(الخطر الأكبر اليوم على الوجود المسيحي العربي هو الخطر الصهيوني الذي يهدد المسيحية في مهدها الفلسطيني ويسعى حثيثا إلى التهويد الكامل لمهد المسيحية والتطهير العرقي والديني للعرب فيه)
يوم الجمعة الماضي بنى الرئيس الفرنسي "العلماني" نيكولا ساركوزي سياسيا على ما بدأه بابا الفاتيكان بنديكت السادس عشر دينيا في دعوة متصاعدة بدأت تتخذ وجها أوروبيا "للدفاع" عن المسيحيين في الشرق، وهم مسيحيون عرب إما أصلا أو ثقافة في غالبيتهم الساحقة، وهو دفاع غير بريء يتجاهل حقيقة أن الوجود العربي المسيحي لم يتعرض للتهديد والدولة العربية الاسلامية في عز وحدتها وقوتها، ولا تعرض للتهديد في ذروة الحروب "الصليبية" ولا في النسخة الغربية المعاصرة لهذه الحروب التي بدأت بوجه أوروبي وانتهت بوجه أميركي.
دينيا وسياسيا وتاريخيا يجري ارتكاب خطأ فادح بحق الحقيقة الموضوعية المجردة عندما يجري، كما يحدث الآن، البحث عن أسباب الوضع الحرج الذي تعيشه الأقلية المسيحية في الوطن العربي بصفة رئيسية وفي العالم الإسلامي بصفة عامة في إطار عناوين مثل الحريات الدينية وحقوق الإنسان وأوضاعهما في الدول العربية - - بالرغم من الحالة المزرية التي تعيشها الحريات العامة وحقوق الإنسان في هذه الدول مما وفر أرضا خصبة ويفتح ثغرات واسعة للتدخل الأجنبي والعبث الخارجي - - في معزل عن الإطار العام الأوسع للصراع الدائر اليوم في الوطن العربي وحوله وعليه وعلى ثرواته ومستقبله، في الأقل لأن هذه العناوين وأمثالها من الشعارات "الديموقراطية" الليبرالية الغربية تستخدم كاسحة ألغام دعائية توقظ الفتن الدينية والطائفية من أجل تفتيت وحدة المجتمع العربي والإسلامي بعامة والدولة القطرية بخاصة في مقاومة الاحتلال الأجنبي المباشر أو الهيمنة الأجنبية غير المباشرة التي تفرض اليوم حصارا خانقا على الوجود الاسلامي في عقر داره العربي بأغلبيته الإسلامية وأقليته المسيحية معا لكنها تحاول تركيز الأنظار بعيدا عن هذه الحقيقة الواقعية البسيطة بتسليط الأضواء على معاناة الأقلية فقط وتحميل "عدم تسامح" الأغلبية المسؤولية عن معاناتها، وتنصب نفسها دون أي توكيل مدافعا عن هذه الأقلية، وهو دفاع ليس بريئا على الإطلاق، ويسوغ نفسه بمغالطات تنفيها حقائق الواقع والتاريخ على حد سواء.
والحقيقة الأولى تكمن في هذا الواقع نفسه الذي يغيب الحقيقة الساطعة كالشمس الكامنة في واقع أن الوجود العربي والاسلامي هو المهدد اليوم بالاحتلال والحصار والعقوبات والهيمنة، وأن الوجود العربي المسيحي في بلاد العرب والمسلمين الذي لم يتعرض للتهديد عندما كانت الدولة العربية الإسلامية هي القوة العظمى في العالم لم يصبح مهددا إلا بعد انهيار هذه الدولة واستباحة الاستعمار الغربي القديم والامبريالية الأميركية المعاصرة لأقطارها ومجتمعاتها.
والحقيقة الثانية الساطعة كالشمس أيضا أن المسيحية قد ولدت في فلسطين وانطلقت من القدس بخاصة، قبل أن ترعاها الحاضنة العربية فتشب عن الطوق لتنطلق نحو الغرب بعد ذلك. والخطر الأكبر اليوم على الوجود المسيحي العربي هو الخطر الصهيوني الذي يهدد المسيحية في مهدها الفلسطيني، وهو بالتأكيد ليس العروبة أو الإسلام أو العرب أو المسلمون بل هو المشروع الصهيوني الذي يسعى حثيثا إلى التهويد الكامل لمهد المسيحية والتطهير العرقي للعرب فيه، للمسيحيين منهم وللمسلمين الذين ادخلوهم في ذمتهم وحافظوا على وجودهم منذ القرن السابع الميلادي وحتى اليوم.
والحقيقة الثالثة هي أن مظالم "المواطنة" للمسيحيين العرب، التي يختار الغرب العلماني اليوم اختيارا انتقائيا الدفاع عن "الحرية الدينية" منها فحسب، هي مجرد جزء يسير من مظالم فقدان حقوق المواطنة والانسان والحريات العامة وحتى المدنية التي تعاني منها الأغلبية الاسلامية في أنظمة حكم عربية ما كان لها أن تستمر لولا الدعم الغربي نفسه، الذي يدعم في الوقت نفسه دعما أقوى "يهودية" دولة الاحتلال الاسرائيلي دون أن يجد قادة الغرب في التطهير العرقي والديني الجاري فيها ضد العرب والمسلمين منذ ما يزيد على ستين عاما سببا كافيا لدعوة مثل دعوتي ساركوزي وبابا الفاتيكان.
والحقيقة الرابعة تاريخية، يكاد يغيبها عن الوعي الإسلامي والوعي المسيحي العربيين استفحال التهديد الأميركي والغربي للوجود العربي والإسلامي وتصاعد المقاومة الإسلامية لهذا التهديد، وقد تنبه لها مؤخرا أمين عام اللجنة الوطنية للحوار الإسلامي – المسيحي في لبنان، الشيخ د. محمد السماك، الذي نشر "قراءة متأنية لنص العهد النبوي لنصارى نجران" استوقفه فيها أمران، كما قال، أولهما "أن العهد لم يكن لنصارى نجران حصرا، إنما للمسيحيين عموما"، والأمر الثاني "أن الالتزام الاسلامي بنص العهد .. ملزم لكل المسلمين في كل زمان ومكان وحتى قيام الساعة"، ومن هذا العهد النبوي انبثقت "العهدة العمرية" الأشهر في الأدبيات العربية. وكان الدكتور السماك يعقب على "أحداث ووقائع تتوالى فصولا" في دول عربية وإسلامية ضد المسيحيين بسبب "الجهل" ب"المبادئ والقيم النبوية الملزمة للمسلمين جميعا"، محذرا من أن "تغييب هذه الثقافة يشرع الأبواب أمام ثقافة أخرى معاكسة".
إن المغالطات التي يروجها إعلام الأطماع الأجنبية في بلاد العرب والمسلمين يملي على العرب مسلمين ومسيحيين على حد سواء العودة إلى هذه الثقافة التي حمت الوجودين الاسلامي والمسيحي طوال القرون الأربعة عشر الماضية، المسلمون لأن هذه الثقافة هي منابع دينهم الحنيف والمسيحيون لأنها ثقافة تمثل جزءا رئيسيا هاما من تاريخهم العربي ووعيهم القومي.
والحقيقة الخامسة تكمن في التناقض التاريخي بين التعددية الدينية والتسامح الديني في الدولة العربية الاسلامية وبين رفض الآخر وإقصاؤه الذي ميز احتكار الفاتيكان للمسيحية الذي قاد أولا إلى انقسام الكنيسة إلى شرقية وغربية دارت بينهما حروب وصراع لم يحسم ليوحدهما حتى اليوم، وقاد ثانيا إلى تمرد الطوائف البروتستانتية على الفاتيكان الذي تمخض عن إقصائه لها لجوء رعاياها إلى أميركا الشمالية حيث يمثلون أغلبية المسيحيين اليوم، وقاد ثالثا في مرحلة "محاكم التفتيش" الكاثوليكية إلى بحث اليهود في أوروبا عن ملاذ آمن لهم في أقطار الدولة العربية الإسلامية.
والحقيقة السادسة تكمن في التناقض اليوم بين الحملة التي يقودها الفاتيكان لعودة الغرب إلى المسيحية، وبخاصة في أوروبا، حيث يعتبر "العلمانية" خطرا عليها، وبين الحملة الغربية التي انضم الفاتيكان إليها من أجل "علمنة" العرب والمسلمين لمنع عودة مماثلة لهم إلى الإسلام، حد أن يتبنى البابا بندكيت السادس عشر في وثيقته إلى سيندوس كنائس الشرق الأوسط في تشرين الأول / اكتوبر الماضي دعوة المسلمين إلى علمنة نظامهم السياسي والاجتماعي بالإقرار بالشعارت العلمانية ل"الحريات الدينية وحقوق الانسان" باعتبارها "العامل الأهم" لحماية الوجود المسيحي في المنطقة، معتبرا عدم تفريق المسلمين "بين الدين والسياسة" و"اعتبار الشريعة الاسلامية المصدر الأساسي للقوانين" ورفع شعار "الاسلام هو الحل" و"تزايد نشاط الاسلاميين المتشددين" هي الأسباب لتهديد الوجود المسيحي العربي دون اي إشارة إلى الاحتلال العسكري والهيمنة الأجنبية إلا بالدعوة إلى "السلام" والتعايش معهما.
والحقيقة السابعة تكمن في التناقض بين دعوة الفاتيكان إلى علمنة الحياة السياسية والاجتماعية للعرب والمسلمين وبين الوثيقة التي اعتمدها الفاتيكان عام 2007 التي رفضت الإقرار بالحريات الدينية وحقوق الانسان للطوائف المسيحية الأخرى. ففي تموز / يوليو من ذلك العام أقر البابا بندكيت وثيقة أثارت موجة غضب عارمة في أوساط كل الطوائف المسيحية غير الكاثوليكية لأنها اعتبرت "أن كنيسة المسيح موجودة فعلا وحصرا في الكنيسة الكاثوليكية" وبأنها "كنيسة المسيح الحقيقية" و "الطريق الحقيقي الوحيد للخلاص" في حين اعتبرت "الايمان المسيحي خارج الكنيسة الكاثوليكية ليس كاملا" وأن الكنائس الأورثوذكسية ومنها القبطية وكذلك البروتستانتية "ليست كنائس بمعنى الكلمة، بل تجمعات اكليركية".
وتناقضات الفاتيكان هذه سواء تجاه العرب والمسلمين أم تجاه الكنائس الأخرى إنما تعزز معارضة الطوائف المسيحية غير الكاثوليكية لمبدأ "عصمة البابا" الذي ما زال نقطة خلاف رئيسية تحول دون توحيد هذه الكنائس لكنها تناقضات تلقي ظلالا قوية من الشك في صدقية دوافع تصدر الفاتيكان للدفاع عن المسيحيين العرب الذين تنتقص وثيقته لسنة 2007 من إيمانهم ولا تعتبر كنائسهم "كنائس بمعنى الكلمة"، مما يقود إلى الحقيقة الثامنة المتمثلة في الصراع الدائر بين الكنيسة الكاثوليكية وبين الكنائس البروتستانتية وبخاصة طوائف المسيحية الصهيونية الأميركية للتبشير بين أتباع الكنائس العربية الأعرق والأقدم وبخاصة القبطية في مصر والكلدانية والأشورية والسريانية في العراق وسوريا والأورثوذكسية في فلسطين والأردن وسوريا ولبنان.
والحقيقة التاسعة هي أن الدعوة التي كرر البابا بندكيت السادس عشر توجيهها إلى قادة العالم و"مسؤولي الأمم" من أجل "الدفاع عن المسيحيين من الانتهاكات وعدم التسامح الديني" في الدول العربية معتبرا الدفاع عنهم "مهمة شاقة لا تكفي من أجلها الأقوال" هي دعوة ترقى إلى دعوة للتدخل الأجنبي بالأفعال في وطن عربي تضيق فعلا المساحة التي لا يوجد فيها تدخل أجنبي فعلا. وسواء كانت هذه الدعوة بحسن نية أم مقصودة حقا، فإن رد المتحدث باسم البابا الأب فديريكو لومباردي على شيخ الأزهر د. أحمد الطيب الذي اتهم الفاتيكان بالتدخل في شؤون مصر الداخلية بنفي الاتهام قائلا "لم نتدخل، واعتقد أن هناك سوء تفاهم في التواصل" لم يكن ردا مقنعا لأنه لا يمكن عزله عن سياق مواقف الفاتيكان منذ جلس البابا بنديكت السادس عشر في الكرسي البابوي.
فالبابا لم يثر غضب العرب والمسلمين لأنه قام في سنة 2008 بتعميد الايطالي من أصل مسلم مصري، مجدي علام، فهذا ينطبق عليه قول الشاعر العربي "ما زاد حنون في الاسلام خردلة، ولا النصارى لهم شغل بحنون"، لكنه أثار غضبهم لأن من عمده اعتنق الكاثوليكية بحجة كان البابا نفسه كررها قبله وهي أن "الاسلام دين عنيف .. ومصدر نزاعات تاريخيا"ـ على حد قول علام صاحب كتاب "تحيا إسرائيل" والحاصل على جائزتين صهيونيتين. فقداسة كرسي البابا وثقافة بندكيت الشخصية كان حريا بهما أن يجعلاه أكثر حساسية وتفهما للمظالم التي ألحقتها بالعرب والمسلمين الحركة الصهيونية والدولة التي أقامتها في فلسطينوالاحتلال الأميركي للعراق وأفغامستان، وكان حريا بهما أن يجعلاه أكثر إدراكا لكي لا يتحول الفاتيكان إلى جزء من حملة صهيونية – أميركية لشيطنة الاسلام والمسلمين مما يغذي الخوف من الاسلام "الاسلاموفوبيا" في الغرب، وهذه هي الحقيقة العاشرة.
إذ لا يعقل على سبيل المثال أن لا يكون الفاتيكان بكل إمكانياته الاعلامية والمعلوماتية الضخمة لم يطلع مثلا على استطلاع الرأي الذي أجراه معهد غالوب في مثل هذا الشهر من العام الماضي وأظهر ان رأي نصف الأميركيين في الاسلام غير إيجابي وأن نصفهم متعصب شخصيا ضد المسلمين. لكن دعوة البابا "مسؤولي الأمم" إلى الدفاع بغير الأقوال عن مسيحين عرب ينتقص الفاتيكان من إيمانهم ولا يعتبر كنائسهم كنائس حقيقية كان أحدث دليل على أن الفاتيكان ليس حريصا بعد على الفصل بينه وبين حملة تسعير الخوف من العرب والمسلمين في الغرب التي يغذيها السياسيون الطامعون في ثرواتهم وأراضيهم الاستراتيجية، ولا حريصا على الانحياز لعدالة مقاومة العرب والمسلمين لهذه الأطماع، ولا حريصا على تفهم أن هذه الأطماع وما تمخض عنها من احتلال وهيمنة و"حرب عالمية على الارهاب" تكمن في قلب العداء المتنامي للغرب حد التطرف والارهاب الفعلي بين العرب والمسلمين بكل ما يفاقمه كل ذلك من مخاطر على الوجود العربي والاسلامي نفسه وكتحصيل حاصل على الوجود العربي المسيحي.
وهذه هي الحقيقة التالية ضمن سلسلة أخرى من الحقائق التي تحمل الفاتيكان مسؤولية أخلاقية وإنسانية عن كل ما سوف يترتب على عدم مسارعة الكرسي البابوي إلى التوقف عن توفير مسوغات دينية تسارع المصالح السياسية والاقتصادية الغربية إلى استغلالها لخدمة أطماعها في بلاد العرب والمسلمين، فهذا النهج الفاتيكاني مزدوج المعايير بدأ يتحول في حد ذاته إلى خطر على الوجود المسيحي العربي، ويغذي ذلك استمرار صمت الفاتيكان عن حقيقة أن الوجود المسيحي العربي أصبح مهددا في العصر الحديث فقط مع دخول الاستعمار الأوروبي أولا ثم بعد الاحتلال الاسرائيلي في فلسطين وبعد الاحتلال الأميركي للعراق. إن الحديث الغربي اليوم عن كون المسيحيين العرب في العراق ومصر – وربما في سوريا والأردن غدا -- هم "تحت الحصار" الاسلامي إنما يبعث برسالة غربية واضحة: تكرار المثال اللبناني بوضع المسيحيين فيه تحت الحماية وبالتالي تحت الوصاية الغربية لاستخدام هذه الوصاية ضد الوحدة الوطنية عندما يتعارض القرار الوطني مع المصالح الغربية.
في سنة 1095 أطلق خطاب للبابا أوربان الثاني في كليرومونت بفرنسا شرارة الحروب الصليبية بالدعوة إلى "تحرير القبر المقدس" في القدس و"تحرير مسيحيي الشرق الرازحين تحت طغيان المسلمين"، لكن دعوة البابا بنديكت اليوم تقتصر على "الدفاع عن مسيحيي الشرق"، أما "القبر المقدس" فلا يبدو الكرسي البابوي معنيا به. وكانت الحملة الصليبية الأولى قد انطلقت من المدينة الألمانية كولون. والمفارقة التاريخية أن أهالي كولون قضوا على اليهود بين ظهرانيهم أثناء الحروب الصليبية. وفي سنة 1996، انطلقت من كولون جماعة مسيحية كبيرة في مسيرة على طريق تلك الحملة، تصلي وتطلب الغفران من العرب والمسلمين في طريقها. وربما تكون مسيرة مماثلة يقودها البابا اليوم هي المدخل السليم لحماية الوجود المسيحي في الشرق العربي الاسلامي.
* كاتب عربي من فلسطين
0 comments:
إرسال تعليق