جامعة الأسرى الفلسطينية/ د. مصطفى يوسف اللداوي


يهدد رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو بسحب حق الأسرى الفلسطينيين في التعليم، وحرمانهم من نيل الدرجات العلمية الجامعية، وهو الحق الذي انتزعه الأسرى الفسطينيون بدمائهم من سلطات الاحتلال الإسرائيلي نهاية العام 1992، بعد إضرابٍ طويلٍ وقاسٍ عن الطعام، خاضوه بأمعائهم الخاوية، وعزائمهم القوية، وإرادتهم الصلبة، وتحديهم العنيد، وتطلعهم بأملٍ نحو المستقبل، طالبوا فيه بالسماح لهم بتلقي التعليم الجامعي، والانتساب إلى الجامعات للحصول على شهاداتٍ جامعية، وكانوا من قبل قد تحدوا كل إجراءات السجان الإسرائيلي، الذي حاول أن يمنع عنهم لسنواتٍ طويلة الورقة والقلم والكتاب، وأن يحرمهم من حقهم في تقديم امتحانات الثانوية العامة، أو استكمال دراستهم الجامعية، أو تثقيف أنفسهم بأنفسهم في السجون والمعتقلات، فصادر كتبهم وكراريسهم، وحاربهم في جلساتهم الثقافية، وتعميماتهم الوطنية، وعزل المثقفين من الأسرى، وحال بينهم وبين تعليم إخوانهم، ولكن الأسرى أدركوا قيمة مواصلتهم لتعليمهم، ومدى النكاية التي يلحقها بعدوهم، والكسب الذي يحققوه لأنفسهم وللأسرى الوافدين من بعدهم، فأصروا على انتزاع حقهم وممارسته، وعدم التنازل أو التخلي عنه، وتحدي إجراءات العدو الساعية لتجيهلهم، وحجب نور العلم عنهم.

تخرج خلال سني السجن الطويلة من الجامعة الإسرائيلية المفتوحة مئات الأسرى الفلسطينيين وغيرهم من العرب، وحصلوا على شهاداتٍ جامعية عدة في العديد من العلوم الإنسانية، بعد أن واجهوا إجراءات التعقيد والعقبات الكثيرة التي كانت تفرضها إدارة الجامعة بالتعاون مع سلطة مصلحة السجون الإسرائيلية، إذ لم تكن تتعاون مع الأسرى الطلاب، ولم تكن تتساهل معهم، ولا تقبل أن تتفهم ظروفهم الصعبة ومعاناتهم المستمرة في السجون، وكانت تحدد عدد الأسرى الطلاب الذين يحق لهم الانتساب إلى الجامعة من كل سجن، ولا تسمح لأي طالبٍ جديدٍ بالانتساب إلى الجامعة قبل تخرج آخر، ولا تسمح للأسير الطالب بالدراسة قبل أن تستوفي منه كامل الرسوم الجامعية، وهي رسومٌ باهضة بالمقارنة مع غيرها، وكانت تمنع استئناف أي أسيرٍ لتعليمه في الجامعة إذا نقل من سجنه إلى سجنٍ آخر، إلا أن يحصل على موافقةٍ جديدة من إدارة سجنه الجديد، في الوقت الذي كان حرمان الأسير الطالب من الدراسة هو العقاب الحاضر دوماً، وهو العقاب الأقرب والأكثر فرضاً والأدق تطبيقاً، فقد حرم عشرات الأسرى الطلاب من التقدم للامتحانات بسبب تعرضهم لعقوبة العزل والحرمان أو النقل إلى سجنٍ آخر، وذلك قبل أيامٍ من بدء الامتحانات أو خلالها، ومع ذلك فقد تجاوز الأسرى كل هذه الصعاب والعقبات، وأثبتوا أنهم قادرين على تحدي السجان، وقهر كل محاولاته لتجيهلهم وحرمانهم من حقهم في التعليم.

نجح الطلاب الأسرى بالتعاون مع بعض الجامعات الفلسطينية والعربية في خرق الحظر الإسرائيلي الذي منع الأسرى من الانتساب لغير الجامعة الإسرائيلية المفتوحة، فحصلوا على شهاداتٍ جامعية من جامعاتٍ مختلفة، أبدت استعدادها للتعاون معهم، وكسر الحظر الذي فرضته عليهم سلطات الاحتلال الإسرائيلي، وسمحت لهم بمناقشة أطروحاتهم العلمية عبر الهاتف النقال مع الهيئات الجامعية المشكلة، واستمر نقاش بعض البحوث العلمية من داخل السجن عبر الهاتف النقال مع الأساتذة المناقشين في الجامعات الفلسطينية لأكثر من ساعتين أحياناً، أثبت خلالها الأسرى الطلاب جديتهم وعلميتهم وقدرتهم على تحدي الصعاب، ومواجهة التحديات، إذ لم يقصر الأساتذة المشرفون في مناقشتهم للأسرى الطلاب، ولم يخففوا عنهم رغم ظرفهم، ولم يسكتوا عن بعض أخطائهم، بل شددوا عليهم في النقاش، وتأكدوا من جديتهم وقدرتهم وتمكنهم من البحث الذي أعدوه، لينالوا بعد ذلك الدرجة العلمية بجدارةٍ واستحقاق، رغم تعاطفهم الكبير معهم، واعتزازهم البالغ بهم، وشعورهم بالنصر وهم يتحدون قرارات الاحتلال ومحاولاته ثني أسراهم عن التعليم والدراسة.

يظن رئيس الحكومة الإسرائيلية ومن نصحه من معاونيه ومستشاريه باتخاذ قراره بحرمان الأسرى من التعليم والدراسة، أن الشعب الفلسطيني والأمة العربية والإسلامية سيقفون جميعاً عاجزين ومكتوفي الأيدي إزاء قراره، وأنهم لن يستطيعوا مواجهة سياسته، وتحدي إرادته، وأن الأسرى سيمزقون كتبهم، وسيكسرون أقلامهم، وسيطفؤون ضوء شمعتهم، وسيطوون كراريسهم، وسيتوقفون عن الدراسة والتعليم، ولكن الفلسطينيين الذين أسسوا في منطقة مرج الزهور اللبنانية، جامعة ابن تيمية، فتحدوا الحكومة الإسرائيلية التي أبعدت المئات منهم، لن يقفوا عاجزين هذه المرة عن مواجهة نتنياهو، وسيبدأون في تأسيس جامعةٍ خاصة بالأسرى في السجون الإسرائيلية، تكون هي جامعة الأسير الفلسطيني، تتفهم ظروفهم، وتقدر أوضاعهم، وتؤمن بأهدافهم، وتيسر لهم سبل الانتساب إليها والدراسة فيها، وتجترح لهم الوسائل والسبل للإشراف عليهم، ومناقشة أبحاثهم، ومتابعة وتوجيه أطروحاتهم، وتقوم باعتماد شهاداتهم، وجلب الاعتراف لهم بها، وتوظيفهم على أساسها، فقد آن أوان أن تكون للأسرى جامعةٌ مفتوحة، ضمن أنظمة التعليم الجامعي المفتوح عن بعد، فنحن أولى بتأسيسها، وأحق من غيرنا بإنشائها، فقد غدت مهمة سهلة، ووسيلة ممكنة، فلنعجل بها لتكون هي أبلغ رد، وأقوى تحدي لنتنياهو وحكومته، فنكسر بها احتكار الجامعة الإسرائيلية المفتوحة، ونفتح آفاق التخصصات العلمية المختلفة أمام الأسرى، ولا نقصر العلوم لهم وفق الأهواء الإسرائيلية، والرغبات والتحديدات الأمنية، يوافقون على ماشاؤوا، ويرفضون ما يرون أنه يضر بهم، ويتعارض مع مصالحهم.

أثبت الأسير الفلسطيني والعربي في السجون والمعتقلات الإسرائيلية أنه أقوى من السجان، وأنه قادرٌ على التضحية من مكانه، والمقاومة من موقعه، والتصدي للعدو من سجنه، وأنه قادر على تحدي الصعاب، وتجاوز العقبات، ومواجهة سلطات الاحتلال، وأنه عنيدٌ لا يستسلم، وصابرٌ لا يتعب، ومقاتلٌ لا يعرف الهزيمة، ولا يقبل بالتراجع، ولا يعترف بعجز أدواته وإمكانياته، وسيواصل في السجون والمعتقلات مسيرته العلمية، ورحلته التعليمية، ولن يقبل بسياسات التجهيل، ومحاولات حجب النور والمعرفة، وسيخرجون من سجونهم أساتذةً متعلمين، وكتاباً ومفكرين، وشعراء ومحاورين، وقادةً وسياسيين، نابغين في علومهم، متميزين في تخصصاتهم، وسيتقدمون مسيرة الشعب، وسيواصلون مسيرة النضال والمقاومة، وسيكونون أصلب مما توقع العدو، وأثبت مما ظن المراهنون على سجنهم، أنه قتل فيهم الأمل والعزم والمضاء، وأنه سيقضي على روح الأمل فيهم، ولكن فألهم قد خاب، وسهمهم قد طاش، فأسرانا هم صقورنا البواسل، وأسودنا الأوائل في الوغى، وهم رجالنا الأشداء، ونجوم أمتنا التي توصوص في كبد السماء، سيبقون نجمةً تلمع، وزهرةً تتفتح، وعبقاً نتنسمه مع الأيام.

CONVERSATION

0 comments: