إعلام يحرّض على العدوان والكراهية: "أبو غريب" و"غوانتنامو" و"ما وراء الشمس"/ شوقي مسلماني


كلّ مَنْ يقرأ صحيفة "ذي أستراليان" التي تصدر يوميّاً في سيدني يلحظ مدى تحاملها على العرب والمسلمين الذين يناهضون ولو كلاميّاً خططَ الغرب الإمبريالي التدميريّة في فلسطين أوّلاً، التي يتعرّض شعبها لأبشع أنواع القهر قتلاً وتهجيراً واستيطاناً، ثمّ في العراق حيث الإحتلال (الأميركيون أطلقوا هذه الصفة على أنفسهم وليست من عنديّاتنا) يعتقل ويعذِّب بوحشيّة قروسطيّة ويحرق الذخائر والنفائس الأدبيّة ويعبث بالآثار وينهبها ويرعى الفيدراليّة التي يقول عنها جوزيف أبو خليل أنّها هي "التقسيم ولو بعد حين". من دون أننسى اختلاق الكيانات وافتعال الحدود وابتناء السفارات بين العربي والعربي منذ انتهاء حرب اللصوص التي يُطلَق عليها مجازاً الحرب العالميّة الأولى إلى الآن. ومن دون أن ننسى العبث بأفغانستان كلِّها منذ ثمانينات القرن الفائت وقصف قراها الطينيّة بعد أحداث أيلول بقنابل يبلغ وزن كلّ منها 10 طن ومن دون أن ننسى الضغوط الإستعلائيّة والخطيرة على سوريا بمعزل عن موضوع إغتيال الرئيس الحريري وذلك لتحويل سوريا إلى شرطي في العراق كما هي باكستان في أفغانستان ولإنهاء دعم سوريا مهما كان هذا الدعم هزيلاً لمنظّمات فلسطينيّة على أراضيها بالتوازي مع المساهمة في تنفيذ باقي بنود رأس حربة الفتنة الجديدة المتمثّلة بالقرار 1559 (كلّ القلاقل التي شهدها لبنان في السنوات الأخيرة رافقت وأعقبت صدور هذا القرار) ومنها تجريد المقاومة في الجنوب اللبناني من السلاح الذي يطال العمق الصناعي لشمال إسرائيل المحاذي للبنان وتجريد المخيّمات الفلسطينيّة من السلاح وليس ضبطه تمهيداً لتوطينهم وإعفاء إسرائيل من تنفيذ القرار الدولي رقم 194 الذي يقضي بعودة المهجّرين الفلسطينيين إلى ديارهم التي هُجِّروا قسراً منها (القرارات الدوليّة مُلزمة على العرب ونافلة إذا طالت الإسرائيليين).
ولا تخلو "ذي أستراليان" يوميّاً تقريباً من التحقيقات والدراسات والمقالات والتعليقات والتغطيات المعادية للعرب وللمسلمين المناوئين لكافّة أشكال القهر والإذلال والإستعمار والنهب والإستيطان والتعذيب والتهجير في أوطانهم الأم وحسب، فهي أيضاً تُحرِّض (أسوة بصحيفة دايلي تلغراف اليوميّة الواسعة الإنتشار) ضدّ كلّ أسترالي من أصل عربي أو مسلم يقول لا لهذا العبث الإرهابي الدولي، وتبعث بجواسيسها "مهنيّاً" لدخول دور العبادة وحضور المناسبات العامّة لالتقاط أيّة عبارة يمكن اقتطاعها من سياقها وتصويرها على أنّها تحضّ على الكراهية وتخريب السلم الأهلي حتى ولو كانت هذه العبارة هي من صلب تشريعات الأمم المتّحدة التي يُضرب بها وبتشريعاتها عرض الحائط متى شاء الإمبرياليّون الجدد أو اليمينيّون المحافظون الجدد أو كما يطلقون على أنفسهم المسيحيّون الصهاينة في واشنطن، ومن هذه العبارات حق مقاومة الإحتلال وطرده.
وفي مقالةٍ وردت على الصفحة الأولى لصحيفة "ذي أستراليا" هذه وتحت عنوان "رجال دين يحضّون على كراهيّة الغرب" مرفقة بصورة كبيرة للشيخ عبد السلام زود يرِد أنّ رجال دين في كلّ من سيدني (الشيخ زود) ومالبورن (الشيخ محمّد عمران، ورئيس تحرير "مكّة نيوز" الداعية هارون أبو طلحة) يناوئون مقترحات رئيس الوزراء الفيدرالي (الأسبق) جون هاورد لمكافحة الإرهاب والتي تقضي بعقوبة السجن سبع سنوات على كلّ من يثير القلاقل بين الجماعات المتنوّعة بما يهدّد السلم الأهلي والأمن والحكومة ويؤيّد منظّمات ودول "في حالة حرب مع أستراليا"!.
وفي مقطع من المقال يرد وبتحريض واضح أنّه بالضدّ من مقترحات السيّد هاورد فإن الشيخ زود وطوال شهر كان يستغل خطب يوم الجمعة لتمجيد "المقاتلين المسلمين" ويقتطع الكاتب (ريتشارد كرباج ـ أسترالي من أصل عربي) مستشهِداً: "ألا فلينصر الله المجاهدين في العراق" ويقتطع أيضاً مستشهداً: "ألا فلينصر الله المجاهدين في أفغانستان ... وفلسطين".
تقول صحيفة "ذي أستراليان" في تقديمها للمقال أنّ كاتبه مقيم في مالبورن ويبعث إليها بالتقارير من هناك، وأنّه قضى شهراً متجوِّلاً بين المساجد "المثيرة للجدل" في كلّ من سيدني (ومنها مصلّى أهل السنّة والجماعة في هالدون ستريت ـ لاكمبا) ومالبورن (ومنها مسجد برانزويك).
إذن قضى المراسل شهراً كاملاً متجوِّلاً بين مدينتين عاصمتين منقِّباً ومدقِّقاً ومفتِّشاً ومتصيّداً سمكاً ليعود أخيراً بسلّة فيها سمكتين لا غير: السمكة الأولى هي: "ألا فلينصر الله المجاهدين في العراق" والثانية هي: "ألا فلينصر الله المجاهدين في أفغانستان ... وفلسطين"!. وبهاتين السمكتين الحجّتين الدامغتين يؤكِّد الكاتب الذي تتصدّر مقالته صحيفة "ذي أستراليان" أن الشيخ عبد السلام محمّد زود (لاحظوا تأكيد الكاتب على رسم الإسم الثلاثي للشيخ زود) يتحدّى السيِّد رئيس الوزراء الفيدرالي (الأسبق) جون هاورد ومقترحاته المكافحة للإرهاب والإخلال بالأمن والسلم الأهليين وتحريض جماعات على جماعات وتأييد ودعم منظّمات ودول هي في حرب مع أستراليا (وليس منظّمات ودول تحاربها وتغزوها أستراليا ـ ولا معنى لهذا القول خارج سياق تحميل أفغانستان نتيجة أعمال منظّمة القاعدة ومسؤولها الأوّل الشيخ أسامة بن لادن ـ كما لا معنى لهذا القول خارج سياق غزو واحتلال العراق بحجج كاذبة كما أعلن أكثر من مسؤول أميركي وفي طليعتهم وزير الخارجيّة الأسبق كولن باول الذي أعلن مراراً وتكراراً ـ بسبب آلاف المقالات التي شهّرت به وحقّرته ـ أن أكاذيبه في ما يخص العراق "هي وصمة عار على جبينه وفي سجلّه".
إذن فالعبارتان السمكتان السمينتان السالفتان اللتان أطلقهما الشيخ زود بعد تفتيش وشهر من التجسّس المهني الإعلامي كفيلتان بالإقرار أنّ رجال دين مسلمين في أستراليا يحضّون على الكراهية بالضدّ من مقترحات السيّد هاورد لمكافحة الإرهاب.
ويغيب عن الكاتب في صحيفة "ذي أستراليان" التي تنتصر لاحتلال العراق وقلّما تلتفت إلى مآسي فلسطين وشعبها المنكوب بأبشع أنواع الإستعمار أن على أستراليا أن تفتتح مئات المعتقلات لاستيعاب الكثير من الأستراليين العرب والمسلمين والأستراليين من أصول غير عربيّة أو إسلاميّة الذين يقولون عين ما قاله زود بهذه الطريقة أو تلك لو استجابت حكومة السيّد هاورد في حينه لادِّعائه وأُعمِل سيف "الإعتقال لسبع سنوات" في رقاب العباد.
وغاب ويغيب عن الكاتب والصحيفة التي تحتفي به أن الأجدر هو معالجة الوضع برمّته أقلّه الإعتذار عن المآسي التي سبّبها الغزو الأميركي ومعه بريطانيا وأستراليا لشعبي العراق وأفغانستان، وإدانة جدار الفصل العنصري الذي أنشأته إسرائيل في الضفّة الغربيّة مقتطعاً الكثير ممّا تبقّى من أراضي الضفّة وفاصلاً الأخ عن أخيه والأب عن بنيه (الدولتان الوحيدتان في العالم اللتان لم تندّدا بجدار العار هما أميركا وأستراليا فيما بريطانيا ـ وعد بلفور تحفّظت) ليس من الشهامة ولا من الكرامة ولا من الأصالة التحريض على اعتقال "فرد" والسكوت على "جماعة". الكلّ سواسية في أستراليا إلاّ إذا كان التوقيف والسجن صارا خاضعين أيضاً لحسابات الكلفة، أي يُعتقل أفراد لا يتجاوز عددهم الثلاثة أو العشرين أو المئة ضمن كلفة زهيدة جدّاً، ومن خلال هؤلاء يجري كمّ أفواه الآخرين (بلد محظوظ وحريّة رأي وتعبير وديمقراطيّة) وكلّ ما ورد عن الشيخ زود في مقالة ريتشارد كرباج في "ذي أستراليان" ورد شبيهه عن الشيخ عمران وعن الداعية هارون أبو طلحة.
يقول الكاتب في مقالته أن الشيخ محمّد عمران (وبعد متابعة استمرّت شهراً) يؤكِّد أنّ شيئاً لن يحول "دون تحقيق النصر" وأن الآخرين "يخافون من وحدتنا". هل كلّ من يدعو جماعته ليلتفّوا حول بعضهم البعض يكون يحرِّض على الإرهاب؟. على هذا فإنّه يجب توقيف كلّ إمام أو مطران أو موبذان أو زعيم أو رئيس حزب أو شيخ قبيلة يقول بوحدة أبناء طائفته أو دينه أو قومه ودفعه إلى السجن. أمّا الدفع إلى السجن بمن يأمل أن ينتصر المظلومون فلعمري داهية. وماذا لو فعلاً انهزم الإحتلال (مرّة ثانية هذه الصفة أطلقها الأميركيّون أنفسهم على أنفسهم في العراق مثالاً لا حصراً) هل تكون مقالة الشيخ عمران نبوءة؟ هل أستراليا دولة قروسطيّة؟ هل أحد في أستراليا يحلم بالقروسطيّة؟ هل أحد في أستراليا يتعشّق الظلام؟ وماذا إذا كان الكاتب كرباج يعرف أن كثراً يعرفون أو يعتقدون على الأقل بأن الليل في فلسطين وأفغانستان والعراق حتماً له نهاية؟ هل نزجّ أو يزجّ السيّد كرباج بكلّ هؤلاء في المعتقلات التي لا بدّ من إنشائها بكثرة لاستيعابهم؟ وإذا كانت الكلفة مرتفعة جدّاً لابتناء هذه المعتقلات وحراستها هل نضع إساراً تعقبيّاً في معصم كل فرد من هؤلاء شبيه بالإشارة الصفراء الشهيرة في العصر النازي؟.
أيضاً فإنّ ما ذُكِر عن مناكفات زود وعمران لقوانين مكافحة الإرهاب التي اقترحها في حينه السيّد هاورد يُذكَر عن رئيس تحرير "أخبار مكّة" الداعية هارون أبو طلحة، فيقول الكاتب أن الداعية أبو طلحة يدعو في جامع برانزويك للتهجّم "على حكومة إسرائيل المجرمة التي تقهر أخوتنا واخواتنا في فلسطين منذ سنين عديدة" وأنه يقول "عسى الله ينصر المجاهدين في العراق" و"لا نستيطع أن نقول الشيء الكثير عن المجاهدين في هذا البلد" و"لا يجب أن نقايض بديننا من أجل السلام".
ونسأل الكاتب الذي شخصيّاً لم أسمع به من قبل ولا قرأت له ولا وقعت عيني غير الآسفة على صورة له ما إذا يقرّ هو ذاته أو لا يقرّ بأنّ الصهاينة يقهرون الفلسطينيين منذ قرن؟ وهل يقرّ الكاتب أو لا يقرّ بأن أبناء المخيّمات الفلسطينية في لبنان هم من الناجين الذين ظلّوا أحياء بعد نكبة فلسطين وهُجِّروا بعيداً عن أرضهم إلى مخيّمات في لبنان تأنف في بعضها أن تعيش حتى الجرذاين؟. هل يقرّ الكاتب أو لا يقرّ بأن إسرائيل تقتل يوميّاً وبدم بارد ومتمرّس الفلسطينيين البؤساء؟. الأسئلة كثيرة. هل يقرّ الكاتب بأن ما تفعله إسرائيل بالفلسطينين جريمة أم ما تفعله بهم مكرمة تستحق عليها تهنئة وربّما جائزة؟. ونسأل الكاتب ممّا تتركّب عبارة "عسى الله ينصر المجاهدين"؟. أرجو ألاّ يجيب بأنّها مركّبة من كيمياويّات، مع العلم أن هذه العبارة إذا قيِّض لها أن تنفذ فهي كفيلة بتطبيق شريعة الأمم المتّحدة التي تنصّ على حقّ المجاهدين المقاومين المناضلين المعترضين بدحر كلّ إحتلال عن أرضهم، ماذا لو استمرّ الوجود الياباني الإحتلالي في حيّز من أرض أستراليا؟ هل خيانة أن تدافع عن وطنك؟ هل خيانة أن تنتصر للمضطَهد المقهور المظلوم؟ هل يجانب الحق عندما يقول أبو طلحة "مازحاً" كما يذكر الكاتب نفسه "إننا لا نستطيع أن نقول الشيء الكثير عن المجاهدين في هذا البلد"؟ إذ لمجرّد أن يقول أبو طلحة هذه العبارة تُطلَق صفّارة الخطر فكيف إذا قال ما هو أكثر؟.
أما أن ينقل الكاتب أن رئيس تحرير "مكّة نيوز" يقول انّه "لا يجب أن نقايض بديننا من أجل السلام" فواضح الإجتزاء والإقتطاع والمونتاج والتركيب والحذف والقصّ والتلصيق بما يوافق الهوى، هل يريد الكاتب المفضال أن يقول أن تعارضاً قائماً بين دين الداعية أبو طلحة والسلام؟ إذا كان ذلك قوله فليكن صريحاً وليقلْ ذلك أم فعلاً يعرف الكاتب بدين أبي طلحة أكثر من غيره؟. إنّ جوهر مطلق دين هو إشاعة السلام، والسلام الحقيقي، وأنا لن أحسن الظنّ بأبي طلحة بل سأفهمه على النحو التالي: لا لسلام يقوم على الإستعباد والقهر والإذلال، لا لسلام يقوم على الذلّ والعمالة والخيانة، لا لسلام يقايض الأرض والعرض والكرامة والأخلاق بحفنة من الدولارات أو القطع الفضيّة تُرمى ليهوذا الإسخريوطي.
لا للإرهاب، أكان إرهاب دول (وهو الأخطر والأفدح) أم كان إرهاب أفراد. نعم لقوانين مكافحة الإرهاب بحدود، ولا للقانون المقترَح "أطلقِ النار لتقتل" ولا للإختطاف وإخفاء الموقوف لأشهر أو سنوات، ولا لكلّ قوانين مكافحة الإرهاب التي يمكن أن تحوّل أستراليا إلى دولة فاشيّة.
ونعم لكلّ حرّ، شريف، كريم، نبيل، يتمسّك بكلمة الحق بحضرة كلّ سلطان جائر ولو قضى ذلك أن يندفن في غياهب سجون "أبو غريب" و"غوانتنامو" و"ما وراء الشمس".

 

CONVERSATION

0 comments: