لا زال النظام السوري يؤكد رغبته في الدخول في حوار وطني مع القوى الوطنية الداعية إلى عملية إصلاح جذري، والتي بدأت مؤخرا بالحديث عن استحالة الحوار مع النظام وانتقلت إلى الدعوة إلى إسقاطه وبناء نظام ديمقراطي جديد مكانه. ويأتي الموقف الجديد بعد أن فقد المطالبين بالاصلاح الأمل في قدرة النظام على الدخول في حوار وطني حقيقي، خاصة وأن دعواته إلى الحوار تأتي بالتوازي مع مضيه في طريق الحل الأمني واستمراره في استخدام الرصاص الحي والاعتقالات الجماعية والتنكيل لمواجهة حراك شعبي سلمي حافظ على سلميته رغم العنف المفرط للإجهزة الأمنية وأعتماد النظام على مجموعات مسلحة غير نظامية لاستفذاذه.
هل النظام السوري قادر على الدخول في حوار وطني؟ كل المؤشرات تدل على أن نظام الأسد لا يملك الإرادة للدخول في حوار وطني حقيقي، بل أنه لا يملك البنية السياسية اللازمة لانجاز الحوار المطلوب. ففي لقاء جرى الأسبوع الماضي بين ممثلين عن المجلس السوري الأمريكي أكد السفير السوري في أمريكا أن الرئيس بشار الأسد مهتم بالحوار وقد طلب منه الدخول في حوار مع جميع أطياف الجالية السورية في أمريكا. الحوار الذي يسعى إليه السفير بطبيعة الحال ليس حوارا وطنيا تشارك في القوى الوطنية لبحث آليات الانتقال من نظام الحزب الواحد والأسرة الواحدة إلى نظام ديمقراطي تتنافس فيه القوى السياسية لخدمة الوطن والأمة، بل هو سجال بين حاكم حكيم ومحكوم مستلب يدعى فيه الأخير للتنفيس عن همومه ومشاكله وليترك بعد ذلك مهمة تقديم الحلول لحكمة الحاكم.
والحق يقال أن جهودا كثيرة بذلت لبدء حوار وطني بين السلطة والمعارضة السورية كان لي ولزملائي في المجلس السوري الأمريكي جهدا متواضعا فيها. فقد سعى المجلس منذ تأسيسه عام 2005 لبدء حوار وطني بدعوة قيادات من الحكومة والمعارضة السوريين إلى مؤتمراته السنوية، كانت تقابل بالاعتذار من قبل ممثلي الحكومة والسفير السوري على اعتبار أن الجلوس مع المعارضة سيؤدي إلى توجيه اللوم والنقد إلى ممثلي الحكومة، وربما تجريحهم والتعريض بهم. المسؤول السوري الوحيد الذي لبى دعواتنا كان الدكتور محمد حبش الذي وجد نفسه مضطرا للدفاع عن حكومة ليس له يد فيها بل لايملك السلطة الكافية لمساءلتها.
حاولت خلال زيارات عديدة إلى سوريا في فترة ربيع دمشق وما بعدها الدعوة إلى حوار سياسي بين بعض ممثلي المعارضة والحكومة لكن دون جدوى. وعلى الرغم من أن لقاءاتي مع العديد من قيادات المعارضة من سياسيين ومفكرين وناشطين اتصفت بالايجابية، بعد أن أظهرت قيادات المعارضة الداخلية مرونة في تقديم مطالبها وابدت استعدادها تخفيض سقف مطالبها الاصلاحية في خطة للوصول إلى تحول تدريجي نحو المجتمع الديمقراطي، فإن المشاورات مع ممثلي النظام لم تتخطى مرحلة الوعود والأمال. وبدا لي واضحا بعد عدة محاولات أن النظام السوري لا يمتلك المؤسسات الحكومية القادرة على الدخول في حوار وطني، فكل الوزراء والحزبيين غير قادرين في المضي خطوة واحدة في طريق الانفتاح على أطياف المجتمع السوري دون الحصول على الضوء الأخضر من الأجهزة الأمنية، وبدا لي كذلك أن القادة الأمنين ملتزمين بمبدأ "من ليس معنا فهو ضدنا". ولم ينجو المجلس السوري الأمريكي من هذا التصنيف، فقد وضع المجلس في خانة القوى السياسية المعارضة بناء على تقرير قيل لي أن وزارة الخارجية أعدته، ليتم اعتماده لدى الجهات الرسمية.
يدور الحديث اليوم حول حوار وطني مزعوم تسعى القيادة السياسية في سوريا لبدئه مع المعارضة. سمعنا عن الحوار من رئيسة تحرير جريدة تشرين الرسمية سميرة المسالمة التي بدأت حوارا مع بعض المثقفين السوريين انتهى بإقالتها من منصبها بعد أن حملت، بطريقة مبطنة، الجهات الأمنية المسؤولية عن الفلتان الأمني الذي مكن عصابات الشبيحة من استخدام العنف ضد المتظاهرين في درعا خلال مقابلة أحرتها مع قناة الجزيرة. ثم سمعناه مرة أخرى عندما اجتمعت مستشارة الرئيس السوري بثنية شعبان بصحبة العميد مناف طلاس مع بعض رموز المعارضة تبين فيما بعد أنها من نوع الدردشة العامة وتبادل الرأي التي اختبرتها بنفسي في لقاءات مماثلة قبل سنوات انتهت بوعود فارغة من أي مضمون ومحتوى. ويطل اليوم محمد سعيد بخيتان، الأمين المساعد لحزب البعث، ليبشر بحوار وطني يتم الاعلان عنه "خلال 48 ساعة وسيكون الحوار بمشاركة حزب البعث وأحزاب الجبهة الوطنية والمستقلين" حسب قوله.
من الواضح أن النظام السوري لا يرى الحوار الوطني من منظور ديمقراطي بل من منظور استراتيجي. فالحوار كما يراه النظام ليس جهدا للوصول إلى أرضية مشتركة بين قوى سياسية تمثل أطياف المجتمع السوري، بل هو أطروحة غايتها إظهار مرونة على مستوى الخطاب السياسي مع الاحتفاظ بالبنية والفعل السياسيين في دائرة الحالة الراهنة. وهذا ما اكدته تصريحات الأمين القطري المساعد لحزب البعث الذي استبعد تعديل المادة الثامنة للدستور السوري التي تجعل الحزب وصيا على الدولة. وبطبيعة الحال لا يمكن الحديث عن حوار حقيقي بين ممثلي السلطة والمعارضة ما لم نصل إلى حالة التطابق بين الخطاب والفعل وبين الحديث والواقع. الحديث عن حوار وطني يتحول إلى نكتة سمجة عندما يتم اقتراحه والوحدات العسكرية مستمرة في اجتياح المدن والقرى ومحاصرتها. وهذا ما يؤكد أن الحوار الوطني ليس مطلبا ديمقراطيا بل تحركا التفافيا يهدف إلى إبعاد الانظار عن العمليات العسكرية وكسب الوقت للقضاء على الحراك الشعبي الداعي إلى التحول الديمقراطي.
الدعوة الصادقة للحوار الوطني يجب أن تترافق مع تحركات عملية توكد صدقية النهج، وهذا يتطلب أن تنطلق الدعوة من حيثيات أربعة، نحددها فيما يلي باختصار. أولا، أي يتوقف النظام السوري عن إنكار وجود حراك جماهيري مشروع ويعترف بحق المواطن السوري بالتحرك سلميا للدعوة إلى الاصلاح وانتقاد الفساد. ثانيا، أن تنطلق الدعوة إلى الحوار الوطني من موقع الرئاسة، الموقع السياسي الوحيد في الدولة الذي يملك سلطة تعلو على سلطة قادة الاجهزة الأمنية. ثالثا، أن تترافق الدعوة إلى الحوار مع وقف كل أعمال القمع والاعتقال التعسفي العشوائي، وإطلاق صراح كل معتقلي الرأي في خطة عملية تحقق فحوى القرار الرئاسي بوقف العمل بقانون الطوارئ والذي لم يتم احترامه حتى يومنا هذا. رابعا، أن يعلن الرئيس بشار الأسد أن الغاية من الحوار الوطني البدء بعملية التحول الديمقراطي وتحديد آليات الاتنقال من حالة الحزب الواحد إلى التعددية الحزبية والحريات المدنية التي أضحت الحالة السياسية الوحيدة التي تكفل كرامة المواطن واستقرار الوطن.
السؤال الذي يواجه المجتمع السوري المحتقن اليوم سؤال بسيط ومعقد في آن: هل يسارع النظام السوري إلى تدارك الانهيار السياسي والاقتصادي الذي يهدد سوريا أم يستمر في الفصل بين الفعل والخطاب ويقود البلاد نحو حافة الهاوية؟
د. لؤي صافي استاذ الدراسات الشرق أوسطية وناشط في الدفاع عن حقوق الجالية العربية والإسلامية في أمريكا، يرأس المجلس السوري الأمريكي
Louay Safi, Ph.D.
Chair
Syrian American Council
202-683-6887
http://SACouncil.com
0 comments:
إرسال تعليق