كلمة الفنان صبري يوسف في أربعينية الراحل الكبير سعدي المالح

يرحل المبدع وتبقى أعماله مرفرفةَ فوق أجنحةِ الحياة

تنامى فوق هامته الشَّامخة يراع الإبداع المنبعث من جذورِ العراق القديم، قامة مشبّعة بأبهى كنوز حضارة بلاد الرَّافدين، حضارة سومر وأكّاد وبابل وكلدو آشور السُّريان، حضارة مضمّخة بالثّيران المجنّحة نحو آفاق المعرفة، حيث حدائق بابل تزهو عالياً كإحدى عجائب الدُّنيا، على مقربة منها يقف جلجامش بكلِّ عنفوانه وجبروته بحثاً عن عشبةِ الخلود، المستنبتة فوق قبّة الرّوح. استقى حرفه من خلال تفاقمات اشتعال جنون هذا الزّمان، المستطير فوق وجنة العراق مثل هديرِ الطُّوفان!
الأديب الرّاحل د. سعدي المالح، قامة أدبيّة سامقة، تشرَّبَ من أصفى منابع الآداب، حمل طفولته، مسقط رأسه فوق أجنحته أينما حلَّ ورحل، كتب "حكايات من عينكاوا"، مستلهماً هذه القصص من بيئته الّتي ترعرع فيها، فكان مخلصاً لها، من خلال تسليط رؤاه المشحونة بذاكرة معبّقة بالحنين إلى عينكاوا، كتب قصصه بتقنيات سرديّة عالية، مجسّداً المكان والزَّمان بحميميّة دافئة، حيث نراه  في حالةِ انصهارٍ تام في جغرافيّة المكان، فارشاً حكاياته عن بلدته بطريقة طازجة، كأنّه يصوِّر لنا فيلماً عن سيرة المكان!

حلّق المالح عالياً، عابراً البحار والمحيطات والقارَّات، فترجم ترحاله عبر قصصه "مدن وحقائب"، متوقِّفاً عند الذَّات الهائمة بالسَّفر، حافراً بإزميله أوجاع الغربة وتجلِّيات الحنين، راصداً حضارات المدائن، مسترجعاً في مخياله حضارة العراق القديم، كم من الدُّموع خرّت على وجنةِ الرُّوح، إستقبلته بوَّابات المطارات، عابراً أعماق السَّماء، بحثاً عن أريج الأدب، فحطَّ به الرّحال في موسكو، ليوسمَ جبينه بالآداب العالميّة، ناهلاً من معهد غوركي للآداب، ماجستير في الإبداع الأدبي، مستكملاً طموحه في فقه اللّغة والأدب العربي، كي يتوّج دراساته العالية في معهد الإستشراق في موسكو، برسالة الدّكتوراه في "الأدب العراقي المعاصر في المنفى". 

الرِّوائي والقاص الدَّكتور سعدي المالح، مبدع متجذّر بالحضارةِ العراقيّة الممتدّة على مدى قرون من الزّمان، وُلِدَ كي يكون مبدعاً، طموحاً للغاية، وشغوفاً بالأدبِ والبحوثِ واللُّغاتِ وبكلِّ صنوف الإبداع!
أصدر روايته "في انتظار فرج الله القهّار"، من دار الفارابي 2006، مجسّداً عبر روايته الكثير من الرُّموز والإشارات الدِّينية والثَّقافيّة المتنوِّعة، متطرّقاً إلى فضاءات حضاريّة وأسطوريّة تتعلّق بالعراق الزَّاخر بالميثولوجيا، كما جسّد عبر روايته الواقع المعاصر بكلِّ وقائعه وتطلُّعاته، مركّزاً على ضرورة التَّوازن والتَّضامن والتَّعاون مع كافّة المشارب الثّقافيّة الّتي سادت في المنطقة وقد وظّف هذه الرُّؤية من خلال انشغاله وشغفه بالتَّنوّع والإختلاف وخلق توليفة بين هذه التَّنوعات الثّقافيّة، لأنّها عامل غنى للحياة.  
أصدر مؤخَّراً رواية "عمكا"،عن منشورات ضفاف، بيروت 2013 تتمحور حول مدينة عينكاوا والقرى المجاورة لها، بأسلوب سردي بديع، مجسِّداً تاريخ المكان بطريقةٍ سرديّة مشوّقة، كأنه يقدّم لنا قصصاً من إيقاع وتشويق ألف ليلة وليلة، مع التَّركيز على أدب المكان بتجلِّياتٍ إنسيابيّة متدفِّقة! 
إلتقيته في منتصف التّسعينات في أمسية قصصيّة مشتركة، في سودرتالية، أهداني في حينها مجموعته القصصيّة "مدن وحقائب"، وطلب منّي الكتابة في جريدة المرآة الَّتي كان يصدرها في كندا، أرسلتُ إليه العديد من نصوصي القصصية والشِّعرية بريديَّاً، نشرها في مرآته تباعاً! .. 
درس دبلوم لغة فرنسية لمدّة سنة في كليّة فانيية في مونتريـال، ودبلوم لغة انكليزية من كلِّية بلاتون بكندا.
كان شغوفاً باللُّغات والأدب العالمي، باحث أكاديمي كبير في اللِّسانيات والأدب. ترجم خلال مسيرته الأدبيّة عدداً من الأعمال الكلاسيكيّة عن الرُّوسيّة، وكتب في الصَّحافة العراقيّة والعربيّة والغربيّة أيضاً.
بعدَ رحلة طويلة في مجال الإبداع الأدبي، عمل مستشاراً إعلاميَّاً في أبي ظبي، وأستاذاً للأدب المقارن في جامعة صلاح الدين، ورئيس قسم اللغة الإنكليزية في كلية اللغات، ثمَّ عُيِّنَ عام2007 مديراً عامَّاً لمديريّة الثَّقافة والفنون السّريانيّة في وزارة الثّقافة والشّباب في حكومة إقليم كردستان.

قام بإعداد الكثير من النَّدوات والأماسي والأيام الثّقافية والأدبية والمعارض الفنّية خلال ترؤسه مدير عام لمديرية الثقافة والفنون السّريانيّة، وأسّس مكتبة سريانيّة ضمّت آلاف الكتب بالسّريانية والعربية والكردية والإنكليزية ولغات أخرى، كما سعى إلى تأسيس متحف التراث السرياني في عينكاوا، مؤكِّداً على التواصل الثقافي والفكري مع كافة الحضارات والثقافات والقوميات، مدافعاً عن حقِّ شعبه الأصيل في العراق والإقليم، وفي بلاد الشام، متواصلاً مع شريحة واسعة من الكتاب والشعراء والنقاد والمفكرين والفنانين والمبدعين من شتّى الإختصاصات والبلدان، ودعا الكثير منهم لأحياء أماسي أدبية وشعرية وفكرية!

كتب عن أدبه الكثير من النُّقاد لما تحلّى من رؤية عميقة في بناء القصّة والرِّواية من إبداعٍ خلاق.
كنتُ أتابعه عبر الصّحافة بين حينٍ وآخر، وكان هو الآخر يتابعني من خلال مساهماتي في الصحف والمجلات، وتوطَّدت جدَّاً متابعاته خلال فترة رحيل الأب المبدع د. يوسف سعيد، حيث تابعني بدقة كبيرة من خلال الصحف والمجلات والمواقع الإلكترونية منها عينكاوا كوم، ووجد انَّني توقّفت بكل ما لدي من إمكانيات لإعداد حفل تأبين أدبي كبير يليق بالأب الراحل في سودرتالية إحدى ضواحي ستوكهولم، وكان هو الآخر يخطّط بإعداد أربعينية للأب الراحل في أربيل، عينكاوا، فإتصل بي، ودعاني للمشاركة في أربعينية الأب يوسف سعيد، ولبّيت دعوته، حيث انَّني كنتُ قد اقترحت على اتحاد الكتاب والأدباء في العراق من خلال جريدة الزّمان، إحياء حفل تأبين أدبي للأب يوسف سعيد في بغداد، وإطلع على اقتراحي ونسّق من الإتحاد بأن يقيم هو أربعينية للأب الرّاحل في عينكاوا برعاية وزراة الثقافة والشباب في الإقليم! 
عاش طوال عمره مخلصاً لمسقط رأسه عينكاوا، جال في بلاد الله الواسعة، ثمَّ جرّه الحنين إلى عينكاوا، ليقضي بقية عمره، إلى أن وافته المنيّة بتاريخ 30 .5. 2014 ووري الثرى في هذه الأرض المباركة! 
إلى جنان الخلد أيّها الرّوائي المبدع سعدي المالح، ستبقى شامخاً يا صديقي بين هلالات الرُّوح والقلب! 
وهكذا يرحل المبدع وتبقى أعماله مرفرفةً فوق أجنحةِ الحياة!
ستوكهولم تمّوز 2014
جئتُكَ يا صديقي معَ هبوبِ النّسيمِ


وقف الحزنُ فوق قبَّةِ الرّوحِ 
     فوق جفونِ الأصدقاءِ 
عابراً بحارَ الأنينِ 
وجعٌ في ذبذباتِ الشَّهيقِ ينمو 
وجعٌ في اشراقاتِ الصَّباحِ 
وجعٌ في لجينِ الضُّحى 
أينَ المفرُّ من أوجاعِ العمرِ 
     من جمرةِ الإحتراقِ 
من دموعٍ منسابة
     من حنينِ المآقي!

وجعٌ في أوجِ الحنينِ 
     إلى خدودِ البنينِ 
وجعٌ فوق مساحاتِ الطُّموحِ 
وجعٌ لا يرحمُ الأجنّة 
لايكترثُ لإنسيابِ الدُّموعِ 
وجعٌ على مدى انبعاثِ الرُّوحِ 

جئتكَ يا صديقي 
أنثرُ دمعي فوق حرفي
جئتكَ أنقش لوني 
     فوق نضارةِ السنابل 
     فوق أجنحةِ اليمامِ 
جئتكَ مع هبوبِ النَّسيمِ 
أحملُ أحلاماً تهفو لموجات البحرِ 

جئتكَ في هدوءِ اللَّيلِ 
كي أمسحَ عن جبينِكِ آهاتِ السِّنينِ 
كي أبلسمَ ظلالَ الرّوحِ 
بأشهى ذكرياتِ العمرِ 
كي أرسمَ فوق مسارِ الأحلامِ 
ذكرى أغصانِ الطُّفولة 
كي أبلِّلَ أحزانَكَ برحيقِ القصيدة 

كم من الأنينِ حتّى اغرورقَتْ مروجُ الرُّوحِ 
كم من الأسى حتّى تلظَّت أغصانُ القلبِ! 

وجعٌ في ثنايا العمرِ 
آهٍ حياتنا تهرُّ كأغصانِ الدَّوالي 
تهنا في خضمِّ الجِّراحِ 
إشتعالٌ متواصلٌ في مسارِ الحياةِ 
لا خلاصَ من هولِ الجِّراحِ! 

نحنُ يا صديقي دمعاتُ حزنٍ                        
     فوق هاماتِ الحياةِ 
عمرُنا رحلةُ سؤالٍ عن عبيرِ القصيدة 
رحلةُ فكرٍ نحو شموخِ الجبالِ 

عمرنا نسمة هائمة
     فوقَ مرامي القصيدة 
عمرنا حالةُ انبعاثٍ 
     عبرَ إخضرارِ الطُّفولة 
عمرنا مغامرةٌ وارفة 
     على إمتدادِ المدى 
عمرنُا شهقةُ حبٍّ 
معرَّشة فوقَ خدودِ البحار! 

عمرنا سِفرٌ مفتوحٌ 
     على أجنحةِ اليمامِ 
 عمرنا يا صديقي 
منارةٌ مستديمةُ الألقِ
      فوقَ هلالاتِ الرُّوحِ! 


ستوكهولم حزيران 2014
  صبري يوسف 
أديب وتشكيلي سوري مقيم في ستوكهولم
محرّر مجلّة السَّلام

CONVERSATION

0 comments: