إمبراطوريات العولمة في مصيدة ميكروفيزياء الإرهاب 2/ د. زهير الخويلدي

تابع المقال ـ الجزء الثاني
2 - - خلفيات الإرهاب و جذوره:
" منذ صار الإنساني هو المتن المرجعي الوحيد وحلت الإنسانية الماثلة لذاتها في المحل الشاغر لله الميت بات الإنساني سيدا مطلقا من دون شراكة غير أنه بات يفتقد الغاية النهائية. وإذ خلت له الساحة من كل عدو راح يولده من لدنه ويفرز كل ضروب الانتشار اللاإنساني."[16]
لا تدل كثرة الحديث عن الإرهاب من أدنى أشكاله إلى أقصاها على أن الأمر يتعلق بظاهرة صحية في السلوك الإنساني طرأت بعد أن لم تكن على خلاف ذلك ان الأمر ليس حادثا عابرا ومؤسفا من حوادث التاريخ وحسب بل هو يندرج في وضع مألوف من التوترات والمجابهات التي دأبت الشعوب على ممارستها والوقوع بين براثنها تحت تأثير أسباب وخلفيات شتى. فالعلاقات الإنسانية تقوم عادة على أرضية من الصراع والتناقضات وعلائق القوى والإرهاب يكمن فيها كتهديد دائم وهو ينفجر أحيانا كالبركان تحت ضغط نار داخلية لا يخمد لهيبها على الإطلاق.
إننا نسعى هنا إلى إدراك أصول الظاهرة وجذورها العميقة ونبتغي تسليط الضوء على الأسباب والدواعي التي جعلت هذا العصر يوصف بالإرهاب .
يمكن توزيع أسباب الإرهاب على النحو التالي:
- الاستبداد في المجال السياسي.
- الاستعمار في مجال العلاقات الدولية.
- الاستغلال في المجال الاقتصادي.
- الاغتراب في المجال الاجتماعي.
- التماثل في المجال الثقافي.
أ / التماثل في الهوهو:
"هنا كان مشكل الشر قد اختزل اختزالا شديدا في الشعور بالذنب من الداخل. إني أكثر انتباها الآن بشيئين. بادئ ذو بدء العنف- طابع الألم المحدث للآخرين. إذ يسعى الشعور بالذنب بالأحرى إلى تقريض نفسه بنفسه بتوبيخ الضمير. عندئذ تتضخم إمبراطورية العنف. العنف في العالم ليس فقط فيزيائي- القتل, الإجرام- ثمة أيضا عنف في اللغة وفي الطريقة التي يكتب بها التاريخ. ثمة أيضا ذاك الجانب الجبار الذي كنت قد لمحت إليه بمعنى تمجيد الذات Autoglorification.الطابع التكميلي هو عنف المعاناة." [17]
تلعب البيئة الفكرية دورا حاسما في تفريخ الإرهاب والتحريض على العنف غير المشروع خاصة إذا كان المنطق السائد اقصائي دغمائي والعقل المستخدم أداتي وبالتالي تضيق الآفاق ويتعثر الفهم ويتحول إلى سوء تفاهم كبير يضيق على التأويل ويضرب سياج دغمائي على رحابة التفسير عندما يتم تحويل التراث إلى ميراث والدين إلى كهانة والعقل إلى نص ومن المعلوم أن الميراث الذي يقدم لجماهير الأمة بوصفه تراثا هو الذي يسمح بممارسة كل الإجراءات القمعية المشرعة وكأنها تكتسب مصداقيتها من الماضي ومن التراث الذي لا يجوز الطعن فيه عند هذه الجماهير نفسها أي انه من خلال ذات الجماهير وفي مخزونها النفسي ووعيها التراثي يجري القمع أو تتم ممارسة الإرهاب،هكذا يختزل التراث ويتجلى الميراث دعامة للسلطة القامعة أو العنيفة ويصبح كل شيء معقولا .
"إنها الامة-الميراث، إنها جماهير الأمس التي تكرر تنفيذ برنامج الأمس وغده الذي صار أمسا كذلك وخرج إلى فضاء الهامش من كل تاريخ ، وهنا نرى كيف أن كل الجماهير تبدد الأمة والأمة تقمع الجماعة والبرنامج يشل المشروع والميراث فوق الأكتاف ينهك الهامات ويدلها ويركعها ويحولها جثة تحت سنابك الفاتحين الجدد وهم الدين يستحضرون تراثا ولا يحملون ميراثا على أكتافهم".[18]
هكذا يظهر الحلال والحرام في مجتمع قمعي كصفتين تجدهما السلطة أمرين مناسبين لها فالحرام ما تراه معاديا لها والحلال هو ما يحافظ على مصالحها ويضمن استمراريتها وفي جو مثل هذا مشحون بالتعصب والإقصاء والتخوين تنعدم كل محاولة للخلق والإبداع ولا يولد أي فكر جديد لأنه يصير"الفكر الحرام في المجتمع الحرام في دماغه وخلايا جسده ورؤية عينيه لا يعرف كيف يتعامل مع ذاته باعتباره حلال نفسه،باعتباره مباحا لدماغه ويديه وأقلامه وأوراقه".[19] 
كيف أثر القمع والاضطهاد على حالة الفكر في حضارة اقرأ زمن العولمة ؟
1/- فكرنا ليس فكرا منسقا متجانسا موحدا بل هو فكر متنوع الاتجاهات متعدد المشارب ومختلف المناهج يتميز بضبابية الرؤية وانسداد الآفاق, أهدافه منقسمة ومصالحه مضروبة وأجوبته قطعية وأسئلته معلقة وهو يعكس حالة الفوضى والتشرذم والانبتات التي يعاني منها.
2/- لم يستطع الفكر عندنا إلى حد الآن أن ينتج نظرية فلسفية أصيلة ومتكاملة أي نظاما مفاهيميا مبتكرا يتمتع بقدر من التماسك والاستقرار الدلالي ويمكن استخدامه في تحليل الواقع والإجابة على تطلعات الأمة وانتظارات الجماهير وتحديات المرحلة.
3/ - فشل فكرنا فشلا ذريعا في تحقيق هدفه وهو النهضة ولم يقم بإصلاح العقل ولا بتطهير اللغة بل ظل منفعلا تائها بين التقليد للغرب واستنساخ التراث وبين التراث والحداثة في زمن دخلنا فيه مابعد الحداثة والعولمة. " انه خطاب من أجل النهضة ومع ذلك فانه قد فشل في أن يقدم للنهضة المنشودة النظرية التي يمكن أن نهتدي بها لوضعها موضع التحقيق".[20]
4/ - يشتغل على نصوص مقدسة وينطلق من فرضيات قبلية يعتقد أنها لا تناقش ويهمل الواقع المعاش, فليس هناك علاقة مباشرة بين الفكر السياسي والمعطيات المباشرة للواقع الأمر الذي أدى إلى قصور هذا الفكر عن تحليل الواقع وتعثره في تقديم الحلول المناسبة لمواجهة المشكلات الضاغطة مما أبقاه يعيد إنتاج نفسه في حلقة مفرغة فهو لا يزال يكرر الاهتمام بنفس القضايا ويجتر نفس الأدبيات ويحوم رغم بعض التغييرات الشكلية الطبقية حول نفس الحلول القديمة وبالتالي فهو لا يشير إلى واقع متحقق بل ينشد واقعا مثاليا مأمولا مما يحوله الى خطاب حول ممكنات ولا يمكن إدراجه ضمن علم المستقبليات.
5/ - سيادة النزعة التوفيقية التلفيقية الغائمة والتي أدت إلى أن تحول الفكر إلى بيئة صراعية تناحرية بما أنه بذل مجهودات كبيرة للتوفيق بين المتناقضات( الشرق/الغرب)عناصر أصيلة من جهة وأخرى وافدة ودخيلة من جهة أخرى دون بيئة حقيقية ودون تأصيل فعلي.
6/ السقوط في الاستهلاك والعرض للفكر الغربي والاكتفاء بترجمة النظريات الأجنبية من لغتها الأصلية إلى لغة الضاد وتحول المفكرين إلى وكلاء تجاريين للنزعات الفكرية الأجنبية(الوضعية, الماركسية, الوجودية, الشخصانية) .
7/ احتواء السلطة السياسية للعلماء والمثقفين ومحاولة النخب الحاكمة استخدامهم وتوظيفهم لمصلحتها لإحكام سيطرتها على المجتمع والمحافظة على ما هو سائد بشراء الضمائر وإرهاب العزائم.
8/ أصولية وسلفية بنية الفكر وانتشار الدغمائية الفكرية بتكرار مقولات التماثل والهوية والتطابق من أجل التوحيد وتحقيق الإجماع والوقوع في الكليانية والشمولية .
إن الإرهاب الحقيقي هو ذلك الذي يكمن في نموذج المعرفة الذي نعتمده في فهمنا لمقام الإنسان في العالم ولطبيعة العلاقات الأصلية بين الناس. أن خطر انفجار الإرهاب لا يكمن فقط في تنامي القدرات التكنولوجية بل وأيضا في أهداف ومصالح سياسات الحقيقة التي تسلكها مختلف البلدان وتكرسها وتبلورها منظومتها التعليمية. فنموذج المعرفة الذي تفرضه سياسة السيطرة هو المحافظة على الثبات وتحقيق الديمومة والتوازن بإبراز الذات وإقصاء الآخر لكونه يجسد الشر المطلق ويرمز إلى الشيطان الأكبر.ألم يقل مونتاني في غابر الأزمان: "إن المعرفة هي التي لا تفتأ تميت فلاحا بل وشعوبا بأسرها تماما مثلما تميت فيلسوفا".[21]
إن اختيار نماذج المعرفة ليس بريئا فهو يحدد مفهومنا للعمل والسياسة, فالنظرة التي تقوم على منطق الهوية أي على الثنائيات المتنافرة تؤدي إلى إقصاء البعد الأخلاقي من الصراعات الإنسانية وتتحدث عن العدو الثقافي وكأنه عدوا طبيعيا إن لم نقل عدو الله نفسه ويؤدي ذلك إلى التنظير إلى الحرب وجعلها وسيلة للقضاء على الآخر وتطهير الأرض من دنسه، كما أن التناقض الحاد بين النحن والهم لا يمكن حسمه إلا بالإبادة للجماعة والتطهير العرقي والذي يجد سند له ودعم من الثقافة السائدة. زد على ذلك أن الخطاب نفسه هو موضوع الرغبة وليس فقط ما يظهر أو يخفي سلطة معينة بل هو ما نصارع من أجله فهو السلطة التي نحاول الاستيلاء عليها وليس فقط ما يترجم الصراعات وأنظمة السيطرة .ان التاريخ ما فتئ يعلمنا أن واقعنا القديم والحديث وحتى المعاصر هو في جوهره صراع من أجل امتلاك الخطاب قصد إضفاء صفة الشرعية على هذا الحاكم أو ذاك وممارساته. 
"إذا كان تاريخ الشعوب التي لديها تاريخ هو تاريخ الصراع القبلي فان تاريخ الشعوب التي ليس لديها تاريخ والتي تتحدد في إطار إشكالية الداخل والخارج هو على الأقل تاريخ الصراع ضد الدولة "، وبعبارة أدق هو تاريخ الصراع ضد احتكار الفئات المهيمنة لسلطان الكلمات. فإذا كان لا وجود لمجتمع دون سلطة سياسية تنظمه حتى وان كان في بعض الأحيان في شكل أنظمة قرابة وأشكال حكم تقليدية فان هذه السلطة السياسية قد لا تكون بالضرورة سلطة قسرية وعنيفة بل سلمية ومتسامحة تقوم على الكلام والولاء والطاعة وليس على السيف والقهر والعنف.فحيازة السلطة يقترن بالحيازة للحكام والزعيم السياسي هو سيد الكلام ولا يحوز على أي نفوذ أو على أي سلطة لإعطاء الأوامر وكل ما يملكه هو قدرته على الإقناع والإبهار, لكن الأهم من كل ذلك كيف تحولت البيئة السياسية المتعفنة الى أهم وكر فرخت فيه جرثومة الإرهاب ؟
ما يجدر ملاحظته أن العلاقة الاجتماعية في الخطاب السياسي السلطوي بين المخاطب والمخاطب وبين الراعي والرعية وبين السلطة والشعب وبين القائد والقطيع تأخذ شكلا لغويا نحويا بلاغيا أي صيغة الأمر المطلق الذي لا راد لحكمه فإما الطاعة الفورية أو الموت الفوري, فالطاعة هي الهدف والخضوع فضيلة كما هو غاية لأنه خطاب يمضي في اتجاه واحد ولا يقبل التبادل ويتميز بالغموض، فعلاقة الحاكم بالمحكومين تشبه إلى حد كبير علاقة الراعي بغنمه إذ يتحول الحاكم السياسي إلى راع للبشر والرعوية تنفي الحاجة إلى دستور سياسي وقوانين وأجهزة ومؤسسات، فالراعي مفوض بناء على نص مقدس بقيادة القطيع إلى بر الأمان أي المرعى حيث العشب وفي مقابل ذلك يطلب من القطيع الطاعة والتسليم: انفخ فيجتمعوا والويل لمن يتجاهل فالعصا طويلة تطال الجميع.إن واقع الإرهاب في ظاهره شيء متداول ومعروف ولكن في باطنه يتضمن على أشكال مجهرية من المنع تلحق به وتكشف باكرا عن ارتباطه باللغة وبالرغبة وبالسلطة. فالخطاب هو السلاح والمعرفة قوة ونفوذ وسيطرة وهي إما مجال للاحتكار وإما فضاء للتواصل والتبادل.إن القوة الجميلة هي التي توازن بين الضعف والعنف وان الشخص الذي يمتلك الخطاب يمتلك السلطة كذلك وهذا ما يفعله السياسي عندما يلجأ إلى الفصاحة والبيان والبلاغة لممارسة الهيمنة وتجييش الجماهير وكسب التأييد. أليست " البلاغة مرآة تعكس رغبة ايديولوجية ما في السلطة تخلق خطابا أنويا وذا مرجع ذاتي ولا يفرض هذا الخطاب عن طريق النقاش المفتوح وإنما عن طريق تقنيات الخوف والترهيب والتضليل"؟
ب/: الإستبداد/ الاستعمار:
"المستعمر(بالكسرة) شر مطلق. إن ظهور المستعمر (بالكسرة) كان معناه لدى المستعمر (بالفتحة) موت المجتمع الأصلي وفناء الثقافة القديمة وتجمد الحياة في الأفراد في آن معا..."[22]
ان السياسة لسان حال المجتمع ولكنها أحد تجليات صراعاته الطبقية ومن هنا يكون الإرهاب موسوم بختم المؤسسة السياسية الاستبدادية التي تشرعه لضمان وجودها.على هذا النحو يتميز الخطاب السياسي السلطوي الذي يفرخ الإرهاب بالضحالة والإبهام والغموض فهو غير مباشر وغير صريح والسر من وراء ذلك أن الغموض هو من أقوى أسلحة السلطة أما الوضوح فانه يخلق التبادل بين المخاطب والمخاطب وهو ما لا تريده السلطة. هناك صفتان تطبعان هذا الخطاب التسلطي هما التعميم (فهو خطاب فضفاض) والابتعاد عن الواقع (لأنه شكلاني أجوف وفارغ من أي محتوى حقيقي) . فالعلاقة بين المخاطب والمخاطب في السياسة التسلطية هي علاقة أمر ونهي والجواب المقبول الوحيد هو الامتثال الطوعي والقبول الصامت، وكل خطاب سلطوي يميل إلى خلق هذه الصيغة اللغوية ذات الطبيعة الأمرية القطيعة فهو خطاب لا يهدف إلى إقناعنا بل إخضاعنا وإذا لم نخضع فنحن عصاة متمردون. وهكذا فان السلطة السياسية القمعية مؤسسة على السكوت لا على الحوار وتنحدر من الأعلى إلى الأسفل ولا تسمح بأي حركة احتجاجية في الاتجاه المعاكس . 
يتصف الخطاب السلطوي بكونه خطابا نهائيا وشاملا ويكشف عن طبيعة ذات المرجع الذاتي ويتميز بالتعقد والصعوبة حيث لا تمتلك حدود تأويله سوى صفوة قليلة (الراعي وبطانته) حتى تفرضه على الأكثرية من القطيع والحشود من الدهماء وتجبرهم على القبول به والامتثال لأوامره ونواهيه. إن فساد المؤسسة السلطوية يتجسد في أن البرجوازية الوطنية الضعيفة والمهلهلة اقتصاديا والتابعة للدول المستعمرة تفتق ذهنها عن اختراع كبير وهو نظام الحزب الواحد وكان ذلك من مزالق السفور القومي والذي انتهى بسقوط حضاري وإفلاس حقيقي للبرجوازية الوطنية ولجيشها القومي في العالم الثالث في مرحلة ما بعد الاستعمار.إن نظام الحزب الواحد هو الوريث الشرعي لتعفن السلطات الاستعمارية وهو يعكس تأزم واقعنا العربي ومزالقنا القومية لأنه الشكل الحديث للديكتاتورية البرجوازية التي لا تتقنع ولا تتزين ولا يزعها وازع ولا يروعها حياء. ومازلنا إلى الآن نعيش غياب التعددية السياسية ونشهد سيطرة الحزب الواحد ومهما قيل عن تواجد الأحزاب الأخرى فان حضورها لم يتعدى البعد النخبوي وتلعب وظيفة تجميلية أكثر منها ثورية ." وتنحصر مهمة الحزب في أمرين الأول يمثل حاجزا للحيلولة بين الشعب والقيادة ويمنع أي ديمقراطية مباشرة،الثاني ينقل التعليمات والأوامر من القيادة إلى الشعب وليس العكس".
