عيـد الحُـب لِمَن يُقـدِّر الحُـب/ عزمي إبراهيم

يوم 14 فبراير هو "عيد الحب" وبالإنجليزية "الفالانتاين داي"، ويحتفل به معظم شعوب العالم. وهو ليس عيداً  "دينياً" مفروضاً من دين بعينه ولكنه من الأعياد "الإنسانية". فهو في جوهره عيدٌ "إنسانيٌّ" عاطفيٌّ بين الناس، رجال ونساء، كهول وشباب، يتبادلون فيه المجاملات والبطاقات الرومانسية وباقات الورود وصناديق الحلوى والهدايا البريئة. هو عيدٌ نقي لطيف "تفريحي" حتى لمن لا يتبادلون فيه المجاملات والهدايا.
وعيد الحب أيضاً ليس عيداً "رسمياً"، أي لا تقرره الدول ولا تتبناه الحكومات، ولكن تحتفل به "شعوب" تلك الدول من كل الأديان السماوية أو الغير سماوية. شعوب تقدر الحب وتدرك معناه وجوهره وتأثيره ونتائجه الإيجابية على الأفراد وعلى المجتمعات. عيد تحتفل به الشعوب التي تقدس الحب وتنظر إليه كعاطفة إنسانية طبيعية تلقائية من أنقى وأرقى المشاعر التي زرعها الخالق في قلب الإنسان، أو بالأصح في النفس البشرية.
*******
الديانة المسيحية بُنيَت على قواعد إنسانية أهمها الحب، لأن في المسيحية "الله محبة". وأقوال السيد المسيح وتلاميذه ورسله عن أهمية الحب لا تحصى عدداً وتفسيراً وتأييداً في آيات الكتاب المقدس. ولو شئت أن أدرج هنا آيات الحب والمحبة في المسيحية فلن تكفيها صفحات.
وفي مصر الفرعونية قال حكيمٌ "الحب هو العطاء بغير تفكير في الذات." وقال الإله الحكيم بتاح حتب " إذا أردت الحكمة فأحب شريكة حياتك، أعتن بها ترع بيتك، قربها من قلبك فقد جعلها الإله توأماً لحياتك."  كما قال أمنموبي أحد حكماء الدولة الحديثة" ان حب الناس ومدحهم للانسان خير من الثروة التي في المخازن."
وفي الهند قال قديسها وزعيمها المهاتما غاندي "أينما يتواجد الحب تتواجد الحياة." وقال فيلسوفها العظيم طاغور "الحب يلمع كلؤلؤة في ظلام القلب البشري." وقال "آمِن بالحب ولو كان مصدراً للألم ولا تغلق قلبك." وفي رجائه لخالقه قال "هب لي ذلك الحب الذي يود أن ينفذ إلى أغوار الوجود."
وفي شرق آسيا قال الحكيم جوتاما بوذا "الحسنات على اختلاف أنواعها لا تبلغ سُدسَ فضل المحبة التي تحرر القلب من شوائب الشر، لأن مثل هذه المحبة يتضمن سائر الحسنات، إن المحبة تشرق نوراً وبهاءً، كذلك يجب على كل إنسان أن يغرس في نفسه الحب العميق الصادق لسائر الخلق."
أما فيلسوف الصين كنفوشيوس فمذهبه يقوم على الحب، ويَعتبـِرالفضيلتين أو القاعدتين الهامتين لمسيرة الإنسان المثالي في حياته هما "جن" و"لي"، وقد ترجمت كلمة "جن" بالحب.
وفي الإسلام كثير من العلماء والفقهاء المتفتحين نادوا وينادون بالحب والمودة. فمثلا قال ابن حزم: "الحب أعزك الله أوله هزل وأخره جد، دَقَّت معانيه لجلالتها عن ان تُوصَف، فلا تُدرَك حقيقتها إلا بالمعاناة. وليس بمُنكَر في الديانة، ولا بمحظور في الشريعة، إذ القلوب في يد الله عز وجل."  وابن حزم، من واقع الويكيبيديا الموسوعة الحرة، هو علي بن حزم الأندلسي، أكبر علماء الإسلام تصنيفًا وتأليفًا بعد الطبري، وهو إمام حافظ فقيه ظاهري، ومجدد القول به، ومتكلم أديب وشاعر وناقد محلل، بل وصفه البعض بالفيلسوف، وزير سياسي لبني امية، سلك طريق نبذ التقليد وتحرير الأتباع، ويُعَد من أكبر علماء الإسلام.
وفي مصر تحت الإسلام الوسطي المعتدل المتعايش مع العالم في عصر نهضة القرن العشرين، كان الحب والمحبة والمودة عاطفة بشرية مباركة ومُقدَّرة في المجتمع المصري. ولا يختلف اثنان أن الأخلاق في الشارع المصري، وفي المجتمع المصري حينئذٍ  بين شباب مصر وصباياها وبين رجالها ونسائها، سافرات غير محجبات ولا منقبات، كانت أرقى وأنقى بدرجات مما نحن عليه اليوم.
*******
ففي عالمنا اليوم حيث يفيض سوق الدين بسماسرة يتاجرون فيه وبه. يوجد هؤلاء المُسَمُّون أنفسهم دعاة دين!! وشيوخ!! ودكاترة!! محترفين، متفرغين عن كل عمل ديني أو اجتماعي صالح للبشرية، ومركزين بتعصبهم وكراهيتهم وقلوبهم ألممتلئه بالشر على التجارة بالدين والتربح منه بفبركة الفتاوي والتكفير، والتهديد والتخويف، والتحليل والتحريم، والتشريح و"التفعيص" في سطحيات الدين وقشور الأمور، لا في جوهرها ومكنونها، ولا في معناها والهدف منها.
هؤلاء "فقهاء الفضائيات" المأجورون، سطحيون في مفهومهم حتى للعواطف الإنسانية التي أوصى الله بها كالرحمة والحنان والمودة والعطف والتعاطف والشفقة والاحسان والترحاب والسخاء والشوق والصدق والمحبة والتواد وحسن الجوار والتعايش بين الناس، ومثيلات تلك من محاسن الطبيعة البشرية النقية مثل مشاركة الآخرين في مشاعرهم وآلامهم ومعاناتهم واحتياجاتهم، بل حتى في أبسط الأمور وأوجبها كتهنئتهم في أفراحهم وأعيادهم ومواساتهم في مآسيهم. هذه المحاسن البشرية الثمينة لها مقاييس وموازين لدي من يُدعَون دعاة الدين وشيوخه ودكاترته (وهم للأسف كثيرون) تختلف تماما عما يراها شعوب العالم الإنساني المتحضر بأديانه وعقائده المختلفة، سماوية أو غير سماوية.  فكثيرا ما يطلع علينا هؤلاء مثل أبو إسلام ووجدى غنيم وصفوت حجازى والبرهامي وغيرهم بأصواتهم الجشة وآرائهم المُعوَجَّة والفاظهم الفجَّة وبذاءاتهم الصريحة وبتفانين وتصرفات مُلوِّثة للحياة.
*******
طلع علينا منذ أيام الشيخ د. خالد سعيد المتحدث باسم الدعوة السلفية في حديثه لليوم السابع في 9 فبراير 2013، مفتياً أن ((عيد الحب غير شرعى كما أنه ليس أخلاقيا)). قائلاً "إن الأعياد فى الإسلام عيدان فقط، أما الأعياد المستوردة من الخارج كعيد الحب فهى غير شرعية." مضيفاً أن "عيد الحب يرتكز على حب البنات لأولاد وهو أمر ليس أخلاقيا.". وأن "الحب الشرعى يتمثل فى حب الله سبحانه وتعالى وحب دينه وحب الوطن والأهل."
أقول للشيخ الدكتور خالد سعيد:
عرفتنا متفضلا يا فضيلة الشيخ بتقسيم الحب إلى شقين. شق سَمَيته "الحب الشرعي" ويتمثل فى حب الله وحب دينه وحب الوطن والأهل. ولا عيب في ذلك إلا تسميته بالحب "الشرعي" وأقول لفضيلتكم كفى زجاً بكلمة "شرعي" التي أصبحت غصة في حلوق المسلمين قبل غيرهم... فكدنا نختنق جميعاً بشرعيتكم.
أما الشق الآخر فسَمَيته "الحب الغير شرعي" وأنه "يرتكز على حب البنات لأولاد" وهو أمر ليس "أخلاقياً". فأقول لفضيلتكم: متى نتمسك بجوهر الأخلاقيات لا بقشورها!؟  سأواجهك يا فضيلة الشيخ بسؤالك عن الأخلاقيات الحقة والجذرية، وذات الأهمية القصوى، والتي ترضي أو تغضب الله فعلا: "جوهرها" لا "سطحياتها":
لم نسمع رأيك أو فتواك في الموبقات ومساويء الأخلاق التي يغرق فيها الشارع المصري تحت جناح أو ستار "أسلمة مصر" وكأن مصر لم تكن مسلمة ولم يكن بها مسلمون في الآربعة عشر قرناً الماضيات بل كانت وطناً زنديقاً كافراً!!  أسأل فضيلتك وفضيلة كل شيخ "متأسلم": أخواني أو سلفي أو جهادي أو أو أو... وسأحصر أسئلتي في الموبقات "الجنسية" فقط دون الجرائم الطائفية الأخرى:
-- هل من الشرع اغتصاب السيدات والبنات (بل والرجال)، من أفراد وجماعات مسلمين علنا في ميادين مصر وشوارعها؟؟
-- هل من الشرع تعرية وسحل وتعذيب وسجن واغتصاب فتيات ورجال وأطفال مصر على أيدي رجال يختفون تحت ستار الدين من جماعات دينية أو يحتمون بحكومة تدعي أنها حكومة دينية.
-- هل من الشرع خطف القاصرات من عائلاتهن واغتصابهن وأسلمتهن عنوة وقسراً، وهي جرائم في حق الله والناس وإهانة سافرة للإسلام؟؟
-- هل من الشرع التحرش الجنسي الذي شاع في حنايا مصر بلا رادع من أمن أو قانون، أو من دين؟؟
-- هل من الشرع نكاح البنات الأطفال في سن مبكر لا يدركن فيه ما هي الحياة، وهو اغتصاب بكل المقاييس؟؟  بل هو سوق نخاسة وضيع في الأطفال الذين وكلكم الله عليهم وأوصى برعايتهم!!
-- هل من الشرع إباحة أنواع الزواج المؤقت وصفقاته و"فيزيتا" المضاجعة، وما هي إلا دعارة "مُرخصة" "مُحللة" "مُسَعَّرة".
-- هل من الشرع الزواج العرفي وزواج المسيار والمسافر (المباح للرجل والمرأة على السواء)
-- هل من الشرع زواج المتعة، وتعريفه من "الفقهاء": ((أن يتزوج الرجل المرأة بشيء من المال مدة معينة، ينتهي النكاح بانتهائها من غير طلاق. وليس فيه وجوب نفقة ولا سُكنى. ولا توارث يجري بينهما إن مات أحدهما قبل انتهاء مدة النكاح.)) وما ذاك إلا نوع من أنواع الزنا الصريح؟؟
-- هل من الشرع إرضاع الكبير وهوتصريح بوضع الجنس على المشاع بين المرأة ورجال غرباء زملاء عمل وخدم و...؟؟
-- هل من الشرع فتاوي ودعاوي وسفاهات شيوخ الفضائيات وكلها منصبة على الجنس، حيث لا يخلو قولٌ منهم من تفاصيل جنسية بذيئة أو شتيمة جنسية وقحة؟؟
-- هل من الشرع السماح بوجود هؤلاء مدعي المشيخة في مصر أو في الساحة المصرية أو في الفضاء المصري، ببذاءاتهم بل وتصرفاتهم الجنسية وتأثيرهم السلبي الذي هو أسوأ من أفلام "البورنو" والقنوات الإباحية على شباب وأطفال مصر ؟؟
*******
يا شيخ. د. خالد سعيد
إن تقصد خيراً للناس، لا تحارب الحب.. فالحب هو روحُ الله ونَبْتُـه وزَرْعُه وحصادُه الطبيعي في قلوب الناس خليقته، رجال ونساء، صبيان وبنات، كهول وأطفال، مؤمنين وكفار. وإن تشاء خيراً للناس فحارب تلك الموبقات وإنزل إلى الميدان وحارب التحرش الجنسي المشين وسوء الخلق الشائع الناتج عن الفراغ وسطحيات الدين وقشوره وعدم استقرار الوطن نتيجة اغتصاب الوطن باسم الدين وفيض الهوس الديني.
عندئـــذ... عندئذ تكون أديت بعضاً من واجبك تجاه البشرية وتجاه الله.. وإلا فاصمت!!
أما عن الحب وعيد الحب، يا فضيلة الشيخ، فهو لا "يرتكز على حب البنات لأولاد" كما تقول، بل هو للمتزوجين والمتزوجات وللمخطوبين والمخطوبات.. المحبين لبعض والمتعاطفين مع بعض، والأوفياء المقدِّرين لبعض فليس به من سوء الخلق ذرة.. بل هو من أعظم محاسن الخلق وحسن التعامل والتعاطف والتقدير والمودة.
أقول لك ولغيرك كفى زجاً لكلمة "شرعي" في خياشيم الناس وفي أمور الحياة الطيبة.  فالحب في مجمله وفي جوهره شرعيٌّ رغم أنف من يُنكر. فقد شرَّعه الله عز وجل وزرعه وأودعه قلوب الناس من المهد حتى اللحد. وأقدم لك ولهم حكمة رائعة من مصر الفرعونية "ان كنت لا تحمل فوق عربتك سوي القش فلن تصبح يوماً تاجر حبوب."
*******
هل هناك من يسيء أو يستغل الحب لأغراض غير طيبة؟؟  نعم.  ولا يختلف ذلك عَمَّن يسيء استعمال الطعام أو الاحسان أو الصداقة أو الصلاة والصوم أو المشيخة أو القيادة أو الرئاسة أو الحكم!!  والحب لو حدث فيه اساءة استعمال فهو "لا حب"، فقد قال حكيمٌ: "الحب النقي يبقى مابقي الحب، والحب ذو الغرض ينقضي بانقضائه."
كما أكد ذلك الشاعر الفيلسوف جبران خليل جبران:
والحـبُّ إن قـادتِ الأجسـامُ موكبـَهُ *** إلى فــراش من الأغـراض ينـتحــرُ
وسواء "شرَّعتَ" الحب أو "لم تشرِّعَـه" فسيبقى الحب حباً والعفيف منه مقدساً، وسيبقي تفعيل الحب عيداً لمن يقدسَه. فكما قال الحكماء "ليس للدهر سلطان على الحب." وقيل أيضاً "الشباب يدوم ساعة، والجمال عمره كعمر الزهور، أما الحب فذلك هو الجوهرة التي تومض الى الأبد."
وقال الشاعر الإنسان إيليا أبو ماضي:
أحبـب فيغـدو الكـوخ قصراً نَيـِّــرا *** أبغض فيمسي الكون سـِجنا مُظلمـا
وقال الشاعر الفيلسوف جبران خليل جبران:
والحبُّ في الروح لا في الجسم نعرفهُ *** كالخمـر للـوحي، لا للسُـكْـر، ينعصرُ
وقال الشاعر اللبناني المهجري ميشيل المعلوف:
إنّ قـلبــًا لا حـبَّ فيـه كـروضٍ ***  لـم يعــدْ للهــزار فيــه صـُـداح
وقال الشاعر اللبناني المهجري إلياس أبو شبكة:
إِذا هـَجَـر الحـُـبُّ دنيـــا الـقـُلـو *** بِ فما تـَنـْفـَعُ الحِطـَـمُ الـباقِـيـهْ
وقال الشاعر اللبناني نقولا حداد:
بالحــب تحـيـا، والحيــاة محبـة *** إنْ لم تعــش حبــّاً فإنـك جَلمـَـد
وقال محمود سامي البارودي:
فكيف يعيب الناس أمرى وليس لى *** ولا لأمرئ فى الحب نهي ولا أمـر
وقال الشاعر على الجارم:
والحُـب أحـلام الشـباب هـنيئة *** مـا أطـيب الأيـــام والأحــلاما
وقال أمير الشعراء أحمد شوقي عن السيد المسيح:
عـيسَى، سـبيـلـُك رحـمــةُ ومحـبــةٌ *** في العـالميــن، وعـصمــةٌ وســـلامُ
مـا كنـتَ سـفـَّاك الدمــاءِ، ولا آمــرأً *** هــان الضِّـعــافُ عـليــه والأيتـــامُ
وقبل أن أختم أقدم قول الشاعر الكويتي فهد عسكر:
وها هيَ الـرّوح قـربــاناً أقـدّمــها *** يا مذبحَ الحـبِّ لا عـاش الأشحّاء
وأختم بقول شاعر الأطلال إبراهيم ناجي:
ذلك الحـُـبُّ الَذي عـلـَّمَـني أنْ *** أحِـبَّ النـاسَ والدنيــا جـميـعا
*******
وأخيراً في "عيد الحب" كل عام ومصر والمصريين بخير وحب.
*******
مهندس عزمي إبراهيم

CONVERSATION

0 comments: