ياسمين آذار المخضب بالدم - الحلقة الخامسة/ محمد فاروق الإمام

المذبحة المبيتة
18 تموز 1963
بينما كانت تجري المحادثات في القاهرة بين عبد الناصر والوفد السوري. كان الناصريون - مدنيون وعسكريون - يعدون العدة للانقضاض على البعثيين مستهدفين حصنهم الحصين.. الجيش.
وكانت سلطات البعث على علم بكل تفاصيل خطط وتحركات الناصريين. (استطاع البعثيون اختراق الناصريين من خلال زرع أحد عناصرهم المقدم محمد نبهان - أحد منظري التحركات الناصرية - ليكون عينهم بين صفوف الناصريين، وكان يقدم المعلومات كاملة وتفصيلية عن خطط وتحركات الناصريين إلى أعضاء اللجنة العسكرية. مما أفشل كل تحركاتهم).
وفي 18 تموز في وضح النهار.. وفي الساعة الحادية عشرة صباحاً.. احتل ما يقرب من ألفين من المسلحين مواقعهم.. في الحدائق العامة المحيطة بمبنى القيادة العامة للأركان.. يقودها من العسكريين كل من: (اللواء راشد القطيني نائب رئيس الأركان السابق، والعقيد جاسم علوان - زعيم الحركة - واللواء محمد الجراح رئيس قوى الأمن الداخلي في عهد الوحدة، والمقدم أدهم مصطفى نائب عبد الحميد السراج رئيس الشعبة الثانية، والعقيد مروان السباعي رئيس الشعبة الثانية بعد السراج، والمقدم رائف المعرّي) ومن المدنيين: (جهاد ضاحي أحد قادة حركة القوميين العرب وزير المواصلات السابق، وعبد الصمد فتيّح أحد مسؤولي الجبهة العربية المتحدة ونائب رئيس المجلس السابق، وعبد الوهاب حومد أحد قادة الجبهة العربية المتحدة ووزير المالية السابق، ويوسف مزاحم أحد الوزراء السابقين في الجمهورية العربية المتحدة). وهاجموا الأركان من جبهتين في نفس الوقت، وكذلك مبنى الإذاعة، وحرس أركان القوات المسلحة. على أن ردّة فعل السلطات البعثية - العالمة مسبقاً بهذا التحرك الناصري - كانت أكثر عنفاً.. وكانت معركة من أكثر المعارك دموية تعرفها دمشق. وكانت نتيجتها مئات من القتلى وإعدام فوري لثمانية عسكريين واثنا عشر مدنياً. واحتل الجيش - الذي بات بعثياً - النقاط الإستراتيجية في العاصمة. وأخذ (الحرس القومي) - ميليشيا حزب البعث - يطارد الناصريين في كل أرجاء البلاد السورية.
فقد توزع هذا الحرس على شكل حواجز ثابتة وطيارة في العاصمة دمشق، وكان في مقدمة المشرفين على هذه الحواجز اللواء أمين الحافظ وزير الداخلية والعديد من القيادات الحزبية المتقدمة، الذين كانوا يستفزون المواطنين ويتعاملون معهم بقسوة وفوقية وينظرون إلى الجميع كأنهم متهمون بالعمالة والخيانة ومتآمرون على الوطن، كما انتشرت فرق من هذا الحرس في كافة المدن السورية لملاحقة الناصريين ومؤيديهم.
وقد يتساءل البعض لماذا لم تقم السلطات البعثية في دمشق بإلقاء القبض على قادة الحركة.. طالما أنها تعرفهم بأسمائهم وتعرف خططهم قبل أن يقدموا على تنفيذ العملية؟ والجواب بسيط: لأن البعث يريد ان يرهب كل معارضيه.. كما كان يريد أن يقضي عسكرياً على تنظيمات الناصريين السرية وعلى عناصرهم الأكثر نشاطاً.. ويزيد بالتالي من شقة الخلاف وقطع الجسور نهائياً ما بين دمشق والقاهرة.
مهما يكن من أمر.. فإن هذه هي المرة الأولى التي تُقمع فيها حركة انقلابية في سورية بكثير من العنف وإسالة الدماء الغزيرة التي لا مبرر لها.. وهي المرة الأولى أيضاً منذ الاستقلال التي يدافع فيها نظام عن بقائه في الحكم بالسلاح وإسالة الدماء. وبذلك يكون البعثيون في سورية أول من استنّوا هذه السنة السيئة.. والتي تشبه إلى حد بعيد السنة التي استنها قابيل عندما قتل أخاه هابيل.
بعد كل هذه الأحداث خرج عبد الناصر عن صمته ليعلن الحرب ضد البعث السوري.. معلناً في نفس الوقت انسحاب القاهرة من (ميثاق 17 نيسان) حول الوحدة الاتحادية الثلاثية بين مصر وسورية والعراق. وأعلن عبد الناصر: (أن السلطات التي تحكم اليوم في سورية لا تمثل الشعب السوري. لهذا فإنني أعلن قطع العلاقات مع الحكومة الفاشية التي تقيم في دمشق).
أما البعث السوري فقد اعتبر أن نقض ميثاق 17 نيسان هو بمثابة جريمة ترتكب ضد الوحدة العربية.. وانعطاف تاريخي خطير لا يختلف في شيء عن 28 أيلول 1961م، عند وقوع الانفصال السوري.. ولكنه بنفس الوقت يعلن (تمسكه) الذي لا يحيد عنه بهذا الاتفاق ويطلب تطبيق بنوده في الوقت المحدد.
لابد أن يتساءل المرء: هل البعثيون جادّون فعلاً ويسعون لعقد وحدة مع مصر؟ ولابد لنا قبل الإجابة أن نذكّر بأن البعثيين لا يؤلفون تكتلاً سياسياً موحداً أو منسجماً. وبالتالي، فليس لديهم برنامج واضح المعالم والخطوات العملية في هذا الميدان. فسياستهم سواء على الصعيد الداخلي أو على الصعيد العربي كانت عبارة عن سلسلة من ردّات الفعل بالنسبة للأحداث التي كانت تجري في سورية منذ 8 آذار. ومن جهة أخرى فإن الحزب كحزب، حتى استلام السلطة في دمشق، لم يكن منظماً بعد، ووجوده هو أقرب إلى الوجود الاسمي منه إلى الوجود الفعلي. أي أنه نوع من (اليافطة السياسية) إذا صحت التسمية أو صح التعبير.
فقيادة الحزب القومية - كما نوهنا سابقاً - لم تكن على علم رسمياً بالتحضير للحركة، ولا باليوم الذي سينفذ فيه الانقلاب. وعلى أية حال، فإن الغالبية العظمى من قادته وعلى رأسهم ميشيل عفلق كانوا في بغداد قبل أسبوعين من وقوع الحركة العسكرية في دمشق في 8 آذار. وكذلك فإن صلاح الدين البيطار لم يكلف بتأليف حكومة (اتحاد وطني) إلا قبل وقت وجيز جداً من بدء عملية التنفيذ.
وبكلمة صريحة ومختصرة.. ليس حزب البعث بقيادته القومية.. ولا قيادتيه القطريتين.. ولا حكومة البيطار.. ولا المجلس الوطني لقياد الثورة.. ولا حتى اللجنة العسكرية من يحكم سورية!! إن الذي يحكم سورية هو الثلاثي (صلاح جديد، ومحمد عمران، وحافظ السد). فهم وحدهم هم من يسيطر على الأوضاع السياسية والأمنية والعسكرية بأيد أخطبوطية.. ويمسكون بكل مفاصل الجيش والقوات المسلحة.
المؤتمر القومي السادس لحزب البعث
القيادة القومية
الواقع أن الاتجاه البعثي الذي يوصف بـ(الاتجاه القومي).. أي الاتجاه الذي تقوده القيادة القومية للحزب، كان في حقيقة الأمر يسعى إلى إيجاد جو من التفاهم مع القاهرة.. ويميل أيضاً إلى تحقيق شكل من الوحدة الاتحادية بين مصر وسورية والعراق.. على أن تضمن هذه الوحدة الاستقلال السياسي لكل قطر من الأقطار الثلاثة، وكذلك حرية تشكيل الأحزاب السياسية. وهذا الاتجاه يتمثل عملياً بالأمين العام للحزب ميشيل عفلق وبرئيس الوزراء صلاح الدين البيطار.
بالرغم من اعتدال هذا الاتجاه وصدقه في نواياه الوحدوية.. إلا أن القاهرة كانت تتهم القيادة القومية بالطريقة التي تقدم بها الوزراء البعثيون استقالاتهم من الحكومة سنة 1959م، والتي اعتبرها عبد الناصر من مقدمات الانفصال، بل ذهب إلى ابعد من ذلك باتهامهم بمسؤوليتهم عن حدوث الانفصال. ومن جهة ثانية استياء عبد الناصر من موقف القيادة القومية اللامبالي عند حدوث حركة الانفصال وتوقيع صلاح الدين البيطار على بيان السياسيين السوريين الانفصالي، أضف إلى ذلك الأحداث الأخيرة التي وقعت بين الناصريين والبعثيين، وتصفية البعثيين لكل الناصريين.
هنا وجدت القيادة القومية أنها جرَّت نفسها إلى مواقع الاتهام سواء من الناصريين الذين يتهمونهم بالخيانة، أم من بعض قواعد الحزب والضباط البعثيين الذين يتهمونهم بأنهم باعوا الحزب لعبد الناصر. يقول منيف الرزاز: (إن تهمة الناصرية توجه للبعثيين الوحدويين للتخلص منهم وإبعادهم) _ الاتهام كان من قبل القطريين.
ويضيف الرزاز قائلاً: (ويبدو أن خطيئة صلاح الدين البيطار في توقيع وثيقة الانفصال، وفي سعيه حتى يقبل الحزب الاشتراك في وزارة الدكتور بشير العظمة أيام الانفصال، قد جرحته أمام الحزبيين الوحدويين جرحاً لم يسهل عليهم نسيانه، بالرغم من أنه قاد بعد ذلك الحملة الوحدوية في الحزب، وكان له كبير الأثر في الضغط من أجل البدء في مباحثات الوحدة الثلاثية بعد الثورة. ولكن هذه الحملة الوحدوية قد أساءت إليه عند الحزبيين القطريين والعسكريين والحاقدين على عبد الناصر، ففقد بذلك عطف الطرفين معاً).
ويتضح لنا من كل هذا أن علاقة القيادة القومية بحكم البعث السوري، وتحديدا بالعسكريين، بقيت عائمة وغير واضحة. فضعف القيادة القومية وعدم جدارتها منعاها من أن تقيم تنظيماً قوياً وأن تفرض سلطتها على الضباط البعثيين، وبالتالي من أن تمسك بيدها زمام الحكم، كذلك لم تستفد القيادة القومية من الدعم غير المحدود الذي منحتها إياه القيادة البعثية في العراق. مما دفع العديد من كوادر الحزب وأكثرية أعضائه تستنكر أبوتها، وترفض وصايتها.
ويقول منيف الرزاز حول هذا الموضوع: (فقد كان من عادة القيادة القومية أن تترك الأمور تسير، ثم تشكو من انها سارت في طريق خاطئ. وتحاول أن تبادر إلى الإصلاح حين يكون وقت الإصلاح قد فات، تركت للجنة فرعية منها زمن الانفصال، أن تعيد تنظيم الحزب. ثم شكت من أن اللجنة قد أساءت استعمال صلاحياتها.. أشركت العسكريين في قيادة الحزب دون أن تعطي نفسها حق الإشراف على الحزب في الجيش، ثم شكت من أن العسكريين قد استولوا على الحزب. ولكن أكبر خطيئة ارتكبتها قيادة الحزب في هذه المرحلة، انقطاعها التام عن قواعد الحزب.. فلا اتصال ولا اجتماعات ولا نشرات. حتى جريدة الحزب لم يكتب فيها أحد من قيادة الحزب.. وتركوها جريدة لا تمثل رأي الحزب في شيء).
وفي تقرير حزبي، وصف أمين المكتب التنظيمي العسكري لحزب البعث الحالة التي وصل إليها الحزب فقال: (لقد وصل التنظيم إلى حالة من التشويه، لم يعد من الممكن تحملها من قبل الرفاق، وحل الولاء الشخصي والتكتلي محل الولاء الحزبي).
يتبع

CONVERSATION

0 comments: