منذ استصدار القرار 1559، بعد الغزو الأميركي الهمجي للعراق، ولبنان يشهد فصولاً عجيبة غريبة، وحتى إنّ بعضها ظهر سافراً في اصطناع الفتنة المذهبيّة، أو سافراً في تمترسه خلف خيارات إسرائيليّة، أو سافراً في إغراق لبنان بالمديونيّة، أو سافراً في اختلاق سياسيين دُمى ... وإلخ.
ولبنان لا يزال يعيش توالي هذه الفصول المجرمة من دون رؤية حكيمة جامعة، ومن دون رؤية تحديد من يكون الصديق ومن يكون العدو وما بينهما.
ولكن هذا ليس كلّ شيء لأنّ المسألة متشعِّبة والآراء متجاورة أو متنافرة.
وها هنا مداخلات جريئة:
نحو نهج مقاوم جديد
ـ حبيب فارس (شاعر وناشط سياسي)
للإجابة عن هذه الأسئلة لن يكون بمقدور المرء وضع "نظرية المؤامرة" جانباً، لأن الاجابة ستكون خارج السياق ما دمنا نعيش في ظلّ عولمة متوحشة ومتعنكبة لاصطياد طرائدها من بني البشر فوق خيوط شبكة تآمرية تُسخّر في حياكتها خلاصة ما أنجزته الحضارة الانسانية من تقدم علمي وتكنولوجي، كما ستكون الأجوبة بالمفرق منقوصة طالما أن الأسئلة المطروحة هي شديدة الترابط.
نعرف بأنه طالما اعتمدت استراتيجيات مراكز القرار الإمبرياليّة الخطط "المركّبة والبديلة" في آن واحد فهي لا تضع كلّ بيضاتها في سلّة مؤامرة أحاديّة الهدف كما لا تسقط احتمالات الفشل هنا أو هناك وبالتالي فدائماً يجب أن توجد الخطط الرديفة والبديلة تفادياً لاحتمالات الإخفاق، وليس على سبيل المثال أدلّ على طريقة تخطيط تلك المراكز من أن يكون المموّلون الرئيسيون للعدوّ المعلن الأوّل للولايات المتحدة الأميركية، القاعدة، هم من "عظام رقبة" الحليف العربي الأول للولايات المتحدة، الأسرة المالكة في السعوديّة. ولبنانياً، ليس أدلّ من أن يكون مموّلو وداعمو معظم المنظمات الأصولية على اختلاف أديانها المهدّد لسيادة واستقلال لبنان هم من عتاة "ثورة الأرز" ورعاتهم طمعاً في "ركوب" هذه الجماعات داخل "حفلات" فتنويّة لاحقة.
ما زلت أتذكر ردة فعلي الأولية على نباْ اغتيال الرئيس الحريري، يومها قلتُ لمن أخبرني: "لا أستطيع أن أرى أنسب من قتْل الحريري لاستكمال مشروع "الشرق الأوسط الجديد" الذي كان يبشرنا به المحافظون الجدد وواجهتهم جورج بوش الإبن. آنذاك، لم يكن عليك أن تكون عبقرياً كي تخلص لهذا الاستنتاج، فبعد احتلال العراق كان يجب إسقاط سوريا ولبنان سياسياً على الأقل، كان يصعب على قوات احتلال العراق التقدم عسكرياً نحو هذين البلدين حيث يتطلب الاحتلال المباشر وقتاً للتحضير على جميع المستويات، كان مطلوباً فك الارتباط بين سوريا ولبنان كمقدمة لحصارهما فإعادة صياغة خريطتهما السياسية داخلياً وخارجياً، فجاء القرار 1559 لفرض الانسحاب السوري من لبنان، ورفع الغطاء الرسمي والشعبي عن المقاومة، نحو لفّ حبل المشنقة على أعناق النظام السوري من جهة والمقاومتين اللبنانيّة والفلسطينيّة من جهة أخرى. ولدى استشعار دوائر القرار الأميركي – الغربي – الاسرائيلي إمكانيات فشل هذه الحلقة من المخطط أعقبتها الحلقة التالية التي أودت بحياة الرئيس رفيق الحريري، وبرأيي المتواضع لم تختلف كثيراً أبعاد عملية "تزحيط" صدام حسين في العراق عن أبعاد عملية "تزحيط" رفيق الحريري في لبنان (مع الفوارق بين عمليتي "التزحيط" وشخصيتي الرجلين وأدوارهما وطرق التخلص منهما) ولعلّ أقرب ما بين دوريّ صدام والحريري هو احتضانهما وتكبير دوريهما من قبل قتلتهما قبل النجاح في تشجيع الأول على اجتياح الكويت وتوريط الثاني في الإعداد للقرار 1559.
لقد كنت وما زلت مقتنعاً بأنّه لم يكن هناك في لبنان أو سوريا أو ربما خارجهما "عثماناً أصْلَح قميصاً" من الرئيس رفيق الحريري لخدمة إنجاز الحلقات التالية من مشروع "الشرق الأوسط الجديد". والأحداث المتعاقبة حتى أيامنا الراهنة تؤكد صحة هذا الاستنتاج. ولم تكن محاولة اغتيال مروان حمادة السابقة لاغتيال الحريري سوى تمهيد و"بروفة" لاغتيال الثاني، تمهيدٌ للاتهام المسبق، و"بروفة" لاستشراف النتائج، أما الإغتيالات اللاحقة لاغتيال الحريري فتندرج في أطر التعمية عن القتلة الحقيقيين ومواصلة التعبئة والاستنفار الضروريين لاستكمال الحلقات التالية من المشروع الأمّ.
إذن من الصعب رؤية عدوان تمّوز الإسرائيلي على لبنان والمحكمة الدوليّة الخاصة بلبنان وكلّ تداعياتهما سوى حلقات مترابطة من مشروع رئيسي تمّ نعيه مراراً - دون التسليم بدفنه حتى الآن- بدءاً من فشله في العراق مروراً بفشل "الانقلاب المُرتقب" في سوريا وهزيمة إسرائيل في لبنان وصولاً إلى أمّ الفضائح المتمثلة بانكشاف سيطرة إسرائيل على قطاعات الاتصالات في لبنان من أجل توثيق "الأدلّة القاطعة التي لا يرقى اليها الشك" ضد متهم "جديد" باغتيال الحريري "اختُرع" بين عشية وضحاها دون أن يتكرّم علينا المتّهمون (كسر الهاء) بشرح أسباب "تغيير رأيهم" بعد كل الجهود "الثورويّة الأرزويّة" التي بذلوها دون كلل طوال خمس سنوات لاقناعنا بتجريم المتهم "القديم".
على ضوء ما تقدم، وعلى ضوء ابتلاء لبنان بمصائبه المزمنة المعروفة الناجمة أولاً عن تركيبته الهجينة كياناً وديموغرافيا ونظام حكم طوائفي ومذهبي، وثانياً مجاورته لكيان استيطاني عدواني عنصري مصطنع من وظائفه الأساسية تثبيت هذه الصيغة الهجينة ومنع أي تغيير تقدميّ في لبنان، لن يكون هناك إنفراج أمني واقتصادي واجتماعي مستديم على المدى المنظور. وأفضل ما يمكن أن يحدث آنياً هو تسوية هشّة جديدة ينتجها اللاعبون الإقليميون والدوليون الرئيسيون تكون كسابقاتها على امتداد تاريخ لبنان الحديث بمثابة استراحة للمحاربين الكبار والصغار بين كلّ حلقتين من حلقات مسلسل التآمر اللامتناهي نفسه على هذا الوطن الصغير وشعبه المنكوب، حيث أنّ إعادة إنتاج الأزمات المدمّرة والحلول الواهية أضحت كالقدر المحتوم والمشؤوم للبنان وأهله.
ففي لبنان لن يكون هناك إمكانيّة انفراج واستقرار - ولو نسبيّ - دائم ما لم تُحسم مسألتان رئيسيتان: ضرورة الحفاظ على المقاومة وتعزيز دورها في الدفاع عن لبنان، بعد أن ثبتت فعالية هذا الدور للعالم أجمع، وإحداث تغييرات جذرية في مفهوم هذه المقاومة وبنيتها العقائدية وتوجهاتها المستقبليّة، تنقذها أولاً من المحاصرة الخطيرة داخل جدران مذهب، وتُحصّنها بالتالي داخل قلعة وطنيّة عابرة للطوائف والمذاهب والفئات، ما يجعلها ثانياً: مركز الإضطلاع بمسؤولية الشق الآخر من موجبات المقاومة، بما هو إحداث تغيير بنيويّ في طبيعة النظام اللبناني القائم، معبّراً ومستنداً الى طموحات غالبية الشعب اللبناني في إلغاء الطائفية السياسيّة وإقامة نظام علمانيّ ديمقراطيّ حقيقي يضع لبنان وشعبه على سكة التحرر والتطوّر الديمقراطيّ والاقتصادي والاجتماعي الفعلي.
طبعاً ليس مطلوباً من حزب الله ولن يكون بمقدوره – إذا شاء ذلك - التصدي بمفرده لهذه المهمة الصعبة والمعقدة ومن المستحيل الركون الى الطبقة السياسية السائدة راهناً لانجازها أو حتى المشاركة في هذا الانجاز وهي الطبقة المتوارثة لتقاليد حماية نظام التخلف والفساد الحالي والاستئثار من خلاله بخيرات ومقدرات الشعب اللبناني وصولاً الى تفقيره وإذلاله مع كل ما يمليه ذلك من شروط التبعيّة السياسية والاقتصاديّة لأعداء لبنان ومضمريّ الشرّ له. إن الاضطلاع بهذه المهمّة يشكل التحدّي الأساسي لكل القوى والجماهير الوطنية والعلمانية والديمقراطيّة والتقدمية اللبنانيّة التي أثبتت أيضاً على مدار العقود بأنها متى وحّدت صفوفها وشحذت إرادتها وعزمها على النضال قادرة على تحقيق الاختراقات والانجازات البالغة. دليلنا على ذلك بأن أيّ هامش متبق في لبنان من استقلال وسيادة وحريّات سياسية وديمقراطية ونقابية تعود أصوله لنضالات هذه القوى وحسب.
0 comments:
إرسال تعليق