لم يكن مسيحيو المشرق العربي في يوم من الأيام مجرد تراكم أعداد، أو متاحف، أو أقليات، بل كانوا، وما زالوا مكوّناً أساسياً من مكونات هذا المشرق. فرغم تعرضهم للتهميش والاضطهاد في الكثير من المراحل التاريخية، بقيَ المسيحيون أوفياء لأوطانهم يساهمون في بناء البلاد والدفاع عنها، فبعد ظهور الإسلام لعب العرب المسيحيون دوراً كبيراً في تثبيت الدولة العربية الإسلامية في الجزيرة العربية، كما رحب المسيحيون في بلاد الشام بالفاتح المسلم ووقفوا إلى جانبه ضد البيزنطيين نظراً للقرابة التي تربط القبائل العربية المسيحية في الجزيرة العربية بالقبائل المسيحية في بلاد الشام.
ورغم الأذى الذي لحق بالمسيحيين العرب منذ عهد الخليفة عمر بن الخطاب عندما هجّر المسيحيين العرب من الجزيرة العربية مستنداً إلى حديث ضعيف يقول: "" لا يجتمع دينان في جزيرة العرب "" في حين أنه لم يهجّر أي مسيحي في عهد الرسول أو عهد الخليفة أبو بكر. ورغم التهميش ومحاولات اعتبارهم في ذمة الولاة والخلفاء , ورغم حظر الإمارة والقيادة عليهم , بقي العرب المسيحيون أوفياء لأوطانهم وقدموا آلاف الشهداء في الدفاع عنها وساهموا في نهضتها، ورفعتها، ورقيّها، فقد انتقلت الفلسفة وشتى أنواع العلوم اليونانية إلى العالم العربي بواسطة التراجمة المسيحيين السريان الذين قاد الكثير منهم الحركة العلمية. فعلى سبيل المثال حظي الأطباء المسيحيون الاحترام والثقة و المكانة الرفيعة عند الرسول الكريم والخلفاء والولاة، حتى إن الرسول عليه الصلاة والسلام أمر من به علّةً أن يأتي إلى زوج خالته الحارث بن كلدة الثقفي وهو من أعلام العرب المسيحيين في الطب ليعالجه. وفي العصر الحديث ساهم المسيحيون العرب في بعث القومية العربية وفي علوم الاقتصاد وفي نهضة الإعلام العربي ولاسيما في مصر. ورغم مساهمتهم في النهضة العربية وبنائهم جسور التواصل مع الحضارات الأخرى، فإن اللافت للنظر هو أن أعدادهم كانت تتضاءل باستمرار تارة بسبب عمليات التهميش التي أدت إلى هجرة الكثير منهم وتارة بسبب عمليات التهجير التي تسببت بمآسٍ إنسانية كبيرة لهم.
ورغم كل ذلك لم يتعايش العرب المسيحيون إلى جانب العرب المسلمون بل عاشوا مع بعضهم بنفس العادات والتقاليد ونفس مفاهيم الفخر والعيب والعار.
وفي الألفية الثالثة وبسبب الغزو الأمريكي للعراق بدأت مأساة جديدة للعرب المسيحيين هناك حيث اندفعت دول الغرب الاستعماري لشد العصب الديني والمذهبي في العراق لتمزيقه ما تسبب في نشوء التيارات الدينية التكفيرية والتي تسببت بهلع العرب العراقيين وهجرة الآلاف منهم وقد اشتدت المأساة بظهور تنظيم داعش واستيلائه على الكثير من المدن والقرى العراقية وامتداده إلى سورية، حيث ظهرت النصرة وأخواتها الذين استولوا إلى جانب داعش على الكثير من المدن والقرى السورية، وكان المشترك بين هذه التنظيمات هو تهجير اليزيديين والصابئة والمسيحيين قسراً والتنكيل بهم فغادر معظمهم البلاد وتراجعت أعدادهم بشكل أصبح يشكل خطراً على النسيج الوطني السوري والعراقي.
إن الحؤول دون انسحاب المسيحيين من بلاد المشرق العربي لا يمكن أن تكون مسؤولية دول الشرق أو الغرب المسيحي لأن كلاهما يريدها وكلاهما لديه عقدة من المسيحي العربي، عقدة سببها أن المسيح عليه السلام ابن هذه المنطقة وأن مهد المسيحية هو بلاد الشام , وأكبر دليل هو أن الغرب لا زال يسّوق بأن سحنة السيد المسيح وسحنة السيدة العذراء مشابهة لسحنة الإنسان الأوروبي خاصة من حيث لون الشعر والبشرة والعيون، في حين أن كافة المراجع التاريخية تؤكد بأن سحنة السيد المسيح والسيدة العذراء مشابهة لسحنة أبناء فلسطين السمر.
ثمة كارثة حضارية وسياسية مقبلة تتمثل في أن بلاد المسيح والمسيحية ستصبح بلا مسيحيين إلا من بقايا النسّاك والكهان والقسيسين، وإذا لم يتحرك المسلمون قبل المسيحيين فسيخسر مجتمع بلاد الشام عنصر التفاعل، وسيخسر ترسيخ الدولة العصرية، ويفقد النفي القاطع لعنصريتها.
إن الانسحاب التدريجي للعرب المسيحيين من المشرق العربي هذه الأيام هو ظاهرة خطيرة لم يعرفها تاريخهم حتى في أسوأ أيام السلطنة العثمانية، وهو يشكل تهديداً للطابع الحضاري لبلاد الشام القائم على التعددية العقائدية والفكرية.
0 comments:
إرسال تعليق