على هذا النحو يتحول الحزب الى هيكل عظمي لا يفيد إلا في تجميد الشعب والى وسيلة تسلق طبقي ونجاح لبعض المنافقين والمرتزقة وعندها يكلف الحزبيون بمراقبة الجماهير ليكونوا سند رجال المخابرات وأجهزة الأمن والشرطة وتتحول الدائرة السياسية للحزب أو لجنته المركزية إلى خلية متابعة لمراقبة الشعب لا لكي تتأكد من مشاركتها في إدارة شؤونه العامة بل لتذكره بأنها تنتظر منها التأييد والامتثال والإجماع الوطني, وهنا يتصرف عادة قادة الحزب تصرف جنود برتبة عالية ويصبح الزعيم رائد العزة القومية مجرد رئيس عام لشركة من المنتفعين ممن أصبحت لديهم الحزبية أقصر الطرق لتحقيق غايات أنانية ضيقة.
ان تجربة الحزب الذي يمتلك الحقيقة كلها والتي لا ينطق بها إلا زعيمه الأوحد في المناسبات الخاصة والأعياد والذي يدعم بنايتها على قاعدة الجيش والولاء لدوائر المخابرات الأجنبية والسفارات الغربية قد مهدت إلى مجيء العسكر إلى الحكم وجعلت الوضع على حافة الانهيار وعلى أهبة الانفجار لقد قادت في النهاية إلى الاحتكار لمصادر المال والثروة والسلطة من قبل فئة قليلة على حساب الأغلبية الساحقة وقد أدى ذلك إلى اندلاع أعمال العنف والإرهاب وإلغاء المكاسب الديمقراطية وتعطيل الدساتير وانتهاك قدسية القوانين والأدهى والأمر أن نموذج الحزب الواحد وقع تعميمه على الكل وأصبح مثالا يحتذى به بالنسبة للأنظمة الشمولية الناشئة.كل ذلك أدى إلى تهميش الأغلبية الساحقة من الجماهير واحتجازها في حزام من الفقر والجوع العريض وانتهى إلى زحزحة تامة للطبقة الوسطى من مواقفها وبروز تفاوت صارخ بين طرفين الأول أقلية حاكمة متغربة وتابعة ومندمجة أكثر في سوق الاستهلاك ومراهنة على كل شيء حتى بيع الوطن وذلك بجعله مزبلة للنفايات الغربية وكذلك الاستعانة بالجيوش الأجنبية لحماية مصالحها ولرعاية امتيازات الامبريالية في المنطقة .
الطرف الثاني هو بقاء أكثرية مطلقة مهمشة ومقموعة ومفروض عليها ستار حديدي تعيش داخله على حال من الهلع والقلق والبؤس ولكنها مهيأة للعنف بشتى صوره من الجريمة الى النهب مرورا بالغش والتحيل . ويمكن أن نسمي هذه الأغلبية بالبروليتاريا الرثة أو الدهماء لأنها تشمل مجموع العاطلين عن العمل أو الذين يعملون بأجور زهيدة لا تكفي لسد رمق العيش بل انه لا يحق لهم حتى الانضواء كأعضاء في نقابات خصوصا وأنهم فئة هلامية لا انتماء محدد لها وهي تتصرف بلا أوامر من أية قيادات وبالتالي فهي وقود الإرهاب المقبل.إن السلوك العنيف المدمر يعبر عن حقيقة المرحلة بدقة فهناك السلطة السياسية التي تحتكر لنفسها الخطاب وحق تفسيره وتعيد إنتاجه وتنظيمه وتحكم مراقبتها على القوى المتصارعة وتحد من سلطاتها ومخاطرها وتفرض سياجا من الصمت حول الرقاب وتزرع نوع من الرقابة الذاتية داخل النفوس وهناك الجماهير الشعبية التي ملت الشعارات الجوفاء والانتظار ويئست من القعود والتي تتلمس طريقها لكي تناضل من أجل إسماع صوتها المبحوح ركضا وراء رغيف الخبز ومن أجل استعادة الأرض والعرض والكرامة المستباحة على يد أعداء الأمة وحواريهم. ويأتي الوضع المحتقن من أن الدولة القطرية تعيش أزمة خانقة تنذرها في بعض الأحيان بالمزيد من التفتت والاختفاء من الخريطة السياسية القائمة وذلك لأنها لا تجسم في سلطتها وممارستها الحالية المصالح المشروعة للتكوينات الاجتماعية الرئيسية في أقطارها،علاوة على أن الفجوة بين المجتمع المدني والمجتمع السياسي في ازدياد وحتى ما يسمى بالمعارضة فإنها تستعلى بالأجنبي ومستعدة للتفويت في الوطن من أجل الوصول للحكم،كما أنها أخفقت في بناء مشروع حضاري بديل يتضمن سبل للتنمية العادلة والمستقلة وفشلت في تحقيق شروط النهضة السياسية الديمقراطية فهي قد بقيت بعيدة عن الأضواء أي معارضة نخبوية عميلة ومرتبطة بالدوائر الأجنبية وعملائها في المنطقة.
لعل أقل ما يقال في طغيان ظاهرة الإرهاب وكثرة الخوض فيها في مجتمعنا المعاصر أمران: *الأول يتمثل في أن إبراز الظاهرة هو مجرد أثر ثانوي من آثار الثورة المعلوماتية في مجال الاتصال والإبداع التلفزي والسينمائي ترعرع في المجتمع الأمريكي كأحد الفنون المعبرة عن السلوك الإنساني.
* الثاني يكمن في الإرهاب ليس سوى آلية دفاع لكل من يحاول المحافظة على نفسه أمام ظلم هذه العولمة الاختراقية والامبراطوريات الظالمة بتدخل مباشر من لاعبيها الفعليين أو بتوسط عملائها وأذنابها الذين جمعوا إلى طغيان المستعمر الأجنبي طغيان المستبد الداخلي 
ما يحصل بين الفئات ذات النمو المتباين في المجتمع المتقدم الواحد هو أشد تعقيدا من الذي يحدث في المجتمع المتخلف لأن هذا الأخير خال من الوعي المصاحب بحكم حجاب الايديولوجيا التي تلهي الناس عن الظلم والقهر وتزين لهم المشهد وتبرر لهم الوضع. إن أصحاب السيادة في البلدان النامية ينفون الوحدة البشرية بحجة الخصوصية فيقابلون بين الأمم لحاجتهم إلى مساندة سادة العالم المتقدم قصد تحويل الأنظار عن جرائمهم وطغيانهم وكونهم أعداء للذات البشرية .
هكذا نجد نفس الأمر في المعسكرين: الأضعف يلجأ إلى آلية دفاع بدائية تقابلها آلية دفاع أنجع يستعملها الأقوى. وكلتا الآليتين إرهابية وهي عملة ذات وجهين,مما يجعل العنف ليس حكرا على أحد الطرفين بل هو إرهاب مادي بارد عند الأقوى يفعل في الواقع بتحويل الذوات البشرية إلى موضوعات وآلات مسخرة يقابله عنف مادي حار لا يستطيع أن يكون فاعلا إلا في المخيال بغية المقاومة والصمود والاستماتة. ويصاحب إرهاب القوى البارد إرهاب رمزي حار يفعل في المخيال بإقصاء الذوات الصامدة واتهامها الى حد حصرها في بعدها الحيواني فيقابله عنف رمزي عند الضعيف يفعل في الواقع بتخليص الذوات من الغبن أو التقهقر الذي ردت إليه .
هذا يعني أن المعركة لها مجالين: مادي ورمزي كلاهما عنيف بصورة حارة وباردة. كما يلتقي في المعركة خصمان قويان يستعملهما للسيطرة والاستغلال المشروطين بقتل الذات الإنسانية وتحويلها إلى أداة فاقدة لكل غاية ذاتية وضعف يستعملهما للتحرر من السيطرة والاستغلال تحررا لا بد فيه من إحياء الذات الإنسانية وتحويلها إلى غاية في حد ذاتها. فالرغبة في الانتصار هي الهدف من اللجوء إلى العنف على الصعيد السياسي الدولي وإذا كان العنف ضروريا لمواجهة العنف فان العنف المشروع هو وحده الذي يحقق الأهداف النبيلة بينما يؤدي العنف عير المشروع إلى الدمار ولكن من أين لنا بالمرجعية التي تميز بين المشروع وغير المشروع ؟
إن العنف في المجال السياسي وسيلة وليس غاية في حد ذاته وهو يرتبط بتأسيس الدول والمحافظة على سلامة الأوطان بحمايتها من أي اعتداء وبعبارة أخرى يحضر العنف عندما يكون القانون غائبا ولكن عندما تسن القوانين فإن دائرة العنف تنحسر. بينما الإرهاب لا يكمن في استعمال القوة فحسب بل يعود أساسا إلى الاستعمال غير المشروع والمفرط والمبالغ فيه لها . وإذا خضنا في أسبابه نجد أن التحالف الذي ظهر مؤخرا بين الصناعة والعلم والاستراتيجيا هو الذي أدى إلى نظام سياسي عالمي جديد يهدد الحياة البشرية على الأرض لأنه يمحق الوجدان ويكتسح الساحة ويسيطر على المسطح ويحدث نكبة كينونية كبرى. انه بقدر ما تنمو الإمكانيات العلمية وتزداد الاختراعات الصناعية وتتطور الأجهزة التقنية بقدر ما ينمو الإرهاب وتتقلص الوسائل المتاحة للحد منه أو التغلب عليه.
علاوة على ذلك إذا بحثنا في الجذور العميقة للاجتماع البشري عن لحمة عميقة بين المقدس والدنيوي وبين الدين والسياسة نجد أن الفهم الضيق للمقدس والتوظيف البراغماتي النفعي الانتهازي السلطوي والرجعي للدين يمكن أن يكون أحد الطرق المؤدية إلى ممارسة الإرهاب،اذ في البدء كان الدين هو الذي يوفر التماسك للجماعة البشرية أما في الحاضر فان الايديولوجيا السياسية قد عوضته وورثت وظيفته وهي ايديولوجيا تعبر عن نفسها في خطاب مغلق له صفة الشمولية وتدعي امتلاك الحقيقة المطلقة.آية ذلك أن لا شيء يشبه الفكر الديني الذي يسيطر بقدرته العجيبة على امتلاك الكلام على العباد ويوجههم مثلما يريد إلى ما يرغب فيه.أما السياسي فانه يمتلك القدرة على تحريك جميع الناس ويتحكم فيهم بواسطة استحواذه على الكلمة ويسخر القول وسلطان اللغة وفتنتها،طالما أن " السياسة في سيرورتها الأكثر ايغالا في الزمن هي القدرة على تجديد سلوك الآخرين والتحكم به".[23]
إن الخطاب السياسي هو خطاب إيديولوجي بامتياز لأن هدف السياسي هو التحكم بسلوك الطرف الآخر والسيطرة على المخاطب وتوجيهه لتحقيق مجموعة من الأغراض المحددة سلفا وبذلك يتحول إلى معيار للحكم ولا يعود التاريخ سوى سلسلة من الجرائم البشعة التي لا تبررها أخلاق ولامنطق. على هذا النحو يتوقف الغرب الاستعماري عن أن يكون الينبوع الشمسي المقدس للخير ويتحول الخطاب الايديولوجي إلى راية للحرب وإرهاب العسكر خصوصا وان العنف والقمع يسكنان بنيته العميقة. 
تتميز البيئة السياسية المفرخة للإرهاب بالمظاهر المزرية التالية:
- ثمة أزمة اليوم في حضارة إقرأ زمن العولمة تتمثل في أن القديم يظل يواصل موته وتراجع تأثيراته في حين الجديد لم يتوصل بعد إلى الولادة.
- بروز المركزية في السلطة والإدارة فقد أدت مركزية الدولة إلى بروز الأسر الحاكمة كأنها مؤسسات سياسية تملك الدولة.
- تؤدي أساليب الانغلاق العام إلى إعاقة التنمية بتخدير الناس ودفعهم الى الاكتفاء باقتسام المنافع الآتية من النفاق الحكومي المتولد من الريع النفطي والريع الحال محله في الدول غير النفطية.
- غياب التناوب الديمقراطي للسلطة السياسية في المجتمع وعدم امكانية تداول الحكم سلميا وفقدان المعارضة لأي أمل في الوصول إلى السلطة وقبولها لتوظيف النظام السياسي لها من أجل الحفاظ على بقائه لفقدانها المصداقية لدى الجماهير ولمرضها المستديم وقصورها الحراري الوظيفي.
- يعاني المجتمع صراعا في جميع الاتجاهات بين ماهو مطلق وشامل وبين ماهو موضعي محدود وماهو كلي كوني فمن جهة نجد قوة تسعى نحو التوحيد والتوفيق والانسجام في الشكل والمضمون ومن جهة أخرى تعاكسها قوة متأصلة تحاول أن تحافظ على ما هو ذاتي وخاص من هويتها.
- عدم قدرة الأنظمة السياسية على مواكبة التحولات الاجتماعية العالمية واستيعاب القوى الاجتماعية والسياسة الجديدة وصعوبة تشريكها وإدماجها في آليات الاقتصاد.ولذلك فان الفجوة بين الأمل والواقع تؤدي إلى الإحباط وزيادة الشحنات العدوانية لدى الأفراد فيصبحون مهيئين للتمرد والعصيان كما أن اختلال العدالة التوزيعية يحول الإحباط إلى سلوك عدواني وان الحرمان النسبي والإحساس بالظلم يولدان غضبا وسخطا ورفضا النظام القائم ولو بالعنف.
- كما تميزت البيئة السياسية الدولية بانهيار المعسكر الاشتراكي والايديولوجيا الماركسية في تطبيقاتها السياسية وتشكل نظام عالمي جديد ذا قطب واحد مع تعاظم دور الكيان الصهيوني في المنطقة بعد أن كشرت الامبريالية عن أنيابها عندما حرصت سياساتها على تحجيم القوة العربية مما أدى إلى انهيار العمق الاستراتيجي للشرق وانتهاك حرمة عاصمة الخلافة بغداد، وقد تجلى هذا الانتهاك في الصدام الحضاري المستمر بين الشرق والغرب وقد أدى التفوق الغربي المتصاعد إلى خلق إحساس بالعجز لدى الشباب العربي الأمر الذي نتج عنه تعاظم الشعور بالإحباط واليأس تجاه المستقبل.
- توجد علاقة سببية من تلك الانفجاريات العنيفة والعديد من الأوضاع المزرية التي تعيشها المجتمعات الفقيرة والطبقات المعدومة وبالخصوص اندلاع حروب عديدة متتالية ومتناسلة من بعضها البعض مما جعلت السلام والأمان مجرد حلم وحتى ان اعتمدنا على هيئة سياسية لحل النزاعات ورفضنا منطق إقصاء الآخر وأقررنا له بالحق في الاختلاف فان القوانين التي تعتمد عليها هذه الهيئة تعبر في الغالب عن علاقات القوة وستكون وسيلة للسيطرة على المهزومين تجنبا للانتقام منهم طالما أن الحرب هي امتداد للسياسة بطرق أخرى. وما يسمى بالحرب الوقائية المحدودة والنظيفة ليس سوى تكريسا لمنطق ثنائي يجعل من القوة وسيلة لتحقيق مصالح السياسة وليس فقط مسرحا تتجلى على ركحه العظمة تمهيدا لتحقيق الانتصار النهائي.
ج/ الاستغلال/ التهميش: 
"إن المشروع الصناعي الكبير ينطوي في جوهره على بنية استبدادية"[24]
الظروف الاقتصادية المتأزمة وما نتج عنها من تداعيات اجتماعية سلبية قد أوجدت البيئة المناسبة لنمو ردود الأفعال العنيفة وظهور أشكال من العنف التصفوي فالإرهاب هو نتاج الاستغلال الاقتصادي الذي نعيش فيه ويرجع إلى بروز النزعة الفردية وإيثار المصلحة الشخصية واللهث المتواصل وراء تحقيق أقصى الأرباح والتراكم السريع للثروة, وهذا ما يؤدي بالفئات المهمشة إلى اليأس والخوف من المستقبل نتيجة الإحساس بالإحباط لعجز الدولة عن التنمية والتطور وتعثر محاولات التحديث واللحاق بالغرب وتخلصها من عبء التزاماتها الحقوقية تجاه القوى الاجتماعية.

CONVERSATION

0 comments: