منذ ثمانينيات القرن التاسع عشر وقادة الحركة الصهيونية يحلمون بأرض فلسطين خالية من سكانها العرب، في الوقت الذي بدأت فيه أفواج المهاجرين اليهود الأولى تصل إلى فلسطين وتستوطن فيها، وتشتري آلاف الدونمات بمساعدة الوكالة اليهودية وعشرات الأثرياء اليهود، وتبني فيها عشرات التجمعات السكنية، وقد كانوا يسابقون الزمن وهم يحاولون زيادة أعدادهم، ومضاعفة مستوطنيهم في مختلف المدن الفلسطينية، فحلم إسرائيل كان ومازال المزيد من الأرض، والقليل من السكان العرب، والكثير من السكان اليهود، فقد أدركوا أن الإنسان اليهودي هو عماد مشروعهم الاستيطاني، وأنه بدون المهاجر اليهودي فلن تكون لهم دولة إسرائيلية فوق الأرض الفلسطينية، ولن يتمكنوا من إعمار الأرض التي يسيطرون عليها، كما لن يتمكنوا من حمايتها والحفاظ عليها تحت سيطرتهم، فقد كانوا يدركون أنهم في مواجهة شعبٍ وأمةٍ أكثر عدداً منهم، وأكثر ارتباطاً بالأرض والمقدسات منهم، ولهذا انصبت كل مشاريعهم الاستراتيجية على تفريغ فلسطين من سكانها العرب، وجلب مئات آلاف اليهود للاستيطان مكانهم، والسيطرة على أرضهم وإعمارها وصبغها بالصبغة اليهودية، وشطب هويتها العربية التاريخية الأصلية عنها.
اعتمدت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة، وقادة الجيش الإسرائيلي، ومختلف قادة القطاعات العسكرية فيه سياسة التهجير وطرد السكان الفلسطينيين من أرضهم، فاتبعت معهم سياسة الأرض المحروقة، فدمرت بيوتهم وبساتينهم وممتلكاتهم، وأقدمت على ارتكاب مئات المجازر الجماعية بحقهم، ولاحقت رجالهم وشبابهم، وعمدت إلى جمعهم في المدارس والساحات العامة وقتلهم بدمٍ بارد، في الوقت الذي كانت تسهل للسكان مغادرة مناطقهم، واللجوء إلى دول الجوار، فهيأت لهم الطريق للعبور إلى الأردن وسوريا ولبنان ومصر، فخرج خلال العقدين الخامس والسادس من القرن العشرين مئات آلاف الفلسطينيين من فلسطين التاريخية، ليشكلوا أكبر حالة لجوء يشهدها العالم في العصر الحديث، واستمرت المساعي الإسرائيلية المحمومة في تفريغ الأرض من سكانها، ولكنها اتبعت معهم سياسة الإبعاد الفردي، أو الإبعاد الضيق، الذي طال أفراداً وأسراً بأكملها، فضلاً عن فرضها لعددٍ من القوانين والأنظمة التي تقيد عودة المسافرين والغائبين الفلسطينيين، وتحول دون إجراءات لم الشمل التي تتطلع إليها آلاف العائلات الفلسطينية، التي مزقتها وشتتها القوانين والإجراءات الإسرائيلية العديدة، فحالت دون الأب وأولاده، والزوج وزوجته، والأخ وأشقائه.
ظنت إسرائيل أنها تستطيع أن تسابق الزمن، وأن تقلب الحقائق وتغير سنن التاريخ ونواميس الحياة، وأنها ستنجح في تطهير الأرض الفلسطينية من سكانها العرب، وستنظفها من شوائبها، وأنها ستجعل منها أرضاً يهودية نقية خالصة للمهاجرين اليهود، لا ينازعهم فيها أحد، ولا يزاحمهم على جغرافيتها أحد، وأنها ستنتصر على الفلسطينيين سكانياً وديموغرافياً، مما يجعل من حلم استعادة الفلسطينين لأرضهم مستحيلاً، وظنت أن إجراءاتها التعسفية اليومية المتمثلة في القتل والطرد والاعتقال والمنع، ستقتل الأمل في نفوس الفلسطينيين، وستجبرهم على التعاطي مع الوقائع الجديدة، والاعتراف بالحقائق التي تنطق بها الأرقام والإحصائيات، وأنها ستقنع المهاجرين اليهود بأن "إسرائيل" دولة آمنة مطمئنة، لا خطر يحدق بها، ولا قلاقل فيها ولا اضطرابات، ولا مظاهراتٍ وأحداث شغب، ولا وجود فيها لمقاومةٍ مسلحة، ولا لعملياتٍ عسكرية، وأنهم أصحابها الحقيقيون، وأن الذين كانوا يسكنونها من العرب الفلسطينيين قد رحلوا، ولم يعودوا فيها، ومن بقي منهم فيها سيرحل، وستجبره السياسات الإسرائيلية على المغادرة، ولن يقوى على مواجهة الآلة العسكرية المتطورة، ولا القدرة الإسرائيلية الكبيرة على الحلول مكانهم وطردهم من أرضهم.
ولكن الفلسطينيين خيبوا ظن الإسرائيليين جميعاً، وأسقطوا رهانات أرباب المشروع الصهيوني، وأثبتوا أنهم مرتبطين بأرضهم، وملتصقين بترابهم، ومتعلقين بوطنهم، وهم في داخل الوطن أكثر عدداً من اليهود كلهم، مستوطنين ومهاجرين، وأن أعدادهم في إزدياد، وسكانهم في تكاثرٍ مستمر، وهم الذين يصبغون أرضهم بهويتهم الدينية والحضارية الإسلامية والعربية، وأنهم متمسكين بأرضهم مهما تعاظمت الخطوب، واشتدت الأزمات، وأنهم لن يكرروا اللجوء من جديد، ولن يتركوا أرضهم ولو حاول الإسرائيليون حرقهم فيها، وقد أثبتت سياسة شارون ومن بعده في الضفة الغربية وقطاع غزة، خلال العدوان على مخيم جنين والحرب على قطاع غزة، أن العدوان الإسرائيلي مهما بلغ في وحشيته عليهم، وأن القصف مهما نال منهم فلن يجبرهم هذه المرة على الرحيل والمغادرة، وسيبقون في أرضهم منزرعين ثابتين شامخين عصيين على الاستئصال والخلع والطرد، ولن تتمكن إسرائيل هذه المرة من تطبيق سياستها، وتحقيق أحلامها بترانسفير فلسطيني آخر، كما لن تتمكن من تغيير المعادلة السكانية الجديدة، التي خلقها الفلسطينيون في الداخل، والتي ستفرض على الأرض واقعاً مغايراً يصعب تجاهله أو إنكاره، فأعداد اليهود في فلسطين في انخفاضٍ مستمر، مواليد ومهاجرين، ونسبة الذكورة لديهم تتناقص، ودرجة الشباب فيهم تتراجع، والشيخوخة فيهم تتقدم، وحلمهم في الأرض يتزعزع، واحساسهم بالخطر يتعاظم، وميلهم نحو السفر والرحيل يتزايد.
الفلسطينيون في الوطن والشتات يفوق عددهم اليوم العشرة ملايين فلسطيني، اللاجئون منهم في الشتات يتطلعون إلى اليوم الذي يعودون فيه إلى فلسطين، ويستعيدون حقهم فيها إقامةً وأملاكاً، وقد أثبتت مسيرات النكبة لهذا العام عزم الفلسطينيين جميعاً بكل أجيالهم الشابة والعجوز على العودة إلى أرض الوطن فلسطين، والإقامة فيها، وتحريرها من مستعمريها وطردهم منها، وأما الفلسطينيون في الضفة الغربية وقطاع غزة والأرض المحتلة عام 48، فإن أعدادهم في إزديادٍ مستمر، وقدرتهم على التوالد والتكاثر والتزايد تهدد المشروع الصهيوني كله، وهم عما قريب سيكونون أكثر عدداً من كل السكان اليهود المقيمين في أرضنا، فالخصوبة الفلسطينية في أرضنا عالية، ونسبة المواليد كبيرة، ونسبة الذكور إلى الإناث لافتة، وتعويض الشهداء والغائبين يفوق التصور، والمجتمع الفلسطيني مجتمعٌ فتيٌ شابٌ، نسبة الشباب فيه تفوق النصف، ومعدل الإزدياد العام في ارتفاع، والتجدد في المجتمع الفلسطيني مستمر، والانتماء متجذر، والعقيدة باقية لا تتزعزع ولا تضعف، بأن الأرض إلى سكانها ستعود، وسيرحل الغاصبون عنها، ولن يحميهم من قدر الشتات الجديد غير القبول بالعدل، والإقرار بالحق، وإعادة الحقوق إلى أصحابها، فنحن أصحاب الحق وعُمَّارُ الأرض.
0 comments:
إرسال تعليق