ربما أكثر بلد في هذا الكون يتأثر بتغير الوجوه القيادية في بلد مجاور له، هو تايوان. فأي تغيير يجري في هرم القيادة في بكين، تتابعه تايبيه بدقة وتطلق عنان أجهزتها المخابراتية لجمع أكبر قدر من المعلومات والأسرار عنه، وذلك في خطوة إحترازية تجنبا لقرار مفاجيء بإبتلاع تايوان وإعادة توحيدها مع الصين دون إرادة شعبها.
ومع إقتراب التاريخ المفترض لإنتقال الزعامة في بكين من الرئيس الحالي "هو جنتاو" إلى خليفته المحتمل نائب رئيس الجمهورية "زي جينبينغ"، وهو عام 1012 تزداد الأحاديث، وتتشعب المناقشات في الأروقة السياسية التايوانية عما إذا كان التغيير القادم في بكين سيكون فأل خير أو فأل شر على تايوان.
البعض، بطبيعة الحال، يستبعد حدوث أية تطورات جديدة بالمعنى الإيجابي لجهة العلاقة المتأزمة بين الجزيرة والبر الصيني عبر مضيق تايوان منذ عام 1949 ، مشددا على أن سياسات الرئيس الصيني الحالي "هو جنتاو" إزاء تايوان هي التي ستستمر وتسود، أو كما قال أستاذ العلاقات الصينية- التايوانية في جامعة "لينغنان" في هونغ كونغ البروفسور "وونغ ييو تشونغ": "إن الرئيس القادم مثل سلفه مجرد شخصية معتدلة لا ترنو إلى التأزيم"، أو كما قال رئيس جهاز الأمن الوطني في تايوان "تساي ته شينغ" من أن معرفة الرجل بتايوان ليست مدعاة للقول بأنه صديق للتايوانيين.
لكن هناك أعدادا متزايدة من التايوانيين تتبنى رأيا مناقضا، بمعنى أنها ترى في "زي جينبينغ" شخصية يمكن أن تفعل أكثر مما فعله "هو جنتاو" بكثير لجهة حلحلة المشاكل القائمة ما بين الجزيرة والبر، حتى وإن قيل أنه رجل لا يمتلك مؤهلات الرئيس الحالي العلمية والأكاديمية، كونه دخل الجامعة دون أن يكمل دراسته الثانوية، وإستند في صعوده إلى علاقاته الشخصية بكوادر الحزب الشيوعي العليا!
وإذا ما بحثنا عن المعطيات التي تجعل هؤلاء يتبنون مثل هذا الرأي بقوة، نجدها محصورة في عدة معطيات: المعطى الأول هو أن لزوجة "زي جينبينغ"، المطربة الشعبية المعروفة "بينغ لييوان" جذور عائلية في تايوان، وإحتضان الأخيرة إلى اليوم لأخيها و عدد من أقاربها ممن زارتهم وأقامت معهم لمدة ثمانية أيام في عام 1997 ضمن عملية تبادل ثقافي بين الإخوة الأعداء، علما بأن السلطات التايوانية تمتنع حتى اليوم عن الكشف عن عنوان إقامة هؤلاء، مكتفية بالقول أنهم يعيشون في مكان ما في بلدة "تشيايي"، ومعتبرة أن العنوان الكامل سر من أسرار جهاز المخابرات الوطني، وخصوصا في أعقاب تعيين بكين لـ "زي جينبينغ" كحاكم لمقاطعة "فوجيان"، بعد وقت قصير من عودة عقيلته إلى البر الصيني. وهذه المقاطعة لمن لا يعرفها تواجه سواحل تايوان داخل البر الصيني، و هي مسقط رأس للكثير من العائلات التايوانية المعروفة، ولا سيما تلك التي تدير أنشطة تجارية معتبرة، وتملك نفوذا في قطاعي المال والأعمال.
والحقيقة أن زيارة "بينغ لييوان" لأقاربها في تايوان صحبها إهتمام بالغ من السلطات الرسمية في تايبيه، وكأن الأخيرة كانت على علم مسبق بأن زوجها سوف يصعد إلى هرم السلطة يوما ما، إنطلاقا من منصبه كحاكم لمقاطعة "فوجيان". لكن ما لم يتوقعه التايوانيون هو أن تتعرض "بينغ لييوان" بمجرد عودتها إلى وطنها لبعض المتاعب من قبل شخصيات متشددة داخل الحزب الشيوعي الحاكم، على الرغم من حملها لرتبة ميجور جنرال، وعملها كرئيسة لإدارة الرقص والموسيقى ضمن دائرة الشئون السياسية العامة للجيش الأحمر. من هذه المتاعب مثلا، أنها – وهي المطربة المعروفة التي تلقى إقبالا وترحيبا من الملايين من مواطنيها في كل مكان تحل به - منعت من الغناء في الأماكن العامة، ربما كنوع من التهديد والتخويف والتذكير المبكر بضرورة إلتزام حدودها وعدم التأثير على قرار وعمل زوجها.
أما المعطى الثاني الذي يجعل التايوانيين متفائلين بصعود "زي جينبينغ" ألى هرم السلطة في بكين فهو ما كشفه أحد أعضاء البرلمان التايواني من عواجيز حزب "الكومينتانغ" التاريخي الحاكم في تايبيه، من أنه كان صديقا حميما لوالد "زي جينبينغ" الذي كان من القادة المؤسسين للجيش الأحمر، قبل أن يفقد مناصبه في حملة التطهير التي قام بها المعلم "ماو تسي تونغ" في الخمسينات، علما بأن الرجل عاد إلى الأضواء في الثمانينات كأحد رموز الإصلاح تحت قيادة مهندس الإنفتاح الإقتصادي "دينغ هسياو بينغ".
ويبدو المعطى الثالث أكثر أهمية. إذ بناء على ما صرح به عضو البرلمان التايواني، راحت بعض الاوساط الصحفية في تايبيه تنقب عن معلومات إضافية وأكثر تفصيلا حول الجذور العائلية لزعيم الصين المقبل، لتكتشف أن له صلة قرابة مباشرة مع أكثر من رمز من الرموز الوطنية التي كانت تحكم الصين قبل نجاح الثورة الشيوعية وإضطرت إلى الهرب إلى تايوان لتأسيس "جمهورية الصين الوطنية". وبناء على هذا الإكتشاف، لم يستطع "لاي شين يوان" رئيس مجلس العلاقات التايوانية – الصينية إلا تأكيد المعلومة، قائلا: " إنه ليس في الأمر غرابة، لأن الصينيين والتايوانيين في نهاية المطاف شعب واحد"
وأخيرا فإن المعطى الرابع يتجسد في حقيقة أن "زي جينبينغ" منذ أن كان حاكما لمقاطعة "فوجيان"، وطوال مشوار صعوده نحو القمة، إرتبط بعلاقات عمل جيدة وقوية مع التايوانيين، ولا سيما رجال الأعمال منهم. حيث إستطاع بلطفه وكياسته وقدراته الإقناعية أن يجذب الكثيرين من هؤلاء لإستثمار أموالهم في "فوجيان" بصفة خاصة، وبقية أنحاء البر الصيني بصفة عامة. وربما كان هذا النجاح هو أحد العوامل التي دفعت بنجمه إلى الصعود في أروقة الحزب الشيوعي الحاكم في بكين، بدليل نقله وتعيينه كحاكم لمقاطعة "زيجيانغ" المجاورة لمقاطعة "فوجيان"، كي يحقق فيها ما حققه في الأخيرة، وذلك قبل أن يعهد إليه بمنصب سكرتير الحزب الشيوعي في شنغهاي، وقبل أن يـُرفـّع إلى منصب نائب رئيس الجمهورية.
والحال أنه مع حلول العام القادم سوف يكون في بكين زعيما صينيا أكثر ودا وصداقة حيال تايوان، وأعمق خبرة في شئونها من سائر أسلافه. غير أن هناك من يقول أن موقف الرجل من تايوان وطريقة تعامله مع ساسة تايبيه ستعتمد بالدرجة الأولى على من سيكون في سدة الرئاسة في تايبيه في عام 2012. ذلك أن تايوان ستكون على موعد مع إنتخابات رئاسية جديدة في ذلك العام. وهذه الإنتخابات من الصعب التكهن حاليا بمن سيفوز فيها في ظل تقارب النتائج التي تعطيها إستطلاعات الرأي لمرشح حزب "الكومينتونغ" الحاكم، ومرشح الحزب الديمقراطي التقدمي المعارض. هذا الحزب الذي أثبت أكثر من مرة خلال سنوات تولي زعيمه السابق "تشين شوي بيان" رئاسة الجمهورية في تايوان، أنه متشدد حيال قضية إستقلال تايوان وإنفصالها نهائيا عن التراب الصيني، الأمر الذي تسبب في وصول البلدين إلى حافة الحرب في وقت من الأوقات.
د. عبدالله المدني
باحث ومحاضر أكاديمي في الشئون الآسيوية من البحرين
تاريخ المادة: يونيو 2011
الإيميل:elmadani@batelco.com.bh
0 comments:
إرسال تعليق