ليس جديدا أن إسرائيل تتصرف كمعسكر حربي وليس كنظام دولة، المواقف السياسية ، وهو المجال الذي نفهم به،ونجهل أي فهم بالمسائل العسكرية إلا بصفتها استمرارا للسياسة بلغة المدافع، يبشر المجتمع الإسرائيلي بحروب بلا نهاية، وبموت من أجل قيم لا تسوى بكاء طفل فقد والده لضمان استمرار تنكر حكومته لحقوق الآخرين.
في هذا الأسبوع انطلقت صفارات الإنذار في جميع أنحاء الدولة، في تدريبات حربية تفترض هجوما بالصواريخ ، وربما بعضها تحمل سلاحا بيولوجيا أو كيماويا أو غيره من عصارة العقول التي لا تفكر إلا بالموت والدمار.
رغم علمنا ، أن الصفارات هي لضرورة التمرينات على مواجهة هجمات حقيقية، إلا أن ما خلفته من رعب في نفوس مئات الآلاف من المواطنين ، خاصة الصغار، يجعل كل إنسان يملك عقلا ، وليس كتلة مليئة بخطط لا تفكر إلا بأفضل الطرق لتدمير حق الآخرين بالحياة، عقلاني يفكر بغير القوة والحرب والانتصارات الوهمية. وكما قال ابراهم بورغ ، رئيس الكنيست الأسبق:" كل دولة تحتاج إلى قوة بدرجة معقولة. إلى جانب القوة تحتاج كل دولة أيضا إلى سياسة وقدرة نفسية على لجم القوة . لنا توجد قوة . الكثير من القوة وفقط قوة . لا يوجد لنا أي بديل للقوة ، ولا نملك أي فهم أو إرادة عدا أن نجعل القوة تتكلم .." .
التمرينات نفسها دلالة على نهج سياسي مغامر وفكر كنا نظن انه تلاشى من قرننا الحادي والعشرين، وعقليات وخطط لا تترك مكانا للعقلانية السياسية ، وللبحث عن طرق لا تدفع شرقنا الأوسط إلى تخليد فكر الانتقام وعقلية التفاوض بالمتفجرات . هذه حقيقة يجب أن تقلق العالم كله ، لأن الثمن لن يكون من نصيب شعوب الشرق الأوسط فقط !!
حقا إسرائيل مجتمع غني ، مجتمع علمي متطور ، مجتمع صناعي وتقني بالغ الرقي، مجتمع أبحاث وتطوير قل مثيله على كوكبنا الأرضي، مجتمع منظم ومراقب لمصلحة الجمهور وسيادة القانون. ومع ذلك هناك تجاوزات بعضها بنصوص قانونية وبعضها بعقليات ومناهج لا تحتاج لقانون ، بل تناقضه، وكله شرعي ما دام يوجه ضد الجماهير العربية.. وضد الشعب الفلسطيني ، وضد اليهود الشرقيين وضد الفئات الاجتماعية الفقيرة .
ولكن بالمقابل ، يعاني المجتمع الإسرائيلي من فجوات هائلة في المداخيل، تضع المجتمع الاسرائيلي في الصف الدولي الأمامي بموازاة مجتمع دولة مثل الولايات المتحدة. وكثيرا ما أسمعت انتقادات يسارية عن المجتمع "الرأسمالي ألخنزيري" الذي يطمح إليه نتنياهو أيضا ،رغم انه لا يمكن تجاهل انه كوزير مالية في وقته، حقق انجازات هامة للاقتصاد الإسرائيلي، ولكنه كرئيس حكومة، ما يهمه كرسي رئاسة الحكومة وزعامة اليمين السياسية، ومنها تتشكل سياسته(بقناعة أو غير قناعة ، ما الفرق؟) التي ترى أن القضية الفلسطينية، كقضية مركزية تواجه إسرائيل، هي قضية "غير قابلة للحل". إلا إذا اعترف أبو مازن بيهودية الدولة ، وبالحدود كما يريدها نتنياهو، وبحق إسرائيل في ضم القدس الشرقية وغور الأردن وشمال البحر الميت ، واستمرار سيطرتها على مصادر المياه الفلسطينية، وبأن الفلسطينيين، المواطنين في إسرائيل هم دخلاء وغزاة على دولة إسرائيل ، وبما هناك خطط لنقل جزء كبير من المواطنين العرب في إسرائيل الى السلطة الفلسطينية بما يعرف بتبادل الأراضي، أي أن نصيب الفلسطينيين أن يحصلوا على أراضي بديلة ولكن مليئة بالسكان مقابل الأراضي التي صادرتها إسرائيل وبنت عليها مستوطنات ستجعل الدولة الفلسطينية مجرد كانتونات هزيلة تفتقر لمركبات دولة . وربما على أبو مازن أن يضع على أبواب المقاطعة والوزارات الفلسطينية ومجلس الشعب الفلسطيني والسفارات الفلسطينية، التعويذة اليهودية التي تسمى بالعبرية "مزوزة" (مزوزة: رق صغير يكتب عليه إصحاحان من سفر التثنية 6, 4 - 9 11, 13 - 21 وهما جوهر ديانة التوحيد اليهودية مغلف ومثبت على إطار باب مدخل دار كل يهودي) وبذلك يثبت أبو مازن صلاحيته ليفاوضه نتنياهو ، ويعطيه دولة كانتونات محاصرة برا وجوا وبحرا ولا منفذ لها إلا عبر بوابات الجيش الإسرائيلي.
نفس العقلية تسود على المستوى الاقتصادي.
هناك سياسة إفقار للفئات الاجتماعية اليهودية الضعيفة،وخاصة لليهود الشرقيين، وبالطبع ما يعانيه الوسط العربي من التمييز في جميع مجالات الخدمات والتوظيفات والميزانيات،تشل إمكانية تقدمه . ومن ناحية أخرى زيادة الغناء الفاحش للأوساط الغنية، وبالتالي أتوقع أن موضوع الفجوة الاجتماعية اقتصادية الآخذة بالاتساع الجنوني،على مستوى المجتمع الإسرائيلي كله والمجتمع اليهودي بالتأكيد، ستكون الموضوع الذي سيقود إلى انفجارات اجتماعية قادمة، نشهد اليوم تحركا مثلا ضد أسعار منتجات الحليب، والمضحك أن منتجات إسرائيل من نفس النوع، ومن إنتاج إسرائيل، تباع في أوروبا بنصف أو ثلث ثمنها الذي تباع فيه في إسرائيل. اليوم الحملة أخذت منحى حول موضوع محدد ( أجبان معينة من إنتاج صناعات الحليب)، وأحدث ضجة حكومية وبرلمانية وشعبية عنيفة، وهناك مقاطعة جماهيرية لهذه المنتجات عبر تنسيق الحملة في المواقع الاجتماعية، بمشاركة أكثر من 60 ألف إنسان عبر تلك المواقع ( كما يبدو تعلموا من الثورات العربية) بل وأعلن مراقب الدولة انه سيفحص الموضوع من جذوره. وتحرك وزير المالية ووزير الزراعة ووزير العمل والرفاه، لتنسيق الجهود أمام هذه العاصفة النضالية الاجتماعية – اقتصادية غير العادية في إسرائيل، والتي لها إسقاطات سياسية مقلقة لنتنياهو وأعضاء حكومته ، ويحاولون حل الإشكال عبر التلويح بكسر احتكار الحليب بفتح السوق أمام المنافسة ، باستيراد منتجات من دول أخرى ، بينما الحل هو في إعادة الرقابة على أسعار المنتجات الأساسية .
متى سنشاهد تحركا في الشارع ضد السياسة التي أنتجت هذا الواقع المشوه؟ ضد السياسة التي لا تحمل بشارة سلام واطمئنان وحياة إنسانية طبيعية ؟
من الصعب الإجابة. الواقع السياسي ، واقع الصراع الفلسطيني إسرائيلي ، لعب دورا سلبيا في شل حركات الاحتجاج الاجتماعية، ولكن شيئا ما بدأ يتحرك. التحرك على المستوى الاقتصادي والاجتماعي سيكون فاتحة لما هو آت لا محالة. من الخطأ تصوير الشعب اليهودي بأنه يريد إستمرار النزاع. لا يوجد إنسان ، يحلم بحروب متواصلة يورثها لأبنائه وأحفاده وأحفاد أحفاده. هناك مهووسون ، لهم مكان آخر معزول عن المجتمع البشري!!
هل يحاول نتنياهو أن يستغل حالة اللاحل والتوتر السياسي ، وما يمكن أن يحدثه التسانومي السياسي الفلسطيني في مواجهة إسرائيل في الأمم المتحدة وعلى مستوى دول العالم المختلفة، بشل النضال الاجتماعي والاقتصادي العادل في المجتمع الإسرائيلي؟
هذا مطروح بالتأكيد، وهو ليس جديدا على السياسات الرسمية في إسرائيل.
نتنياهو من الذكاء ليعرف أن الانفجار الاجتماعي سيسقطه سياسيا حتى في أوساط اليمين.وهناك ظواهر قوية لتحرك على مستوى اجتماعي واقتصادي لانجاز تحولات لصالح القوى الضعيفة اجتماعيا، ولصالح الخدمات الطبية ، والضمانات الاجتماعية والرفاه. والأوساط النشطة تشكل تحالفا واسعا بدون صبغة سياسية. إن زيادة الفجوة الاقتصادية بين فئات المجتمع اليهودي نفسه، هي طريق لا مخرج منها، ستضمن سقوط حتى سياسات إسرائيل الاحتلالية.
الخطر هنا بالقيام بمغامرة عسكرية، وهذا ليس غريبا على التفكير السائد في المؤسسة السياسية والعسكرية في إسرائيل. لأنهم يملكون القوة، هذه حقيقة، ولا يملكون المنطق وراء التفكير باستعمال القوة..وظنهم ( أو وهمهم المتجدد دوما) أن ضربة عسكرية ستعيد الالتفاف حول سياسة الحكومة والتغاضي عن الواقع الاجتماعي الآخذ بالتأزم.
يبدو لي أن شيئا ما تحرك، وما كان صحيحا في مغامرات عسكرية سابقة، لم يعد مقنعا اليوم لأوساط واسعة جدا من أبرز الأوساط الاجتماعية والثقافية والأكاديمية صاحبة التأثير الآخذ بالاتساع. كذلك لا نتجاهل أيضا أن الصحافة في إسرائيل مليئة اليوم بتحاليل واستنتاجات فكرية وسياسية لم نتعود عليها في السابق، بمثل هذا الاتساع وهذا الوضوح ، وهذه القوة والتصميم، وكلها تدين تصرفات حكومة نتنياهو بحدة، وتحذر من سياسته المغامرة ونتائجها المدمرة لدولة اسرائيل في مختلف المجالات.
إن نتيجة معركة الحليب ستدفع إلى معارك في جبهات أخرى تخص المواطن، وترفض سياسة خدمة أصحاب الرساميل على حساب زيادة إملاق المواطنين. وأتوقع أن يبدأ الوعي الجماهيري بفهم أن الاستيطان يشكل سرقة لثروة الدولة وتبذيرا لا مستقبل له، عدا كونه يدفع إلى عمليات انتقامية فلسطينية من تنظيمات مختلفة، وليس فقط من تنظيمات إسلامية. وهناك حسابات تشير إلى أن ما وظف في الاستيطان والدفاع عن سوائب المستوطنين ، يوازي العديد من الميزانيات السنوية لدولة إسرائيل. وان سياسة التخطيط للحروب، لم تعد مضمونة كما كانت مع الدول العربية في منتصف القرن الماضي.
ولا بد من سؤال: هل تريد دولة الفقراء الحرب؟! هل يريد 850 ألف طفل جائع في إسرائيل الحرب؟! هل يريد 1.7 مليون إنسان يفتقدون للطعام ولحياة إنسانية الحرب؟! هل تريد أمهات وآباء آلاف الجنود أن يعود أولادهم بصناديق مغلقة؟!
إن دولة تصرف عشرات مليارات الدولارات لشراء طائرات حربية من الجيل الأكثر تقدما في العالم ، حين يعاني خمس سكانها من الفقر ، هي دولة فقدت كل المعايير الاجتماعية ، وباتت تتصرف كمعسكر حربي وليس كدولة.
مأساة المجتمع الإسرائيلي تبرز في اضمحلال القيم الاجتماعية والخطط الاجتماعية في نشاط الأحزاب، وكان، حتى وقت قريب، كل حزب يطرح موضوعاً اجتماعياً ينظر إليه كنبتة غريبة في غابة الأحزاب والسياسة في الدولة، ويفتقد للحس "القومي" ، والى آخر هذه الاسطوانة التي أصبحت جزءا من لغة وتفكير مجتمع مصاب بداء التطرف والانفلات العنصري.
ولكن يبدو أن معركة الحليب غيرت مناهج تفكير عديدة، وأغامر وأقول أن الثورات العربية تركت تأثيرها الايجابي على الواقع الإسرائيلي.
المنافسة الحزبية اليوم، تتجاهل الواقع الاجتماعي وتشد المجتمع نحو اليمين، نحو التعصب الديني المتزمت، نحو التطرف السياسي القومي، وليس سرا أن رجال أكاديميا من إسرائيل يتحدثون عن فاشية دينية آخذة بالاتساع وتتحالف مع الفاشية القومية، والجماهير العربية في البلاد تعرف بالتجربة المرة ظواهر الانفلات العنصري الفاشي المتحالف مع اتجاه ديني يغذي تطرفه وعنصريته.. ويقف على رأسه رجال دين ، قادة تيارات دينية ، وبعضهم يتبوأ مراكز مؤئرة مثل حاخام مدينة صفد ، إلى جانب ظاهرة الأحزاب الفاشية ممثلة بحزب "يسرائيل بيتينو"( حزب وزير الخارجية ليبرمان) على كل تركيبتها الغريبة. والموضوع لم يتوقف على اقتراح قوانين عنصرية فقط ، بل تجاوز إلى التحريض ضد المواطنين العرب وحقهم بالسكن في البلدات التي بنيت على أراضيهم مثل الناصرة العليا وكرمئيل وغيرها.
إن ما يقلق حكومة إسرائيل ورئيسها ليس 850 ألف ولد جائع، بل بناء آلاف وحدات السكن في القدس والمناطق المحتلة. وما يجري في القدس ليس مجرد بناء وإسكان، بل تغييرات جوهرية عميقة للغاية ، منها مثلا شبكة مواصلات عبر مترو كهربائي أصبح جاهزا ، يربط كل أطراف المدينة المحتلة بمستوطناتها مع القدس الغربية، وشبكة ضخمة من الشوارع الجديدة والمداخل الجديدة ، عدا استمرار شراء الأرض واحتلالها بحجج مختلفة ، وهدم وإخلاء أحياء عربية كاملة، والتعهدات العربية المالية أضخت في خبر كان، فهل ينتظر أحد ما أن ينجح الشعب الفلسطيني تحت الاحتلال ، في مواجهة مليارات بلا نهاية تتدفق على برنامج تهويد القدس العربية ؟
والحقيقة أنها أضحت يهودية أكثر مما هي عربية.
ما يقلق هذا النظام ليس سد الفجوة بين الأغنياء الأسطوريين في الدولة، والفقراء لدرجة الإملاق، يهوداً وعرباً، بل التخطيط لحرب توقع آلاف القتلى، ومحاولة جر أمريكا إلى حرب جديدة مدمرة للشرق الأوسط، وربما تمتد إلى مناطق أخرى من العالم.
أجل حرباً جديدة لن تكون جولة من ستة أيام، حرباً جديدة ستفتح أبواب جهنم ولن تغلقها لا بشهر ولا بسنة ولا بعقد كامل من السنوات، ولن تنفع إسرائيل عندها أن تقيم لجاناً لفحص نتائج التورط الجديد ، الذي سيعيد الواقع في إسرائيل برمته إلى سنوات السبعين من القرن الماضي ، حسب ما قاله احد الجنرالات . وربما تكون نظرة ذلك الجنرال متفائلة، وسيكون الانهيار "نصر شر من هزيمة" ، إذا لم يكن هزيمة بمفاهيم الانهيار الكامل والشامل.
للأسف لا أحمل بشارة للناس البسطاء، يهودا وعربا. ولا أرى آفاقا وردية في المستقبل المرئي. هناك أصوات كثيرة عقلانية وتحذر من التدهور المتواصل وإمكانية المغامرات العسكرية. وما يزيد من خطورة الوضع هو ضعف الإدارة الأمريكية ، التي تلقى رئيسها اهانات عديدة من رئيس حكومة دولة حليفة وتعتمد على الدعم الأمريكي الكامل، ربما بالأكسجين أيضا، الذي يتنفسه مواطني الدولة.
أوساطا يهودية قلقة من تصرف نتنياهو، مع الإدارة الأمريكية ، ويرون أن التحالف الاستراتيجي بينهما ، سيتحول إلى مجرد علاقات صداقة غير ملزمة إذا تواصلت سياسة نتنياهو في تجاهل الجهود الأمريكية لإنهاء النزاع على أساس مقترحات الرئيس اوباما (حدود 1967 كقاعدة) ، وحل هذا النزاع بات من الأمور الحيوية لأمريكا نفسها، لإخراج الشرق الأوسط من نزاعه الذي امتد تأثيره المدمر بعيدا عن الشرق الأوسط أيضا، وباتت تكلفته للميزانية الأمريكية مقلقة ومرهقة.
إن التفكير بالقوة العسكرية وحسابات الحرب، حول إسرائيل إلى إسبارطة عظيمة، قوة عسكرية ضاربة ورهيبة، ولكنها لن تكون أكثر من إسبارطة بحكم التاريخ ونتائجه، ولا أعرف في التاريخ ألقديم أو الحديث، أي استثناء للإمبراطوريات التي اعتمدت القوة والحرب كسلاح لا بديل له.
nabiloudeh@gmail.com
0 comments:
إرسال تعليق