدستور الى تكثيف وإقامة علاقات قوة أساسية تكون كفيلة بمنع النزاعات وإحلال السلم.
" يتعلق الأمر بوضع دستور يكون مقبولا ليس بإقامة القوانين القديمة، ولكن بشيء سيكون ثورة القوى- ثورة بمعنى الانتقال من اليل الى النهار ومن النقطة السفلى الى النقطة العليا"[5]. وهذا المطلب لن يتحقق إلا بالعزوف عن القوانين القديمة سواء أكنت اللاهوتية او الوضعية والكف عن التأسيس النهائي للقوانين المستعادة في وضح النهار والنظام المتفق عليه والمزاوجة بين التصور الخاص بالثورة ومطالبها والتصور الدستوري الوليد المختلف من رحم التحولات.
هكذا توجد ثلاثة شروط لامتلاك الدستور حق الأهلية والمشروعية التأسيسية وتتمثل في الكثافة والثراء واللاّنفاذية في علاقة باللحظة التاريخية والرضا العام من قبل المجموعات في علاقة بتوازن القوى والخيرية والحقيقية في علاقة باحترام النزعة الطبيعية وتبني السياسة الحيوية.
هكذا لا ينبغي أن نبحث عن النقطة التأسيسية في القانون ونناهض الطبيعة بل نحي صوت الطبيعة بوصفها نور الشمس الذي يضيء الأرض ويبعث الأمل والحياة في الجسد الاجتماعي[6]. فكيف يعمل الدستور على تأسيس نظام سياسي يحافظ على حياة الناس ويسمح لهم بفائض من الحرية؟ وأليس بالتوازن والتبادل في الثروات والقوانين بين الناس تتأسس السيادة والمواطنة؟
المرجع:Michel Foucault, « Il faut défendre la société », édition Gallimard, Paris, 1997
ميشيل فوكو، يجب ىالدفاع عن المجتمع، ترجمة الزاوي بغورة، دار الطليعة، بيروت، الطبعة الأولى، 2003.
[1] ميشيل فوكو، يجب ىالدفاع عن المجتمع، ترجمة الزاوي بغورة، دار الطليعة، بيروت، الطبعة الأولى، 2003، ص.195.
Michel Foucault, « Il faut défendre la société », édition Gallimard, Paris, 1997.
[2] ميشيل فوكو، يجب ىالدفاع عن المجتمع، صص.192-213.
[3] ميشيل فوكو، يجب ىالدفاع عن المجتمع، ص.194.
[4] ميشيل فوكو، يجب ىالدفاع عن المجتمع، ص.195.
[5] ميشيل فوكو، يجب ىالدفاع عن المجتمع، ص.195.
[6] ميشيل فوكو، يجب ىالدفاع عن المجتمع، ص.196.
[1] ميشيل فوكو، يجب ىالدفاع عن المجتمع، ترجمة الزاوي بغورة، دار الطليعة، بيروت، الطبعة الأولى، 2003، ص.195.
Michel Foucault, « Il faut défendre la société », édition Gallimard, Paris, 1997.
[2] ميشيل فوكو، يجب ىالدفاع عن المجتمع، صص.192-213.
[3] ميشيل فوكو، يجب ىالدفاع عن المجتمع، ص.194.
[4] ميشيل فوكو، يجب ىالدفاع عن المجتمع، ص.195.
[5] ميشيل فوكو، يجب ىالدفاع عن المجتمع، ص.195.
[6] ميشيل فوكو، يجب ىالدفاع عن المجتمع، ص.196.
0 comments:
إرسال تعليق