أيام قلائل تلك التي أمضيتها بين ظهران شعب 25 يناير، لم تمتلكني مشاعر الرهبه التي سبق وأن استوحشت منها في مجتمعات أخرى، منها العربية وغير العربية، لأنها تلك السمراء التي رسمتُ لها لوحة في مخيلتي سابقاً، والتي تمنيت زيارتها لأكتب في صفحة عمري أن قدماي وطأت كنانة الناصر جمال، والفاتح عمرو بن العاص، والثائر أحمد عرابي، والشباب البسيط الذين حولوا "ميدان التحرير" لمحارة تخرج من جوفها ما ينبض بالأمل والمستقبل، وحياة عنوانها المساواة بين ملايين الفقر وجموع الأثرياء، وحشود مليونية ترسم بين أذرع حاضنة النيل قصة الهرم ويناير.
ليس غزل ذاك الذي أكتبه بعد أيام، فلا أجيده ولا أتقن أبجدياته، ولكنه إحساس وإنطباع بسيط لا يتعدى حدود الشعور الداخلي الذي إرتسم على لوحة الأعماق، وخاصة عندما داست قدماي (ميدان التحرير) الذي وقفت وسطه مندهشاً، هل هذه البقعة المزدحمة مَن غيرت وجه التاريخ المصري، لا بل والعربي، والمنطقة؟!!! وهل تشهد فعلاً ميلاد يُشرق مستقبل واعد لأجيال يحذوها الأمل بغدٍ أفضل؟ وشمس أدفء؟
لست مستوحشاً الساعات والأيام، ولا يغزوني الحنين لأقسى بقعة حياتية في عالمنا المعاصر(غزة) لأن الوطن دوماً يستحضر روحه في الوجدان، ويبعث فينا آيات الصبر، ويحثنا على الصمود والتحدي، ويأمرنا أن نقاتل ونثابر للعوده له بذكريات، وأدوات الصمود، لذلك لم تسعفني وجدانيات القلب للإستوحاش لأننا نقف بلحظة وسط مسكن مؤقت بين من أؤمن بهم(الفقراء)، والمهمشون على خارطة تضاريسية بشريه إقتصادية، تمتزج آهاتهم وآلامهم، ومعانياتهم، لأستلهم منها قبلة الشرق وأخاطب غزة من هنا، صادحاً إشهدي أن هناك من يُحبك. هم آولئك اللاهثون في طوابير صباحية كعادة يومية لمن يمارس رياضة الاصطفاف والوقوف على عتبات رغيف العيش المدعوم حكومياً، يعضون آه الجوع، ويحتضنون آلم غزة، كما يحضنوا آلم قاهرة المعز، الباسمون في شوارع مزدحمة يكسوها الزمن بقسوته، مستصرخين عنفوانك، ومستذكرين شهداؤك.
بالأمس امتزج دم شهداء النكسة في ذكراها الرابعة والأربعين مع تلك النظرات البريئة، والإنبهار من ذاك الشاب الأسمر الصغير الذي ما أن عرف فلسطينيتي حتى باغتني بالقول" سنذهب لكم" "سنآتي لكم".
إذن هي مصر الشعب الذي تمرد علىّ الفتنة بعدما تمرد على القهر والظلم، وإنعتق من عبودية " ثقافة الرعب" التي تكونت مع الجنين في رحم الرعب العربي الرسمي، متغلباً على عثمانية التخلف التي عشنا في عزلتها أبان حقبة الإنحصار القومي، والحصار الثقافي في دهاليز القرن التاسع عشر، ولكن إلى أين؟!!!
سؤال يحاكي أيام قلائل رأيت صياغتها في نظرات أبناء مصر، مسلمين وأقباط، فقراء وأثرياء، تتحادث بها نظراتهم، وتنطق بها ألسنتهم، بالجهر والعلن، وينتظرون ريشة الثورة أن ترسم لوحة المستقبل ومعالمه، وتتخذ من الماضي والحاضر مزيجاً من الألوان المنسجمة لتبهر الناظر لبريقها.
إلى أين؟!!!!!
لا يمكن الحكم على التجربة في هذا الزمن البسيط، ومن الغباء أن نطالب مصر بالكثير الآن، ومن الغباء أيضاً أن لا نطالبها بالكثير كذلك، لماذا؟!! لأنها مصر التي منحها التاريخ صكوك وِزر هذه الأمة، وصدى صرخاتها وآلامها المبعثر في أرجاء ممتدة ما بين المحيط والخليج، منبعثة من صدور مكلومة.
لأنها مصر التي دون التاريخ على صفحاتها وتضاريسها مواقع المسؤولية، دوماً في رسم مستقبل ومعالم المرحلة، ومحاكاة نبض القلب وفكر العقل، دون الغفران لها سقطاتها، وتقاعسها عن أدوارها، ومهامها.
إننا نحزن على مصر ولكن ليس حُزن على ضعيف، أو كسير، بل حُزن على عبء المسؤولية، وحجمها، في مثل هذه الظروف العصيبة والخطيرة التي تلقي بظلالها على مصر بعد التغيير.
أعود للوراء خطوة واحدة لأقف أمام المشهد من جديد، وأنا أتأمل ذاك العجوز الذي تملئ وجهه تجاعيد الزمن، وهو متكئ على عصاه يستوحي من الذاكرة التاريخ ليعبر عنها بثقافته بكلمات مختصرة تحمل من المعانِ الكثير الكثير، فيقول: " الأصيلة تعمل بأصلها"، لذلك نحن دوماً نقسوا على الأصيلة، ونغضب منها، ونقول لها هل من مزيد؟
إذن، فالمرحلة صعبة وخطيرة، ومعقدة ومتشابكة في طلاسمها الغامضة، ولكنها منظمة وهادئة، تدرك مفاتيح الحل وفك رموز شيفراته، وهي تمضي ما بعد 25 يناير مدركة أن القادم أكثر تعقيد، وأن المسؤوليات متشابكة بين المحلي، والإقليمي،ِ والدولي، في منظومة مصالح سياسية، واقتصادية متشابكة ومترابطة، وضغوط يومية دائمة، أكثر جسامة مما مضى.
نعم، نستصرخ حضارات فرعون ووادي النيل أن تكون كما نأمل ونطمح، ونريد لأنه لا يمكن غض البصر عنها، فهي قاعدة ثابتة لا إجتهاد فيها، ولا تتعدد فتاويها، لأنها مصر.
لا زلت مؤمناً أن الثقافة تُستمد من آلام البسطاء والمعصومين من ترف الحياة، لأنهم من يزدونا بنبض الحقيقة ووحي أفكارها، ومصداقية التعبير عنها، والكتابة على جداريتها الفسيفسائية، ولذلك استدرجتني الأحياء الشعبية لأتناقل بين تلك الوجوه مستنبطاً وحي البدايات، وأولى الحلقات في الكتابة عن مصر.
0 comments:
إرسال تعليق