الشبح/ أسعد البصري

الجو في (أوتاوا) بدأ يميل إلى البرودة . الشمس تغرب باكراً . هنا تماماً على هذا الكرسي ألأسود ، تقشّر الجلدُ على مسانده . القلق الذي في راحتي ، قد أحرقه ، بيني وبين النافذة ، ستارة قماش رمادية . الساعة الآن السادسة عصراً ، كُلّما ألقيت رأسي إلى الخلف قفز السؤال ذاته ، كيف استطعت أن تعيش كل تلك السنين يا أسعد ؟ . لا أعرف كيف وصلتُ إلى هنا ، نحن الآن خريف ٢٠١١ م . مع هذا مازلتُ حيّاً ، عدد قليل من الناس يشعر بالخجل من طول الضيافة . إنها أواخر الخريف ، أُزيح الستارة على مهل ، كأنني أتلصّصُ على الحياة . هناك ريح خفيفة ، وأغصان تهتز ، وسيارات واقفة . الساحة الخضراء ، الممتدة أمامي فارغة ، لأن الطلاب قد ذهبوا إلى بيوتهم . المدرسة نائمة الآن . يا للمدارس والأطفال وخرافات المستقبل . أشعر حقاً بطمأنينة ، هناك خلف الملعب مقبرة كاثوليكية كبيرة ، تُحلّقُ فوقها الطيور . نهاية الخريف ، أسمع موزارت ، لكأنني أشربهُ بلا توقّف . لا أعرف مَن أنا . الحياة أوجعتني كثيراً فيما مضى ، أكثر من الطبيعي . الألم قد توقف ، ليس لأن شيئاً قد تحسّن ، بل لأنني فقدت الشعور به . هذه اللحظة التي أقف فيها الآن ، هي ميراث طويل لتجارب و ضجيح استمر لعقود . إنها لحظة تتويج على مملكة ، سوف أفقدها بعد لحظات . دائماً أشعر بأنني قديم ، لا يُمكن لما أراه أن يكون نتيجة عمرٍ واحد . تحوُّلُ الفصول يخبرني بهذه الحقيقة . في عصور قديمة ، كنتُ جالساً بين الخريف والشتاء ، أجمع الحطب ، أطارد الكلاب السائبة . هذه عقائد شخصية ، لا شأن لكم بها . يبقى الإعتراف سيّداً للإبداع ، وليس سيّداً للأدلّة فقط . لن يكون هناك أيُّ دليلٍ على وجودي ، سواك أنت أيها القاريء الحبيب . 

عشر سنوات قضيتها ، في محاولة فاشلة كلفتني حياتي . كان هدفي أن أصبح واحداً من العامة . أنا مُعجبٌ بالإنسان العادي كثيراً . رافقتهم ، تزوجتُ ، و أنجبتُ منهم ، عملتُ ، و تكلّمتُ مثلهم . في النهاية فشلتُ ، ليس لأنني رفضتهم ، بل لأنهم آذوني ، رفضوني . كأنهم يشمون رائحتي . رغم أنني كنتُ أُصغي لآرائهم بآحترام ، و لا أتكلم إلّا كما يتكلّمون . في وقت متأخر قرأت ( بيت الموتى) ل دوستويفسكي و أُصِبتُ بالرعب من حديثه ، عن السّجناء الذين يرفضون السّجين ، إذا كان من طبقة النبلاء ، يُرهقونه ، و يُذلّونه . لحدّ الآن أتصرف كعاشق خائب للإنسان العادي . من الصعب حقاً أن يعتاد الإنسان على الصعوبة . يعرفني الناس ككاتب ، لا أحد يعرفني كإنسان . فكرة ( الشبح ) متعة في البداية فقط . لكنها تتحوّل بمرور الوقت إلى حقيقة . ستشعر بتوجس ، و حذر الآخرين . وبما أنه لا يوجد معيار واضح ، أُغلق النافذة ، لأن البرد جسدُ صديقٍ ميّت . لا يُمكنني الإعتماد على نصرٍ صغير ، حتى أعظم الشعراء يحتاج إلى حسن ظن . الإبداع مهما كان ، يظل مُجرّد احتمال . أغسلُ وجهي بنهرٍ ، حذّرني منه الفلاحون في البساتين المجاورة . أنا أتجاوز كلّ الحدود . بذلتُ كل ما بوسعي لكي لا يُحبّني أحد . لم أُفكّر باللحظة التي يصطادني فيها العطش . لَم أُفكّر بمنظر وجهي على الماء . يا إلهي ! أنا أحدّق في الرّعب ، و أشربه . لا أصلحُ للنفاق ، حتى لو حاولتُ ، لأنّ صدري يتّسع للكثير من الهواء . فإذا نفختُ في شاعرٍ صغير سينفجر . 

بعد كلّ هذا الضجيج ، تبقى الحياة الدنيا ، كما قال أسلافنا . مجرد سجنٍ للعارف بالله . لا أستمد قدرتي على الإستمرار ، إلا من حقيقة كوني نائماً في العدم . مُختبئاً تحت غطاء ، هو عتابي الشخصي مع القدر . عندي فراغ أملأه بدموعي و غضبي . لكن ماذا بعد الآن ؟ ، وقد خرجتُ بسبب النار والدخان . لا أريد أن أكون معروفاً ، أو أخرج من حُفرتي . أنا كائن مُنقرض بعين واحدة . رأسي مثلث ، ولي ثلاثة أرجُل . لقد كشفتُ عنّي الغطاء ، و فضحتُ خِلقتي . كان عليّ أن أخرج ، وأُلقي عليك نظرتي الأخيرة . يا إلهي ! لقد فضحتُ نفسي لأجلك يا صاحبي . 

وأجيادِ غزلانٍ ، كجيدكِ زُرننيْ
فَلَمْ أَتَبَيّنْ عاطلاً مِنْ مُطَوّقِ
المتنبي
أوتاوا / خريف ٢٠١١م

CONVERSATION

0 comments: