إن الاشتباك الدبلوماسي بين منظمة التحرير الفلسطينية وبين إدارة باراك أوباما الأميركية حول توجه المنظمة للحصول على عضوية دولة فلسطين في الأمم المتحدة في أيلول / سبتمبر المقبل يكشف مجموعة من الحقائق، أولها أن واشنطن قد تحولت إلى وكيل معلن لدولة الاحتلال الإسرائيلي مما يجردها من أي مؤهلات لأي وساطة محايدة نزيهة في الصراع العربي – الإسرائيلي، وثانيها أن مفاوضات المنظمة المستمرة منذ أواخر ثمانينيات القرن العشرين الماضي مع الولايات المتحدة بالوكالة عن دولة الاحتلال قد وصلت إلى الطريق المسدود ذاته الذي وصلت إليه مفاوضات المنظمة المباشرة مع دولة الاحتلال، وثالثها أن الإطار الثنائي لمفاوضات منظمة التحرير مع دولة الاحتلال بالرعاية الأميركية خارج نطاق الشرعية الدولة المتمثلة في قرارات الأمم المتحدة والقانون الدولي قد استهلكت ووصلت بدورها إلى نهاية الطريق.
وهذه الحقائق جميعها، وغيرها، هي إعلان صريح عن الفشل الذريع لكل الاستراتيجية التي جرى العمل بها طوال العقدين المنصرمين من الزمن لإدارة الصراع العربي الإسرائيلي في محوره الرئيسي الفلسطيني. وبينما من غير المنتظر أن يتخلى الراعي الأميركي لهذه الاستراتيجية عنها لأنه أرادها منذ البداية وسيلة لإدارة الصراع لا لايجاد حل عادل له، يبدو مفاوض منظمة التحرير، بافتراض حسن النية، مترددا هو نفسه في اعتراف كهذا ليظل متشبثا باستراتيجية فاشلة تشبث الغريق بثقل يجره سريعا إلى القاع وهو يظنه خشبة نجاة، مع "ان الأفق ينفتح في ذات الوقت أمام شعبنا وقضيتنا لاستعادة زمام المبادرة لتغيير أو تصويب مسار دام عشرين عاما على أمل، أو ربما وهم، بأن نرى النور في نهاية النفق، نور الحرية والاستقلال وحق تقرير المصير، فإذا بنا نكتشف أننا إنما دخلنا في نفق مظلم ومسدود تحرسه إدارة أميركية إثر اخرى وترعى صيانته رباعية دولية يتسلى بها (رئيس الوزراء البريطاني السابق وممثل اللجنة الرباعية الدولية) طوني بلير"، كما قال المفوض العام للهيئة الفلسطينية المستقلة لحقوق الإنسان د. ممدوح العكر في حفل تخريج مدرسة ثانوية برام الله يوم الأحد الماضي.
إن توجه رئاسة المنظمة إلى إبرام اتفاق القاهرة الأخير على المصالحة الوطنية كان من المفترض أن يكون مؤشرا إلى تحول استراتيجي، غير أن كثيرا من المؤشرات تدل على استخدام مفاوض المنظمة لهذا الاتفاق استخداما تكتيكيا لخدمة الاستراتيجية القديمة الفاشلة إياها، مما يهدد بإضافة الاتفاق الجديد إلى ركام الاتفاقات السابقة التي يعلوها الغبار. فعلى سبيل المثال، عندما تخير حكومة دولة الاحتلال رئاسة المنظمة بين "السلام" معها وبين السلام مع حماس، وعندما يعتبر الرئيس الأميركي أوباما اتفاق المصالحة في القاهرة "عقبة ضخمة أمام السلام"، ثم يطالب الرئيس محمود عباس بأن تكون أي حكومة وحدة وطنية منبثقة عن اتفاق القاهرة ملتزمة بالشروط الإسرائيلية الثلاث المعروفة التي تبنتها اللجنة الرباعية الدولية، وحكومة له، لا حكومة وحدة وطنية، حتى يضمن التزامها بتلك الشروط المفترض ان تكون قد سقطت بسقوط الاستراتيجية التي افرزتها إن لم يسقطها اتفاق المصالحة الوطنية ذاته، بحكم الأمر الواقع، فإن ذلك يشير إلى استنتاج واحد فقط هو استمرار تشبث منظمة التحرير ومفاوضيها بالاستراتيجية القديمة ذاتها.
ولم يعد احد يجادل بأن استراتيجية العشرين عاما الماضية قد استهلكت ذاتها، وكل الدلائل العملية والموضوعية تؤكد ذلك. وبما أن الحركة من معالم الحياة ذاتها، فإن "الانتظار" على الحد الفاصل بين الاستراتيجية القديمة المستهلكة وبين استحقاق تبني استراتيجية جديدة ليس سياسة حكيمة على الإطلاق، فهي تضع القضية الوطنية في مهب الريح. وهذه القضية تقتضي الآن رص الصفوف الوطنية حول استراتيجية بديلة. والاستراتيجية البديلة الوحيدة المتاحة هي استراتيجية المقاومة. واستراتيجية المقاومة ليست خيارا ناجما عن رفاهية اختيار بين العديد من الخيارات المتاحة، لكنها الخيار الوحيد الباقي الذي تمليه التطورات الموضوعية:
فالفشل الذريع للاستراتيجية التفاوضية قاد إلى انسداد مسار التفاوض الثنائي المباشر مع دولة الاحتلال، ثم قاد إلى انسداد مسار التفاوض غير المباشر مع دولة الاحتلال بالوكالة الأميركية، مما قاد إلى الاشتباك الدبلوماسي الجاري حاليا بين مفاوض منظمة التحرير وبين الوكيل الأميركي لدولة الاحتلال، وهذا الاشتباك يتصاعد كل يوم ومن المتوقع أن يبلغ ذروته في أيلول / سبتمبر المقبل، ومن المتوقع عندها أن يتحول إلى اشتباك على الأرض.
ونذر الاشتباك الميداني معلنة، فدولة الاحتلال وحكومتها لا تخفي استعداداتها العسكرية وغير العسكرية، فهي هددت فعلا بعدوان جديد شامل "لاجتثاث بؤر الإرهاب" في قطاع غزة، وهددت فعلا بإعادة احتلال مناطق سلطة الحكم الذاتي الفلسطيني التي لم تنسحب قواتها بعد من جزء كبير منها أعادت احتلاله عام 2002، وهددت فعلا بضم الضفة الغربية بكاملها كأحد ردودها على أي اعتراف من الأمم المتحدة ب"دولة فلسطين"، إلخ.
وكل المؤشرات تدل على مواجهة آتية بهذا الشكل أو ذاك، ميدانيا مع الاحتلال ودولته، ودبلوماسيا وسياسيا مع وكيله الأميركي على الصعيد الدولي. ومن المؤكد أنه ليست في مصلحة الشعب الفلسطيني أن تتكرر طوعا تجربة حصار أي قيادة له كما حوصر الراحل ياسر عرفات كرها حد أن يعجز عن حضور أو حتى أن يخاطب بالهاتف مؤتمرا خطيرا للقمة العربية في بيروت كان يستعد لتقرير مصير الشعب الفلسطيني في غياب ممثله الشرعي مثلما حدث عندما تبنت تلك القمة "مبادرة السلام العربية"، مما يستدعي البحث عن "مساحة حرة" تكون ملاذا آمنا يقي أي قيادة فلسطينية من أي مخطط أميركي ل"تغيير" النظام أو مؤامرة إسرائيلية ل"تصفية" القيادة كما حدث مع عرفات وقيادته ونظامه، مما يذكر بأن إحدى الحجج التي يتذرع بها من ورطوا االشعب الفلسطيني في أوسلو واتفاقياتها كانت أن الوطن العربي الكبير ضاق على اتساعه عن مساحة حرة تتحرك منها القيادة الفلسطينية بحرية.
وفي انتظار المواجهة المتوقعة والبحث عن مساحة حرة تلوذ القيادة الفلسطينية بها يبدو الوطن العربي الكبير أكثر ضيقا بالمسؤولية القومية تجاه القضية الفلسطينية مما كان عليه قبل عقدين من الزمن، وتبدو المساحة الحرة الوحيدة التي تمارس الإرادة الفلسطينية ذاتها بحرية موجودة اليوم فقط ، ويا للمفارقة، في قطاع غزة المحاصر، حيث توجد قيادة فلسطينية بالرغم من الاحتلال، لا بالاتفاق معه، وحيث بطاقات الفي آي بي الإسرائيلية غير معتمدة ومنتهية الصلاحية، وحيث تنفتح في رفح نافذة سيادة فلسطينية بعد أن قرر الشعب المصري أن يمارس سيادته على الجانب الآخر من الحدود، وحيث التنسيق الأمني الوحيد المعمول به هو التنسيق بين فصائل العمل الوطني مجتمعة مع الشعب في التصدي جماعة لأي اختراق إسرائيلي بينما التنسيق الأمني مع قوات الاحتلال الساري في الضفة الغربية يصبح مشلولا على حدود القطاع، وحيث تدور معركة حربية قبل أن تستطيع قوات الاحتلال الوصول إلى أي قائد فلسطيني، مما يذكر بوعد عباس لأهل غزة في حفل توقيع اتفاق المصالحة بالقاهرة: "سأكون بينكم قريبا إنشاء الله"!
لكن الأحداث قد تجاوزت قيام عباس بمجرد زيارة لغزة فحسب، إذ حان الوقت لإنهاء استراتيجة "خيار التفاوض فقط"، و"تغيير أو تصويب مسار دام عشرين عاما" كما قال د. العكر، والتعامل مع الوحدة الوطنية تعاملا استراتيجيا لا تكتيكيا، وجميعها استحقاقات متأخرة، فقد أصبح انتقال عباس ومنظمة التحرير ولجنتها التنفيذية للإقامة الدائمة في غزة، حيث المساحة الحرة الوحيدة المتاحة، وحيث الحماية غير الأجنبية الوحيدة المتاحة، وحيث حرية الحركة والقرار والإرادة دون قيود أي اتفاقية موقعة تلتزم المنظمة بها من جانب واحد، هو المدخل إلى تفعيل واقعي لمنظمة التحرير، ومدخل إلى تجسيد على الأرض للوحدة الوطنية، وأصبح هو المحك لصدقية أي توجه نحو استراتيجية جديدة تحرر قيادة المنظمة في مساحة هي حرة بالرغم من الحصار، فكل الدلائل والمؤشرات تؤكد الحاجة الوطنية إلى الفصل بين منظمة التحرير وبين سلطة الحكم الذاتي الإداري كاستحقاق متأخر آخر، وإلى الوصل بين المنظمة وبين جماهيرها التي طال انعزالها عنها على قاعدة المقاومة التي كان لها الفضل الأول والأخير في منح المنظمة صفة الممثل الشرعي والوحيد لشعبها، لتنتهي مرة واحدة وإلى الأبد تكتيكات الدمج بين المنظمة وبين حكومتها للحكم الذاتي في مواجهة المقاومة والفصل بين المنظمة وبين هذه الحكومة عندما توصل الإرادة الشعبية المقاومة إلى رئاستها.
* كاتب عربي من فلسطين
0 comments:
إرسال تعليق