انعقد مؤخراً في واشنطن المؤتمر السنوي لمنظمة "إيباك"، وهي الجسم السياسي لما يُعرف باسم "اللوبي الإسرائيلي" في الولايات المتحدة. ولقد لاحظ المراقبون لهذا المؤتمر أن ظروف انعقاده تختلف عن مؤتمرات السنوات الماضية حيث فشلت "الإيباك" خلال الأشهر الماضية بتغيير اتجاهات "البيت الأبيض" في مسألتي سوريا وإيران، إذ أنّ "الإيباك"، ومن ورائها حكومة نتنياهو، ضغطت على إدارة أوباما من أجل القيام بضربات عسكرية ضدّ سوريا ولوقف التفاوض مع إيران بشأن ملفها النووي، وفشلت "الإيباك" في المسألتين، إضافةً أيضاً للخلاف مع حكومة نتنياهو حول قضية المستوطنات ومشروع "الدولة الفلسطينية".
لكن هل يعني هذا الخلاف الحاصل الآن بين إدارة أوباما وحكومة نتنياهو خلافاً بين أميركا ودولة إسرائيل؟ الجواب كلا طبعاً. فحجم المساعدات الأميركية لإسرائيل ازداد في السنوات الماضية ولم تقم إدارة أوباما بأي تجميد لما تمنحه الولايات المتحدة سنوياً لإسرائيل من مالٍ وسلاح ومساعداتٍ مختلفة، بل لم تهدّد واشنطن تل أبيب بأي عقوبات رغم أن إدارات أميركية سابقة فعلت ذلك، كما حصل في مطلع عقد التسعينات خلال إدارة جورج بوش الأب.
لقد كان مفهوماً في حقبة "الحرب الباردة" الانسجام الكامل بين المصالح الأميركية والإسرائيلية. فإسرائيل كانت بالنسبة للولايات المتحدة الأميركية صمّاماً للأمان الأميركي في منطقة مجاورة للاتحاد السوفييتي السابق ولأوروبا وفيها أهم مصادر الطاقة العالمية. وكانت إسرائيل تجسّد، في تلك الحقبة من الصراع بين الشرق الشيوعي والغرب الرأسمالي، دور "المخفر العسكري الأمامي" الذي يحمي المصالح الأميركية، ويقوم بالنيابة عن واشنطن بما يستلزم من أعمال عسكرية قذرة تهدف إلى ضبط المنطقة في إطار المصالح الأميركية ومنع تسرّب النفوذ السوفييتي إليها.
إلا أنّ انهيار المعسكر الشيوعي بنهاية عقد الثمانينات أوجد مبرّراتٍ عديدة لإعادة النظر بالمفهوم الأميركي للدور الإسرائيلي. وقد عبّر عن ذلك بشكل واضح وزير الخارجية الأميركي الأسبق جيمس بيكر في عهد الرئيس بوش الأب، في أكثر من لحظة خلاف مع الحكومة الإسرائيلية، كان أهمّها الخلاف على موضوع المستوطنات مع حكومة شامير وتجميد واشنطن لضمانات القروض المالية.
لكنّ الاختلاف الحالي الحاصل بين واشنطن وتل أبيب، ومنذ مجيء إدارة أوباوما، ليس حول الموقف من الملف الفلسطيني فقط، بل هو اختلافٌ في الرؤى حول السياسة المتعلّقة بالشرق الأوسط عموماً، وتحديداً حول كيفية التعامل مع إيران، حيث يسعى نتنياهو إلى توريط الولايات المتحدة في نزاع مسلّح مع إيران وحلفائها بالمنطقة، بينما تسير إدارة أوباما في نهجٍ مختلف يراهن على المفاوضات والتسوية الدولية الشاملة لقضية الملف النووي الإيراني.
وهناك حضورٌ كبير للضغط الإسرائيلي الفاعل داخل الولايات المتحدة، من خلال العلاقة المالية والسياسية مع أعضاء الكونغرس، ونتيجة الهيمنة على معظم وسائل الإعلام الأميركية، وحيث نجد الإدارات (الحكومات) في أميركا أسيرة ضغوط السلطة التشريعية (الكونغرس بمجليسه) وعبر "السلطة الرابعة" أي الإعلام. فهذا العصر هو عصر "المال والإعلام"، ومن يملكهما يملك قدرة التأثير على صنع القرارات السياسية. هكذا فعل "اللوبي الإسرائيلي" في الغرب عموماً، وفي أميركا خصوصاً، من حيث تركيزه على المؤسسات المالية والإعلامية في الغرب.
إنّ الفرز في الحياة السياسية الأميركية الآن، لا يكون فقط بين "حزب ديمقراطي" حاكم و"حزب جمهوري" معارض، بل يتوزّع "التأثير الإسرائيلي" (كما هو أيضاً في قوى الضغط الأخرى) على الحزبين معاً، فنرى عدداً لا بأس به من "الديمقراطيين" يشاركون في ممارسة الضغط على الإدارة الحاكمة لصالح هذا "اللوبي" أو ذاك، علماً أنّ تعثّر "البرنامج الأوبامي" ليس سببه حصراً حجم تأثير "اللوبي الإسرائيلي"، فهناك طبعاً قوى النفوذ المهيمنة تاريخياً على صناعة القرار وعلى الحياة السياسية الأميركية، وهي قوى فاعلة في المؤسسات المالية والصناعية الأميركية الكبرى.
لكنْ هناك اختلال كبير في ميزان "الضغوطات" على الإدارة الأميركية في موضوع "الملف الفلسطيني" لجهة حضور "الضغط الإسرائيلي" وغياب "الضغط العربي" الفاعل، ممّا يسهّل الخيارات دائماً للحاكم الأميركي بأن يتجنّب الضغط على إسرائيل ويختار الضغط على الجانب العربي، والطرف الفلسطيني تحديداً، وهو الطرف المستهدف أولاً من قِبَل إسرائيل، كما أنّه "الحلقة الأضعف" دائماً!.
ولعلّ خير مثال على ذلك هو تخلّي إدارة أوباما عن شرط تجميد المستوطنات قبل استئناف التفاوض من جديد على المسار الفلسطيني/الإسرائيلي، هذا المسار الذي هو الأساس لعملية تسوية شاملة للصراع العربي/الإسرائيلي تريدها واشنطن مستقبلاً كجزء من ترتيب جديد للمنطقة يشمل الموقف الأميركي من إيران وسوريا، وهما دولتان لهما تأثير كبير في أوضاع العراق ولبنان والأردن والخليج العربي، وفي مستقبل القضية الفلسطينية والصراع مع إسرائيل.
وقد كان رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو واضحاً وصريحاً في اعتراضاته على التقارب الأميركي/الأوروبي مع طهران، وأطلق التحذيرات العلنية من الوصول إلى اتّفاقات مع إيران حول ملفّها النووي حتّى قبل حصول أيِّ اجتماع أو اتفاق، إذ أنّ إسرائيل ترفض من حيث المبدأ وقف الصراع مع إيران، فكيف بتحقيق تفاهماتٍ دولية معها!.
إنّ إسرائيل تعمل منذ سنوات، خاصة منذ وصول نتنياهو للحكم في العام 2009، على جعل أولويّة الصراعات في المنطقة مع إيران وحلفائها بالمنطقة، وعلى إقامة محور عربي/إقليمي/دولي تكون إسرائيل فيه هي الرائدة لإشعال حرب عسكرية ضدّ إيران ومن معها في سوريا ولبنان وفلسطين، بحيث تتحقّق عدّة أهداف إسرائيلية مهمّة جداً لكل الإستراتيجية والمصالح الصهيونية في المنطقة والعالم. فالمراهنة الإسرائيلية هي على تهميش الملف الفلسطيني وعلى كسب الوقت لمزيدٍ من الاستيطان في القدس والضفة الغربية، وعلى تفجير صراعات عربية داخلية بأسماء وحجج مختلفة، تجمع بين المطالبة بالديمقراطية وبين صراعات طائفية ومذهبية وقبلية تؤدّي إلى تفتيت الكيانات العربية الراهنة، وعلى إنهاك وإنهاء حركات المقاومة ضدّها في فلسطين ولبنان، وعلى تدمير الجيوش العربية الكبرى في المنطقة، وعلى إقامة تطبيع سياسي وأمني مع كل الأطراف العربية التي تقبل السير في المحور الإسرائيلي المنشود.
كذلك راهنت حكومة نتنياهو على أنّ الحرب ضدّ إيران والتصعيد الدولي والإقليمي ضدّها سيوجِد لإسرائيل أدواراً كبيرة سياسياً وأمنياً في عموم المنطقة ومعظم دول العالم الإسلامي، وسيجعل من إسرائيل قوةً إقليمية ودولية كبرى في عصرٍ بدأ يتّسم بالتعدّدية القطبية، بحيث تكون إسرائيل عندها قادرةً على فرض "شرق أوسطي جديد" يسمح لها بتحقيق الهيمنة الأمنية والسياسية والإقتصادية على كل المنطقة بعدما تضع الحروب الإقليمية والأهلية أوزارها.
إنّ إسرائيل لن تخضع الآن للمطالبة الدولية بإقامة دولة فلسطينية مستقلة ذات سيادة على حدود العام 1967، عاصمتها القدس، ولا طبعاً بإزالة المستوطنات أو حتى بوقف الاستيطان، ولا بحلٍّ عادل لقضية اللاجئين، وهذه هي القضايا التي يدور الآن التفاوض بشأنها، بضغطٍ أميركي، بين الفلسطينيين والإسرائيليين.
ثمّ إن إسرائيل لا تجد مصلحةً إطلاقاً في توصّل المفاوضات مع إيران إلى نتائج إيجابية، ولا أيضاً في إنهاء الأزمة الدموية السورية بتسوية تحافظ على وحدة الكيان السوري وتعيد بناء الدولة السورية على أسس سليمة، بينما المصلحة الإسرائيلية هي في استمرار هذه الأزمة وانتشارها في كلّ المشرق العربي، وباستنزاف حركات المقاومة فيه.
إذن، هو تباينٌ كبير حاصلٌ الآن بين إستراتيجية الحكومة الإسرائيلية وبين أجندة إدارة أوباما التي تأخذ بعين الاعتبار المصالح الأميركية أولاً، لكنها ممتنعة عن الضغط الفاعل على إسرائيل. وسيكون من الصعب الآن التنبؤ بمصير "أجندة أوباما" الشرق أوسطية بعد التطورات الأخيرة في أوكرانيا. فالعلاقة الجيدة مع موسكو والتفاهمات معها كانت هي مدخل إدارة أوباما لمشاريع التسويات السياسية للملفين السوري والإيراني، وحكومة نتنياهو تدرك ذلك وهي ليست بعيدة عما يحدث في أوكرانيا، تماماً كما كانت إسرائيل مؤثرة في تفاعلات أحداث جورجيا سابقاً.
واقع الحال الآن أنّ إدارة أوباما تواجه أزمة كبيرة في العلاقات مع موسكو وأصبحت منشدّة لأزمة دولية في أوروبا، وتخضع لضغوطات إسرائيلية من الداخل والخارج، بينما التأثير العربي الفاعل مفقودٌ في الحالات كلّها!.
*مدير "مركز الحوار العربي" في واشنطن
Sobhi@alhewar.com
0 comments:
إرسال تعليق