لماذا الحصاد في الأرض المزروعة ألغاما؟/ صالح الطائي

بعيدا عن النقد؛ قراءة عامة في رواية "الحصاد في الأرض المزروعة ألغاما" للأديب الواسطي طه الزرباطي تأشيرة للدخول إلى أسرار حياة العراقيين
مع أن الحرب هي إحدى آليات التأسيس وما من حضارة قامت إلا وكانت الحرب إحدى آليات صيرورتها؛ إلا أن لطعم الحرب عند العراقيين مذاق آخر يختلف عن غيرهم ربما لأن العراقيين لم يتخلصوا من حالة الحرب القائمة سواء كانت مع طرف داخلي أو خارجي عبر التاريخ؛ فلقد أدمن العراقيون الحروب منذ بدايات التاريخ السحيق، ولا أبالغ إذا ما قلت أن جميع الأسلحة التي اخترعها الإنسان في تطوره تمت تجربتها على أرض العراق وبلا استثناء مما خلق وشيجة جمعت العراقيين بمفردة الحرب وجزئياتها جمعا غير منفصم، ثم شهد العراقيون في العصر الحديث فضلا عن الحروب الداخلية البينية حروبا عدة منها حرب الغرباء سلاطين آل عثمان مع جيش الإمبراطورية البريطانية، وفي تاريخ لاحق شهدت شوارع العراق تسيير آلاف الرجال للالتحاق بقوات الدول المتحاربة في الحرب العالمية وحل محلهم رجال من السيخ وباقي القوميات التي كانت ترافق القوات البريطانية، وحتى في عصر التحرر شهد الشمال العراقي حروبا بين الأكراد وجيش الدولة استمرت سنين طوال ثم تهديدا بالحرب مع السعودية والأردن وسوريا ليتحول التهديد على حرب إبادة حقيقية في عام 1981 مع الجارة إيران، وهي الحرب التي استمرت ثمان سنوات متواصلة وحينما خمدت نارها تحركت قوات العراق لتحتل الجارة الكويت ثم لتترك كل عدتها خلفها وتهرب بشكل غير نظامي إلى الداخل العراقي، وهو الهروب المخزي الذي تحول إلى انتفاضة وثورة شعبية أسهمت القوات الأمريكية والصدامية بوأدها وقتل آلاف العراقيين وهروب آلاف أخرى خارج العراق وحتى بعد توقف العمليات المباشرة كانت هناك غارات جوية أمريكية على أهداف محددة ترعب العراقيين وتعيد لهم أجواء الحرب. وفي 2003 دخلت القوات الغازية الأمريكية المحتلة إلى العراق لتحتله سنينا عديدة ثم تخرج ليحل محلها الإرهابيون الذين حولوا حياة العراقيين إلى حرب يومية تندلع دون مقدمات وتخمد دون مقدمات.
إن تاريخا يحمل كل هذا العمق الحربي لا يمكن إلا أن يرسخ في فكر الإنسان ليتحول من مفردة طارئة قد لا يفكر البعض بوجودها في قاموسه إلى وجود يومي في حياة العراقيين كنوع من الازدواجية العجيبة، وبسبب كوننا كنا ولا زلنا أسيادا وعبيدا لأنفسنا، ولكوننا على مدار التاريخ نحمل أكثر من هوية تصطرع في دنيانا وتتنافس في عالمنا الخاص وتمتزج في كينونتنا فقد امتزنا عن غيرنا بكوننا من أكثر الناس تعلقا بالازدواجية؛ ازدواجية القيم والمعايير والولاء، طغى اللون الرمادي على حياتنا وصادر حقوق الأبيض والأسود، وفي عالم الرمادية هذا تحول الوطن إلى جنة دونها جنة عدن وسجن دونه سجون كل طغاة الأرض [1]، وطن يشعر فيه كل منا أنه الحر الوحيد في الكون، والعبد التاريخي الأكثر خنوعا للأسياد، ولم يعد الخلاص عندنا يعني الانتصار بقدر كونه رغبة بالموت لكي ننجو من تناقضات واقع مرير فيه الكثير من المصادرة والإقصاء، فلم تعد دنيا الطين تمثل لنا بحثا عن وطن أو بيت يؤوينا بقدر كونها بحث عن متر من الأرض يؤوي رمتنا المتهالكة التي مزقتها عربدات الأيام وأشبعتها قهرا حد الثمالة.
 حتى البوح تحول عندنا إلى أسرار خفية من عالم طوطمي مجهول غاب (الإله) عن حاضره وأفتقد في نهاراته ولياليه ليتحول كل منا إلى عبادة الذات التي أشبعها القهر انحطاطا، الذات المسحوقة حد التهشم.
أما ثنائية الكره والعشق فقد خلقت رابطة بين العراقيين ومنافيهم القسرية التي اجبروا على اللجوء إليها بعد أن ضاقت عليهم السبل في مكان يدعى الوطن، حيث "ابتلعتهم المنافي"[2] وحل محلهم المصريون الذين أستوردهم الطاغية ليسد بهم نقص الأيدي العاملة فتحولت منطقة (المربعة) في شارع الرشيد إلى حارة مصرية بمطاعم الكشري والفلافل والعمدة والفتوات[3]
إن التشويه الديموغرافي المتعمد بتهجير عدة ملايين من دورهم ومساكنهم وقراهم ومزارعهم ومصانعهم إلى جبهة الحرب ليحل محلهم في مراكزهم عدة ملايين من الوافدين المصريين بغالبية لا تعرف القيم وتفتقد الخلق أسهم في تلويث الفطرة ودنس البراءة والعفة وعمق غربة المواطن في وطنه. 
وربما لهذه الأسباب مجتمعة يحاول طه الزرباطي دائما ربط الدناءة بالخيانة بشكل تهكمي مع حبكة رمزية في الكثير من الإيحاء الساخر بما يجعلك تضحك بسرك دون أن تصدر صوتا لكي لا تستفز دموعك التي أجراها منك ما قرأت من مآسٍ قبل قليل فتراه يربط تحول أحد أبطال الرواية واسمه (رحمان) إلى جاسوس بالحصول على منافع زائلة محرومة طبقات الشعب الغفيرة من رؤيتها مثل ما حصل على فاكهة الموز التي كانت محرمة على العراقيين ثمنا لجاسوسيته والتي أرسلها إلى أولاده لكنه فوجئ بتركهم للموز في زاوية قصية من الغرفة المتروكة وواجهوه بسؤالهم الأسطوري: ما هذا يا أبي ... ما هذا يا أبي الشيء الغريب الذي يشبه كثيرا الـ.....؟[4]
كما أن التشويه الديموغرافي المقصود من خلال توجيه التهم الكيدية والكاذبة جعل آلافا أخرى من العراقيين أمام خيارين: فمنهم من هجروا مقراتهم ليلجأوا إلى مجاهيل المناطق المنسية، ومنهم من اقتادته القوات الأمنية إلى المجهول، ولذا تجد الروائي الزرباطي حينما يصف أحد أبطاله (النسر) وهو الاسم الحركي لـ(مام حسن) لا يتحدث عن معاركه الشرسة وبطولاته في الدفاع عن الوطن لأنه لم يمنح فرصة لمنازلة حقيقية شريفة فهو كان مجرد: "موسوعة معتقلات، جرب سجون العراق كلها، وبعض السجون الإيرانية والتركية وحتى السورية"[5]
وتمتد لحظات التراجيديا السوداء في هذه الرواية إلى كل خبايا آهات العراقيين، تمتد إلى اللحظات التي يقضم فيها العراقي جواز سفره المزيف على أمل الارتقاء إلى مرتبة البشر[6] فحينما تجتمع الخيانة والعهر والظلم والقهر والقسوة في مكان واحد تفقد الأشياء الجميلة نضارتها وتتحول إلى مسوخ خرافية لا تدل على حقيقتها الأولى، فالنخلة مصدر الخير والنماء والجمال لدى العراقيين، هذه الشجرة الرائعة المكابرة التي هي سر من أسرار الحياة والخلود والتعملق تتعرض إلى الاغتيال على يد الجزارين ولذا ترى طه الزرباطي يناغمها ويناغيها بشغف كما يناغي الحبيب المتيم ذكرى حبيبة رآها تغتصب أمام عينيه وهو في أشد درجات العجز والإعياء، فالنخلة سيدة الشجر تتحول لدى الزرباطي إلى كائن حي يرافقه من بداية المشوار، يستشعر آدميتها ويتلمس حياتها وكآنيتها  فينثر أخبارها على وجه روايته منذ أسطرها الأولى وحتى ثمالة الكأس فيقول في أواخر الرواية يخاطبها: "النخيل المثقوب بالشظايا والرصاص، النخيل الذي سرق، بل ذبح لتزرع في الأرض في أرض الميعاد، النخيل الذي أصابه الجذام.[7]، ولأن النخلة لدى طه الزرباطي وطن ومدينة، تراه قبل هذه النهاية كان قد ابتدأ روايته بالإهداء  فأهدى عمله الأدبي هذا إليها: "إلى المدينة، الأم، المنفى، إلى النخلة التي احترقت بنيران الأهل ولم تركع، إلى أطرافها السوداء"[8]
أما العراقي .. الذكر والأنثى من العراقيين فما يحملونه من قهر وينوءون بثقله من هم يحولهم إلى صور سوريالية غاية في التعقيد فيعجز الزرباطي عن رسم ملامحهم بوضوح بعد أن شوهتها الهزيمة، هزيمة الإنسان من الداخل، فلا يستطيع شيئا سوى الحزن "أنا وأنتِ اختارنا القدر لنخسر كل شيء[9]
رواية طه الزرباطي (الحصاد في الأرض المزروعة ألغاما) صورة من صور الانتهاك الكبير الذي تعرض له العراقيون في حقبة سوداء من تاريخهم المعاصر، خلاصة لعذابات أمة وأجيال ولذا تكاد تسمع فيها آهات وحسرات وتوجع وأنين ودمدمة وصراخ، بل تسمع فيها وقع قطرات الدمع على الأرض الجدباء فلا تملك إلا أن تذرف دمعا ربما على نفسك أنت يا من عشت جزء من هذه المأساة ولم يرد اسمك مع أسماء أبطال الرواية حيث استعاض عنك الزرباطي بأسماء ووجوه أخرى تمثل جانبا من شخصيتك في مرحلة ما من حياتك.
صدرت هذه الرواية الرائعة عن دار مصرمرتضى تزين غلافها لوحة للفنان رائد الواسطي.

[1] إشارة إلى قول الروائي في بداية الفصل الأول: "أيها الوطن السجن، السجن الطوعي" ً7  
[2[ ص 95
[3] ص85
[4] ص 173
[5] ص 70 
[6] ص154
[7] ص 185
[8] ص 5
[9] ص 155

CONVERSATION

0 comments: