لا نبالغ ان قلنا أن التصريحات السياسية الأخيرة لقيادات حركة حماس، أصابت وتصيب الكثيرين بالدهشة والحيرة، من حيث التوقيت والمحتوى والمغزى والمردود، خاصة أنها تحمل في طياتها الكثير من الغموض - المقصود دون شك- والكثير أيضاً من التأويلات ذات التفاسير المختلفة، خاصة أن تأكيدات معينة كانت تتكرر باستمرار سقطت من التصريحات الأخيرة، ودخلت عناصر جديدة في مضمون تلك التصريحات واللقاءات.
هذه المواقف القديمة بثوبها الجديد، فتحت شهية المتصيدين في الماء العكر والمتربصين لكل همسة وهفوة، وأطلقوا العنان لما يجيدونه دائماً في محاولاتهم المتكررة للمساواة بين الجميع، وهو ما يعتبرونه نصراً مؤزراً، وعلى طريقة المثل الشعبي المعروف "لا تعيرني ولا أعايرك"!
المواقف القديمة والواضحة لحركة حماس كانت حتى الأسابيع الأخيرة هي ذاتها التي عبّر عنها الشيخ أحمد ياسين رحمه الله قبل أكثر من عقدين من الزمن، وتتمثل في القبول بدولة فلسطينية مستقلة على حدود الرابع من حزيران للعام 1967 بالشروط التالية:
· كاملة السيادة
· دون الاعتراف للاحتلال بأي شرعية على أرض فلسطين – لا اعتراف
· مقابل هدنة طويلة يتم الاتفاق عليها
· مع عودة كاملة لللاجئين إلى ديارهم وبلداتهم الأصلية
· دون بقاء أي مستوطنة أو كستوطن في حدود تلك الدولة
هذه المواقف تبنتها حركة حماس في أكثر من مناسبة، وبشكل علني، لكن الملاحظ في الفترة الأخيرة غياب تلك الشروط من تصريحات المسؤولين في حركة حماس، أي أن الحديث بات اليوم عن قبول دولة فلسطينية في حدود عام 1967 كحل مرحلي وينتهي التصريح - نقطة وأول االسطر!.
لايمكن بحال من الأحوال ووفقاً للشروط السبقة المقارنة والمساواة مع من يعتبر الدولة اياها هي الحل النهائي بعد الاعتراف والبصم لما يسمى حق اسرائيل في الوجود، والتنازل المسبق عن كل شيء.
لكن
مع الغموض المتكرر واستخدام ما يحتمل التفسيرات، باعتبار أن ذلك الخطاب موجه للغرب، وبالتالي يجب استخدام تلك اللغة المبهمة، لحصد مواقف ايجابية من أوروبا تحديداً، لا يزيد الأمور إلا التباساً على القاعدة الجماهيرية والشعبية، ولا يؤثر في مواقف تلك الدول والتي تخضع مؤسساتها الرسمية بالكامل لسياسة الانحياز لصالح المحتل، وتتعداه لحماية الجرائم والتستر عليها، وان اقتضى الأمر تغيير القوانين كما يحدث اليوم في بريطانيا.
الغرب وحكوماته لن يرضى بأقل من التسليم الكامل والاعتراف المباشر ب"اسرائيل"، أي أن تحذو حماس حذو فتح وتستسلم بالكامل لارادة المحتل، حتى وان بقيت تتغنى بأمجاد الماضي كما تفعل فتح المختطفة اليوم، ولن يرضى هؤلاء إلا بانهاء كل أشكال المقاومة والخضوع لارادة المحتل، وما دون ذلك يبقى من قبيل " تقدموا مائة خطوة حتى نتقدم نحن ربع خطوة"، وأول الرقص حنجلة!
أما موضوع القبول بنتائج أي استفتاء يقبله الشعب بغض النظر عن ماهيته، فهذا أمر آخر يثير الرعب لا الدهشة، رغم أن التصريح المنسوب للسيد هنية جاء مجتزءاً بشكل فاضح لا يصل للقدر الذي حاول المتربصون اظهاره، بل تعداه ليؤكد هنية " أن حل الدولتين وَهْمٌ, وأنه كلام نظري, ولا وجود له على أرض الواقعمؤكداً أن "إسرائيل دمرت أوسلو وألغتها, والسلطة أكذوبة باعتراف عباس نفسه, وعباس يعاني من اليأس والإحباط, والأنظمة العربية فشلت في إقناع (إسرائيل) بالانسحاب والسلام, و(إسرائيل) تريد الأرض والأمن والسلام وهذا غير ممكن . وأميركا لا تملك إرادة الضغط على (إسرائيل), وأميركا والغرب تديرون أزمة ولا تبحث عن الحل, وقلنا لعباس لا مفاوضات بدون مقاومة, والمقاومة حق الشعب المحتل بالقانون الدولي, و(إسرائيل) تريد أن نستسلم, ونحن لن نستسلم ولن نرفع الراية البيضاء ".
إن مجرد فكرة والحديث عن استفتاء على الثوابت والمقدسات غير مقبولة مهما كان مصدرها ومبررها، وحتى ان كانت الثقة في رأي الشعب مطلقة وبنسبة 100%، ولا نشك للحظة أن هنية لم يعني ما طبّلت له المواقع المعروفة والتي تجتزيء وتنتقي ما تشاء، لكن طرح الفكرة بالشكل المبهم كان سبباً لكل التآويل.
الايجابية الوحيدة في طرح موضوع الاستفتاء هنا هي أن حماس تعلن بشكل غير مباشر أنها لن تفرض رؤيتها على الشعب الفلسطيني الذي قد يقبل رؤية أخرى، عكس ما تقوم به طغمة أوسلو من فرض رؤيتها المرفوضة بالمطلق من الشعب وقواه، شريطة أن توضح حماس أنها مع خيار الشعب الذي لا يقترب ولايمس من الثوابت والمقدسات، التي لا تنازل ولا تراجع ولا تفريط ولا استفتاء عليها، لأنها أولاً وأخيراً ليست ملكاً للفلسطينيين وحدهم ليقرروا مصيرها، ناهيك عن حرمة ذلك وطنياً وأخلاقياً ودينياً.
خلاصة القول أنه رغم تفهمنا للضرورات الدبلوماسية، والحاجة للمناورات والمرونة السياسية، إلا أنه يجب التذكير أن حماس فرضت نفسها واحترامها وشعبيتها من خلال مواقفها الواضحة والثابتة، وليس عبر استرضاء الغرب من خلال الخطاب المبهم حمّال التأويل والتفسير، ولا من خلال "المرحلية" و"التكتيك" التي أوصلت فريق أوسلو إلى ما أوصلته إليه، وإلا تكون من يكرر تجربة ثبت فشلها بالبرهان والدليل الدامغ.
المطلوب وببساطة شديدة أن تعيد حركة حماس تأكيد شروطها للقبول بدولة فلسطينية على حدود الرابع من حزيران للعام 1967، وهو الطرح المتقدم والممكن حتى من وجهة نظر الغرب الذي يضغط وبكل الوسائل لجر حماس لمربع فتح، وأن تعيد التركيز على ابقاء الدعم الشعبي والجماهيري فلسطينياً وعربياً واسلامياً ودولياً، والذي يتساءل اليوم عما يجري سياسياً وعلى أرض الواقع، وله الحق في ذلك.
0 comments:
إرسال تعليق