حكاية قسيس وجزيرة/ المحامي جواد بولس


عندما نفقد عزيزًا يتملكنا حزنٌ وأسى. هي حسرة غلاّبة لا يقوى عليها إلا سيرورة الحياة والنسيان، الذي يكون في هذه الحالة، نعمة.
وعندما يكون الفقيد عَلَما ومُعَلِّمًا، تصبح الذكرى باعثة لعهد ووعد، يحمله جيل وراء جيل، بأن لا تنكَّس راية ولا تطأطأ هامة.
وعندما يكون الفقيد رجل دين احتذى سيرة الأنبياء ومارس كلمة الرب، فأعطى وأحب واحترم وكافح من أجل عرض وأرض، عندها تزغرد أمنا الأرض، وتحضنه سنبلةً ستملأ، حتمًا، الوادي سنابل.
هو القسيس شحادة شحادة، ابن كفرياسيف وابن شعبه. سنبلة زرعت في أرض الأجداد التي من أجلها، ومن أجل من عليها، عاش وكافح وشارك في أعراسها وأعراسهم. طيلة حياته كان مع شعبه ولم يقتصر بذله على كونه رئيسًا للجنة الدفاع عن الأراضي.

وفود تقاطرت إلى القرية لتشارك إيداع السنبلة مثواها الأخير. بعضهم عرف الراحل وكثيرون لم يعرفوه. جاءوا شركاء درب وحلم ووفاءً لقدوة أجلّوها ولأرض حضرت وكانت سيدة الموقف والحدث. من حضر أطلق موقفاً ومن لم يحضر كذلك فعل. غياب الأفراد طبيعي ومبرر، إنما غياب القياديين يثير تساؤلات وأكثر. أزعجني غياب بعض القياديين، لا لأن غيابهم انتقص من وقار المناسبة أو مكانة الراحل وما مثّله وعناه، بل لأن غيابهم نمّ عن موقف ورأي.

لا شأن لي كيف يقيّم هؤلاء شخص الراحل بالمفهوم الضيّق، وفي جميع الأحوال مردود ذلك يعود عليهم ولهم. لكن غيابهم عن تشييع من كان رئيسًا للجنة الدفاع عن الأراضي وبقي شخصية جماهيرية قيادية هامة لعبت دوراً حاسمًا في مراحل نضالات شعبنا وفي أكثر القضايا أهمية وحساسية، شأن يحاسبون عليه!.

غيابهم مقصود، وأبعاده مزعجة وخطيرة. قبل غيابهم كانت هنالك عملية تغييب، على هامشيتها، تبقى ذات دلالات ومعانٍ. فكيف يفسِّر، مثلاً، القيَّمون على موقع عرب 48 عدم نشر أي نبأ عن رحيل القسيس؟ مع أن الطبيعي والمتوقَّع أن يبادر حزب كالتجمع بنشر نعي باسمه عن شخصية كالقسيس.

القضية لا تقتصر على عدم نشر نبأ أو نعي، لكنها قرينة تبعها غياب قادة حزب التجمع عن حضور الجنازة، ولو بوفد رمزي.

غيابهم يمثل موقفًا إزاء ما مثله القسيس شحادة ورفاقه، ويترجم بالفعل ما نشرته النائبة حنين زعبي يوم 16.12.2010 في مقال بعنوان "هل تنطبق دعاوى التطبيع..."، نشر في موقع عرب 48 وغيره، حيث كتبت النائبة زعبي وقالت: "لا نستطيع أن نستذكر بالضبط اللحظة التي طرق فيها فلسطينيو الـ48 الوعي العربي... ربما نستطيع أن نتذكر عاملين مركزيين: الجزيرة وعزمي بشارة...".

هكذا إذاً تعتقد قيادية في حزب التجمع. فلولا قناة الجزيرة ولولا دور القيادي عزمي بشارة لما طرقت الجماهير العربية في الـ48 الوعي العربي!

هل يعقل أن نقرأ هذا ونقبل به!

هل يعقل أن يمحى تاريخ عقود من نضال هذه الجماهير ليبدأ في الوعي العربي في نهاية التسعينات مع إنشاء الجزيرة؟! هل فعلاً لم يسمع العالم، والعالم العربي، بنضالات هذه الجماهير قبل وخلال وبعد عام 1948! هل يعقل أن نمحو نضالات هذه الجماهير إبان الحكم العسكري البغيض؟! هل يعقل أنهم لم يسمعوا عن كفرقاسم ومذبحتها؟! هل يعقل أنهم لم يسمعوا عن مظاهرات العمال والكادحين وعصيّ الشرطة في أيار وغيره، وفي شوارع الناصرة وكفرياسيف والبعنة الحمراء وغيرها؟

هل يعقل أن العالم العربي لم يسمع عن مهرجانات الشعر وما قيل فيها من قصائد أصبحت من مآثر الشعر العربي وعاملاً في تكوين الشخصية الفلسطينية والعربية؟!

أين الأحياء من هؤلاء الكبار؟ أين حنا أبو حنا وسالم جبران وسميح القاسم! وأين من غاب وما زال حاضراً! أين محمود درويش، وتوفيق زياد وراشد حسين، الذين صدحوا وهزُّوا الضمائر وأسمعوا الجبال في سنواتٍ لم يحظ بها العرب لا بدول ولا بنفط ولا بأمراء.

هل يعقل أنهم لم يسمعوا بيوم الأرض وما سطَّرته قيادة حرة مناضلة؟ هل حقاً لم يسمعوا بصليبا خميس ومحمد ميعاري ومحمد كيوان وفضل نعامنة وتوفيق كناعنة وجمال طربيه وبقس يعبد الله ويحب الأرض والإنسان اسمه شحادة شحادة؟

هل حقاً لم يسمعوا بجريدة "الاتحاد" ومجلات كـ"الغد" و"الجديد" و"الدرب"، ومن كان يكدح ليصدرها مشاعل فكر ووطن؟! ألم يسمعوا بتوفيق طوبي وإميل حبيبي وإميل توما وعلي عاشور وعصام العباسي وإبراهيم مالك؟! هل فعلاً لم يسمعوا بحركة الأرض وما كابده مؤسسوها أمثال صالح برانسي وأنيس كردوش وصبري الجريس وغيرهم وغيرهم؟
وهل، وهل، وهل...؟

القضية موقف ورأي، فجماهيرنا طرقت الوعي العربي قبل أن تبدأ الجزيرة بثها من على آبار نفط وغاز يشعلان مصابيح قضيتنا وتاريخنا!

القضية موقف ورأي، فمن يعتقد أننا طرقنا الوعي العربي في نهاية الألفية الماضية، لا يعني له يوم الأرض، ولا من خطط له وقاده، شيئًا. ولذا يسهل تغييب رئيس لجنة الدفاع عن هذه الأرض، يغيّب حيّا ويغيب عن وداعه من يغيّبه حيّا!.

أعرف، أخي القارئ، أن في كل من يحترف السياسة أو يتعاطاها يقبع ميكيافيللي صغير وتاجر كبير. وأعرف أن السياسيّ يستطيع أن يحتسب النعوش صناديق اقتراع، يستثمر فيها حفنة من الناخبين. وأقر لو بقيت الأحوال هكذا فالأمر موجع ومؤسف. لكن عندما تتحول السياسة إلى عمى وإغفال مجيَّر ومقصود فهذه آفات قوم يفقد البصر والبصيرة، لأن من يعدم ماضيه لا حاضر له، وسيبقى مستقبله عائماً على بئر نفط أو مهزوزًا على رمال متحركة!

جواد بولس – محامي من كفرياسيف ، مقيم في القدس وعرف بدفاعه عن الأسرى والمعتقلين الفلسطينيين في المحاكم الاسرائيلية


CONVERSATION

0 comments: