منذ أكثر من الف عام، تطلَّع المتنبي حوله فلم يعجبه الوضع. نواطير مصر نامت عن ثعالبها. حاكمها جاهل لا يستحق عرشها. فصرخ: عيد بأية حال عدت يا عيد... ومن يومها وكل عيد يمرّ أسوأ من الذي سبقه.
فمصر، ام الدنيا، لا زالت نواطيرها نائمة عن ثعالبها. انتفض شعبها الابي في ثورتين رائعتين، ولكن الثعالب اختطفت الثمار في المرتين. وحولَّت الثورة عن اهدافها. من قتل الثوار برَّأته المحكمة او لا زال طليقاً ينظف سلاحه أو لا زال يشارك في الحكم او يستعد للعودة. ومن طالب بمحاكمة القتلة أُلقِيَ به في السجن. مَن زرع مصر فساداً، وأفقر البلاد ووزعها اسهماً على الاقارب والاتباع، حُكِم عليه بالبراءة او شارك بصياغة الحكم. وضحايا الفساد والفقر والاستبداد، الذين خرجوا تحت الحراب، و وضعوا ارواحهم على اكفهم، حُكِم عليهم بالسجن لمدد طويلة. الثعالب طليقة والنواطير في السجون. دكتاتورية باسم الدين ركبت الثورة الاولى. ودكتاتورية عسكرية، لها طابع وطني، ركبت الثورة الثانية باسم مكافحة الارهاب. دكتاتوريتان تكملان بعضهما وتتناوبان علينا.
العراق اعياده دماء، تفجيرات، ذبح، قطع رؤوس، استئصال اقليات، بيع نساء، داعش، قاعدة، معارك مستمرة بين علي ومعاوية، بين الحسين ويزيد، دولة كردية، دولة خلافة، دولة شيعية، سبايا، نكاح جهاد، استشهاد، جنة وحور عين...
سوريا التي ركبتها الاسود لتحولها الى غاب. البقاء فيها للوحش البري الاشرس من نصرة وداعش الى مخابرات، الى جهاديين، الى تكفيريين كلهم في القمع اخوان. مَن لم يمتْ من عضّة أسد مات تحت سكين وحش جهادي. معارضتها الشريفة انحصرت بين مطرقة النظام وسندان الارهاب. وكلاهما ارهاب. اما شعبها فحملته الرياح في كل اتجاه.
وليبيا التي زرعها القذافي رعباً وقهراً ودماء، ومزارع لاولاده وحظاياه، وسجوناً تبتلع حتى ضيوفه، واموالاً يوظّفها لتحسين ادائه الجنسي، او يصرفها على ممارساته المجنونة في اربع جهات الارض. قَبَرَت القذافي الى غير رجعة ليتقمص في مئات القذافيين يزرعون ليبيا اليوم من بذاره اللئيم.
والجزائر التي كانت يوماً محط انظار احرار العالم، يحكمها عاجز لا يستطيع ان يذهب الى الحمّام بمفرده. أصر العسكر على جعله ستارة لحكمهم للدورة الرابعة على التوالي. وكأن بلد المليون شهيد نضب من الرجال. وكأن جميلة بو حيرد تيتمت، وكأن نساء الجزائر توقفن عن انجاب المناضلين الاحرار.
وسودان التخلف وتفقيس الدويلات والحروب المتناسلة والحكم حسب الشريعة وبالدم نفديك ايها البشير. يغرق في بؤسه وحروبه.
واليمن الذي كان سعيداً لم ير السعد ولن يراه لسنوات وربما لعقود كثيرة قادمة بسبب الامراض نفسها التي تنخر في عظام كل الانظمة العربية.
ودول نفطية متجبرة، متفرعنة هي المنبع لكل الحركات السلفية تصدِّر الارهاب المسلح بحسابات جارية في البنوك، وتصلي وتصوم وتؤدي جميع الشعائر الدينية.
وفلسطين " أجراس العودة" التي قرعها سعيد عقل منذ اكثر من نصف قرن، رحل ولم تُقرع. ولن تُقرع طالما ان الصهيوني وضع المتاريس حول الجرس، والفلسطيني يتقاتل على مَن سيقرعه إذا ما وصل يوماً وامسك بالحبل. امسك الحبل يا أخي اولاً وبعدها لكل حادث حديث.
و لبنان؟ آخ يا لبنان! رحمة الله عليك يا شوشو عندما صرخت "آخ يا بلدنا". صرخة مستمرة نأمل ألا تتأبد. فلبنان أحمد فارس الشدياق والبستانيون واليازجيون. لبنان جبران ونعيمه والريحاني ومارون عبود ونخله والاخطل وابو شبكة. لبنان حسن كامل الصبّاح ومايكل دبغي وسالم. لبنان سعيد عقل وخليل روكز وميشال طراد. لبنان فيروز والرحابة ووديع وصباح. لبنان عشرات الوف المبدعين في كل فن ولون...أليس من الاجرام ان يُحكم بهذه الطبقة من السياسيين؟
كل مشهد من المشاهد اعلاه تجد اميركا تتصدره مرة بجزمة الكاوبوي الواضحة البصمات على الرقاب المنحنية. ومرة بنظاّرات عميل السي اي آي خلف الحدث. ومرة بربطة عنق رجل الاعمال على طاولة السمسرة والصفقات. ومرة بهراوة شركات الامن الخاصة، ومرة بالاساطيل والدبابات وصواريخ الحقد الشامل.
طبعاً هناك فسحات أمل في كل بلد عربي على حده. ولكن الوضع السياسي لا يبشّر بخير. باستثناء أضواء خافتة تأتي من تونس الخضراء، نأمل ان تتحول الى منارة نهتدي جميعاً بها. فتونس الوحيدة التي أمنت انتقال السلطة بانتخابات ديمقراطية. وادخلت تعديلات هامة على دستورها منها: حماية مكتسبات المرأة والتوجه نحو تحقيق المساواة. رفض اعتبار الاسلام مصدر التشريع الاساسي. والاهم تجريم التكفير والتحريض على العنف. فتونس هي الوحيدة التي اوصلها ربيعها الى مشارف صيف واعد.
أما المتنبي العظيم، الذي أطلق: عيد بأية حال عدت يا عيد، فالف لعنة الله عليه. عرف اللئيم ان جيناتنا، قبل الف عام من اكتشافها رسمياً، لا تؤهلنا لنظام حكم متطور. كل ما تعدنا به هذه الجينات هو السحل والذبح والاغتيال والتفجير... الشيء الوحيد الثابت في جيناتنا هو الغاء الاخر. كل عام، نتطلع الى الاوضاع من حولنا فلا نجد الا قول المتنبي: عيد باية حال... الف عام والوضع يتقهقر، ونحن نردد قوله المشؤوم هذا. ولكنه لا يكتفي به بل يثبط عزائمنا ويشن حرباً نفسية علينا مؤكداً ان " نواطير مصر نامت عن ثعالبها..." المشكلة ان عدوى النوم امتدت الى كل النواطير. ولم يبق في ساحات العالم العربي الا الثعالب.
متى سيظهر عندنا متنبي جديد يقول ما يشبه: عيد بأحسن حال جئت يا عيد/ الحكم للحرِّ والعدل معبود؟ طبعاً بصياغة شعرية أحسن من صياغتي وتوقعات مبنية على اشارات حقيقية وليست مجرد تخيلات...
0 comments:
إرسال تعليق