ليلة صدام حسين تابوت العهد/ أسعد البصري

عازف الناي السحري الذي خلص مدينة هاملين
من الفئران ، ذلك الناي وجده حسن العلوي
ملقىً على شاطيء الفرات وخرج من العراق
هكذا ، قلبَ العلوي الناي السحري
أخذ ينفخ من النهاية الأخرى حتى تجمعت الفئران في بغداد
وأخذتْ تقضمُ قلب العراق
الطائفية السياسية كانت عبارة عن معارضة عمياء
حتى جاء حسن العلوي ومنحها آيديوجيا عملية وأصّلها علمانيًا
فهو يبدأ بالجيش العراقي العريق لينفي عنه صفة الوطنية
لأنه برأيه تأسيس عثماني
ثم يلتفت إلى المدرسة العراقية فيتهمها بالطائفية
ولا يتردد في تجريم أبو خلدون ( ساطع الحصري) مؤسس
القراءة الخلدونية والتعليم في العراق
بل يتهم التعليم العالي العراقي بدفع الشيعة
إلى الإختصاصات العلمية وحجب الإختصاصات الإنسانية عنهم
عندما جاء الفاتح بريمر كانت هذه الفكرة ناضجة جداً
تمَّ حلّ الجيش ، وهدم التعليم العراقي
الخطأ الفادح الذي ارتكبه حسن العلوي
هو القول بأن إعدام صدام حسين كان إعداماً طائفياً ،
الذي أُعدم كان صدام السني وليس الدكتاتور ، هكذا قال حسن العلوي
مشهد الإعدام و ما شعر به كل عراقي
شعور غريب احتفظ كثيرون به في أعماقهم
كتمته الزوجة عن زوجها والأب عن أبنائه
يحتاج الأمر إلى سنوات لمعرفة ذلك الشعور قبل الجهر به
لأن الشعور يسبق الفكر كما يسبق البرقُ الرعدَ
الذي أُعدم هو صدام العربي وليس السني أو الدكتاتور
وإلا لماذا حلّتْ السكينة التي تغسلُ قلوب الأنبياء
بعينين لهما شعاع ، في البصرة والعمارة والناصرية
كان الظلام ثقيلاً ليلة الإعدام
السكينة تُطلُّ لأول مرةٍ مِنْ تابوت العهد
الجنوب العربي كله يشعر بألمٍ في رقبته
الإبتهاج بإعدام صدام كان في بيوت قاتليه إسرائيل و إيران
خيّم ظلام ثقيل حالك على البصرة
لم يطلق أحد الرصاص في الهواء
كما يحدث عادة في كرة القدم والأعراس
بينما في شيراز و شمال طهران ومشهد و أصفهان
رقصت الفتيات الفارسيات و تم توزيع الحلوى
ضاجع الجنود الإيرانيون الشجعان زوجاتهم
وهنّ واقفات في المطبخ في الحديقة في الحمام في كل مكان
الدمشقيات خلف الفرات
أحرقن دمعاتهن بدمعات الفلسطينيات
وكما حدث ليلة سقوط بغداد
الفلاحون العرب في الجزائر و مصر
مسحوا وجوههم بعار الليل العربي الطويل
عجوز نجدية اختنقت تلك الليلة
لمحت النابغة الذبياني
يهرب على فرس أرقط وفي ظهره رمح
الدرزيات الجميلات الموحدات في جبل حوران
أشعلن البخور على قبر سلطان الأطرش
في تل أبيب الحاخامات أوقدوا الشموع
فتحوا التلمود على صفحة تابوت العهد
بينما الفتيان اليهود يفجرون الشامبانيا في بيت لحم
يرقصون على الموسيقى الإسبانية مع حبيباتهم
إن إعدام رئيس عربي في بلد محتل
بعد حصار قاتل دام أكثر من عشر سنوات
أمرٌ يستحق التأمل
كانت تلك هي المرة الأولى التي يقوم بها احتلال أجنبي
بإلقاء القبض على رئيس عربي وإعدامه
تحت الإحتلال لم تكن هناك إمكانية
لمحاكمة رئيس عربي بمستوى صدام حسين
وجود الإحتلال ، وإعدامه يوم عيد الأضحى
الحرب الطائفية في البلاد ، والهيمنة الفارسية على بغداد
كل هذا جعل مشهد الإعدام يلتهب
ويقفز إلى بعد رمزي متكامل يحفز كبار الكتاب البدء بالعمل
ألحضارة العربية هي الحضارة الوحيدة
التي تفصل بين النفس والروح بقوة و وضوح
وإعدام صدام بهذه الطريقة قفز به من جغرافيا النفس والذات
إلى خارطة الروح مباشرةً
بحيث أصبحت التفاصيل الأرضية لا معنى لها ولا قيمة
هكذا أصبح الطبيب الأمريكي الذي يفتش رأسه لحظة اعتقاله
إنما يفتش عن ما كان يسميه ميشيل عفلق التذكّر الحيّ
وحين ينظر في فمه إنما هو يحاول النظر
إلى ما أسماه هيجل الروح المطلق
وفي المحكمة حين يقف ، فهو يسرق قصيدة الجواهري :
سلاماً على مُثقلٍ بالحديد
ويشمخ كالقائد الظافرِ
أما قهقهاته لحظة الإعدام فهي التطبيق الصارخ لمقولة نيتشية
(الإنسان الأعلى هو ذلك الذي يستطيع أن يضحك وهو يحدّق في الهاوية )
هكذا ، يكتمل المشهد بمعطفه الطويل الحزين
الذي صار (( معطف غوغول )) حيث يخرج منه العروبيون جميعاً
سيظهر شبح هذا الرجل في شوارع بغداد في المستقبل
ينتزع المعاطف الصفوية والأمريكية
مشهد الإعدام تحول إلى نقمة و حكاية رمزية خصبة
تجعلنا نسمع أنينا قادماً من ضريحه
يشبه ذلك الأنين الذي سُمع من تابوت بني إسرائيل
عام ٥٨٦ ق م ، قضى الملك نبوخذ نصر البابلي
على مملكة يهوذا فقبض على آخر ملوكها
وهو المدعو صدقيا ، وأمر بقتل جميع أبنائه أمامه
ثُم قُلعتْ عيناه ، وقُيد بالسلاسل ، واقتيد أسيراً إلى بابل
حيث مات في أرضٍ (( لا يراها ))
وحدثَ في زمن زُربابل أن قضى قورش الثاني ملك الفرس
على مملكة بابل واحتل أراضيها
وما أن تم قورش هذه الفتوح حتى أصدر نداءً :
جميع ممالك الأرض دفعها لي الرب إله السماء
وهو أوصاني بأن أبني له بيتاً في أورشليم
التي في يهوذا
لهذا ، عندما دمرت الطائرات الإسرائيلية
مفاعل تموز عام ١٩٨١م و العراق في حالة حرب مع إيران
عرف هذا الرجل أن عليه ثأراً قديماً
وصاح عاشت فلسطين قبل أن يتدلى الحبل
حياة صدام حسين تعكس مأساة العقل العربي
الذي يرفع الوحي والإيمان أولاً
ثم العواطف والحماسة ثانياً ، وأخيراً العقل
لهذا ، بدأ صدام علمانياً ، ثم آنحدر إلى الحماسة العاطفية
وأخيراً غرق في الوحي ووضع
كلمة (( الله أكبر )) على العلم العراقي
سكب صدام حكايته في النهاية في بحر محمد
وبدا لا يملك كتاباً غير كتاب الله
هذه مأساة العقل العربي وحكايته
تبدأ الحكاية بعذاب سببه صلاح الدين الأيوبي
يقول باتريك سيل :
إن صلاح الدين هو عقدة وهاجس كل من حافظ الأسد و صدام حسين
لأن صلاح الدين وُلد في تكريت ومات في سورية
في آخر أيامه أدرك الرئيس حافظ الأسد خطأه بحق العراق و قال
الضلع العراقي يجب أن لا يُكسرْ
لكنها صرخة متأخرة جداً لأن الرئيس صدام حسين
قد لف الحبل جيداً حول رقبته
وأُحيط به من أعداء يشمون رائحة الجريح
لم يكن هناك متسعٌ لغير المراثي
عام 1989 م كتب شاعر شاب هو محمد مظلوم :
(( ظلامٌ حرونٌ على بابنا،
راية الببغاء على بابنا ،
وعلى بابنا الفيضانُ .))
مات الدكتاتور وبقيت الأناشيد والتاريخ والأساطير والأعداء
لم يكن الرجل موهوما تماماً
كما لم يخلق مصيره بمفرده

CONVERSATION

0 comments: