رويدك.. واحكم!/ المحامي جواد بولس

– كفرياسيف

لو جرت في ظروف مغايرة لحظيت زيارة وفد قيادة حزب التجمع الديمقراطي ولقائه مع سيادة الرئيس محمود عبّاس وأعضاء من اللجنة المركزية لحركة فتح بنشر أوسع وربما ببعض مقالات التعزيز أو التحليل، يكتبها مؤيدون وناقدون، كل من موقعه ولغايته.

لا أعرف إن كان تهميش شأن هذه الزيارة في إعلامنا المحلّي نتاج تقييم موضوعيّ "لأهميتها" أو نتاج شعور بما قد تستدرجه من حرج استشعره ضيوف المقاطعة خاصةً بين صفوف أعضاء ومؤيدي حزب التجمع.

مدعاة الحرج المفترض تعود لكون هذه القيادة المبادرة للزيارة هي نفس القيادة التي أغرقت فضاء السياسة والإعلام طيلة سنوات بمحاولات إقناعنا، والعالم أجمع، أنّ الرئيس أبو مازن قد "خان" الأمانة وسقط عن درب الثوابت الوطنية الفلسطينية وعليه التخلي عن مناصبه والرحيل. كذلك كانت أحكامهم القطعية في حق من كان من بين مستقبليهم، من قيادات فتحاوية، وُصفت بكونها مفرّطة وعميلة لإسرائيل ولأمريكا وما إلى هذه من ألقاب و"نياشين" أغدقتها قيادة التجمع في كل محفل ومن على كل منصة مهرجان، بعضها أقيم خصيصًا لهذه الغاية والنداء.

وكالة الأنباء الفلسطينية "معا" نقلت أن الوفد اعتذر عما بدر من قيادييه في الماضي القريب. بينما أوضح قياديون في حزب التجمع لاحقًا أن الوفد لم يعتذر عما مضى ووصفوا الزيارة بأنها تأتي من باب التواصل الفلسطيني-الفلسطيني وهو أمر طبيعي.

لا فرق إن رافق الاجتماع اعتذارٌ لأبي مازن ورفاقه أم لم يرافق. لا أعتقد أن القيادة الفلسطينية كانت بحاجة لمثل هذا الاعتذار، فكما أن حملات القذف والتخوين بحق هذه القيادة لم تفلح بقطع "أبهرها"، كذلك لن يضمن هذا اللقاء ثبات قيادة التجمع على أواصر هذا التواصل الفلسطيني ما دامت مواقفهم المتقلبة معفية من المحاسبة والمساءلة.

هنالك أمور وأحداث يسهل محوها من ذاكرة الناس، وأعتقد أنّه لولا هذه "النعمة" لعاش قياديو أحزاب في أزمات مستديمة. ولكن عندما يتكرر فعل "التقلب" في أكثر من مسألة جوهرية وفي مدد زمنية قصيرة يصبح هذا ظاهرة مقلقة تستدعي التساؤل وتستوجب الإجابات.

القضية لم تنحصر، قبل شهور معدودة، بتخوين أبو مازن وقيادة فتح واتهامهم كمن ينتهجون نهج التفريط الذي وصل حد الخيانة، وإنما لم تتورع قيادة "التجمع" عن اتهامها لقيادات في الجماهير العربية وخاصة قيادات الجبهة والقائمة العربية الموحدة، على أنّهم أعوان لسلطة "مفرّطة وخائنة". لم ينحصر هذا بنقاش سياسيّ واع ومرغوب، بل كان بمثابة حملة تجريح وتخوين فاقت المتوقَّع وما يمكن تحمُّله. تحوَّلت هذه الاتهامات إلى عناوين وشعارات بُثَّت من القمة ورسبت لدى القواعد، التي، وبجهل مطبق، أخذت ترددها شتائم تقرن عمالة فلان بكونه حليفًا لأبي مازن وقيادات فتحاوية أخرى. بعض الاحتفالات والمناسبات قوطعت من قبل قيادة ونشطاء "التجمع" لأنها ضمّت قياديين "سلطويين" و"عباسيين".

وكما في فلسطين كذلك كان الأمر في سوريا وغيرها. فباسم "التواصل" العربي بررت قيادات التجمع ولسنوات طوال لحمتها ودعمها الفائق للقطر السوري ولقيادته الرشيدة وما إلى ذلك من أوصاف لا يعدمها قاموس المدح التجمعي سريع التحضير.

يحق "للتجمع" أن يغيِّر مواقفه إزاء هذا النظام أو ذاك، كما ويحق "للتجمع" أن يصوِّب تقييمه لعملية سياسية معينة أو لقرار، ولكن تحفظي كان ولم يزل، هو عندما يستسهل قادة الحزب ونشطاؤه مهاجمة من لا يوافقهم الرأي ويخونونه. فكما إزاء السلطة الفلسطينية هكذا تصرفوا في حق من خالفهم موقفهم إزاء النظام السوري أو القطري أو غيرهما.
يقلقني هذا التقلب ويقلقني أكثر هذا الاستهتار بعِبَر التاريخ ويزعجني هذا الإمعان في استعداء "الخصوم" السياسيين ويستفزني هذا التعالي الذي يسوٌغ توزيع شهادات الوطنية للمحظيين والخيانة على كل من لا يركب مركبهم.

كنت أتوقّع أنه وقبل العودة إلى حضن "التواصل الفلسطيني-الفلسطيني" أن يستدفئ قادة التجمع على حضن تواصل الأشقاء في ذات الخندق، هنا في الجليل والمثلث والنقب. ولكن أراني أنّهم يسعون وراء تواصل هناك لن تكتب له حياة، إذ ما قيمة ذلك وهنا ما زال سكرتير عام حزب التجمع يجاهر واثقًا أن النائب د. أحمد الطيبي "مرتبط مع المؤسسة الإسرائيلية" وأنّ الجبهة تؤمن وتدعو لإقامة دولة يهودية وأن... وأن.. (المدهش أن نقرأ أن اتهام الطيبي هذا جاء على خلفية رفعه علم فلسطين في مظاهرة كبيرة في وسط تل أبيب).

قواميس المدح والردح متاحة في أكشاك أرصفة الشوارع، سهل نيلها ولا تستدعي فقهًا ولا علمًا، ولكن أن تقيم تواصلًا مجديًا هذا شأن يتطلب حنكة وحكمة، وأن تبني حصون الممانعة حول دارك فهذا واجب الساعة ولهذا "أبغض بغيضك بغضًا رويدًا/ إذا أنت حاولت أن تحكُما" فلله درها من حكمة.

لم ينتظر الرئيس محمود عباس اعتذار "التجمع" ولكن من الحكمة والإكبار والإنصاف أن يعتذر قادة الحزب أمام جمهورهم أولا ولكل من اتهموه وخوَّنوه لموقفه ودعمه قيادة فلسطين. وليتوقفوا عن كيل التهم للغير، فكما قلت، أكرر، لا فضل لعربي على عربي إلّا بما يقدمه لأبناء قرانا ومدننا هنا. لن يضير وطنيًا اتهامٌ بأنّه "متأسرل" كما لن يزيد أحدَهم شرفًا تشاوفٌ بأنه "مستقطر".

أما المزايدة بفلسطين فلن تسعف ولن تجدي، لأننا ولدنا فلسطينيين ونعيش هذا وسنموت عليه. إنّه الدم يا أخي وإن كان البعض مصممًا على نكرانه علينا سنمضي خلفا لخير سلف مؤمنين "أن لنا عزًا يمنعنا من أن نُظلَمَ/ وأن لنا حِلمًا يمنعنا من أن نظلِم".

فرويدك يا أخي واحكُم !

CONVERSATION

0 comments: