لكي نبني مصر الجديدة/ مهندس عزمي إبراهيم

كيف نبني مصر الجديدة على قواعد صلبة؟؟ لكي نبدأ في  بناء مصر المأمولة في عهدها الجديد تحت لواء رئيس الجمهورية عبد الفتاح السيسي، ورئيس الوزراء إبراهيم محلب، نجد أن الصراحة هي من أهم أدوات البناء. وفضيلة الصراحة هي نقيض الرياء والنفاق والمجاملة المغرضة أو الغير هادفة. قال أحدهم "الصراحة لا تُفيد" و"الصراحة تُغضِب". وأقول كلا، بل "الصراحة البناءة" تُفيد ولا تُغضِب العاقل الذي يسعى للكمال، أو على الأقل يسعى للأمام، بإصلاح نفسه ومجتمعه ووطنه وأمته ودينه خاصة، لو كان هناك قاسم مشترك يَهم كلّ من مُصدِر القول الصريح والموجَّه إليه القول. والقاسم المشترك هنا هو "مصر" قرة عين المسلمين والمسيحيين وكل المصريين، من يدينون بدين ومن لا يدينوا بدين.
وتقريظ فضيلة الصراحة يملأ الكتب. ولكني سأكتفي بواقعة لعمر بن الخطاب، حين قام رجلٌ يأمُرُه بتقوى الله، فاعترض بعض الحاضرين. فقال عمر "دعوه فليقلها، لا خير فيكم إذا لم تقولوها، ولا خير فينا إذا لم نقبلها."
أود هنا أن أحذر من خطأ الفهم، فعندما أشير إلى "المسلمين" في سياق مقالي فبالطبع لا أقصد "كل" المسلمين، بل أقصد البسطاء والأميين منهم، وأنصاف المتعلمين، والمتعلمين الغير مثقفين إلا بالثقافات الفقهية المتخلفة المتشددة والمتطرفة، وهم للأسف أغلبية!!
غالبية شعوب دول الشرق الإسلامي، بصراحة، تكمن فيها مشاعر بغضاء تلقائية دفينة، ليست لبعض دول الغرب الأوروبي وأمريكا فقط، بل لكل دول "العالم الحر" أي "العالم المستنير والمتقدم" أي "العالم الغير إسلامي". وذلك يشمل دول أوروبا وأمريكا وكندا واستراليا ونيوزيلاند والصين واليابان والهند ودول أمريكا الجنوبية وبعض دول أفريقيا، وبالطبع إسرائيل.
وليست تلك البغضاء موجهة لحكومات تلك الدول فقط، بل أيضاً لشعوبها التي لم تتصدى يوماً للمسلمين ولا لدينهم ولا لبلدانهم بضرر من قريب أو بعيد. بل العكس صحيح. فهي دول مِضيافة مُرَحِّبة تفتح للمسلمين أحضانها. ولكن، للأسف، حيث يهاجر المسلمون إلى تلك الدول، وحيث يتكاثرون من أفراد إلى جماعات فهناك تبدأ الإنفصالية بدلاً من الاندماج والتعايش والمواطنة. ثم تتلوها القلاقل والمشاكل والفوضى والتظاهرات والاضطرابات والتصادمات والتدمير والرغبة في هدم نظم تلك الدول التي لاذوا إليها هرباً من فقر أو من ضيم، فأوتهم ومنحتهم حياة أفضل مما كانوا يعيشونها ببلادهم. وأمامنا فيض من الأخبار والصور والفيديوهات عما يفعله المسلمون بدول أوروبا واستراليا وأمريكا والصين وروسيا... وغيرهم.
أما أسوأ وأقبح وأعنت نوازع البغضاء هي ما تُوجَّه لمواطن (في وطنه في الشرق) لا لسبب إلا لأنه لا يؤمن بالإسلام!!! فعلى سبيل المثال، بدلا من أن تقتصر خدمات جامعة الأزهر على الدراسات الدينية النقية الداعية للأخلاق والمودة والإنسانية والوحدة الوطنية والتعايش مع الآخر واحترام الآخر، فهي تدرس المتخلف والعقيم السقيم من الكتب والأفكار المثيرة للتطرف والعنصرية التعسفية ضد غير المسلمين حتى من أبناء الوطن. رغم أن المسلم الوافد لمصر من ماليزيا وأفغانستان وباكستان وموريتانيا ونيجيريا والصومال يُمنح له التعليم بكليات الأزهر مجاناً، في حين أنَّ الدولة تمَوّلها من ضرائب المواطنين المسلمين والمسيحيين.
والأمثلة عديدة في هذا المجال. أذكر منها أن الدولة تعرقل التصريح ببناء أو حتى ترميم الكنائس ليعبد المصري المسيحي الله خالق المسلم والمسيحي، بينما لا تعرقل التصاريح ببناء الكباريهات ونوادي الليل واستوديوهات انتاج الأفلام المبتذلة الصفراء. كما أنها تُغلِق الأبواب في وجه المصري المسيحي مهما كانت كفاءته ومهما عَلَت خبراته وتخصصاته، فلا يُمكن تعيينه وزيراً لإحدى الوزارات الحساسة، أو رئيساً لإحدى المناصب الإدارية القيادية كمحافظ، أو كرئيسٍ لهيئة أو مؤسسة حكومية أو لوفدٍ يمثل مصر في الخارج أو عميدٍ لجامعة أو حتى مُعيد أو ضابط، إلا القليل. وغير ذلك كثير. وذلك عن تغاضٍ أحمق عما هو صالح لمصر وما هو خير للمصريين، وعن تمييز ديني عنصري، البغضاء أساسه ونتاجه.
وذلك آتٍ، بصراحة، من القول "لا ولاية لغير المسلم على المسلم" بل لقد قالها أحد الدعاة بتعبير أسوأ "لا ولاية لكافرٍ على المسلم". وزادها سوءاً بتفسيرها بقوله "فإنَّ مشاركة المسلمين للكفار في وطَنٍ واحد لا تعني بالضرورة تَساوِيَهم في الحقوق والواجبات، وإنَّما تُوجِب إقامة العَدل والقسط على الجميع، والعدل لا يعني المساواة في كلِّ شيء؛ وإنَّما يعني إعطاءَ كلِّ ذي حقٍّ حقَّه، ومطالبتَه بأداء ما عليه من واجبات، والمَرجِع في تحديد الحقوق والواجبات هو شرعُ الله، لا غير."
ومع التجاوز عما جاء في الفقرة السابقة من هراء وتناقض صارخ في المعانى والألفاظ والانحراف في المنطق في ذات الجملة، بإقراره أن مشاركة المسلمين للكفار في وطَنٍ واحد "لا تعني بالضرورة تَساوِيَهم في الحقوق والواجبات" و"إنَّما تُوجِب إقامة العَدل والقسط على الجميع" وأن "العدل لا يعني المساواة". ثم "وإنَّما يعني إعطاءَ كلِّ ذي حقٍّ حقَّه". ثم ختمها بأن " المَرجِع في تحديد الحقوق والواجبات هو شرعُ الله، لا غير". كل هذا الفيض في التناقض واللف والدوران محاولات "غبية" "مفضوحة" لتحليل الظلم على المواطنين غير المسلمين على أساس شرع الله. والله، لمن يعرف الله، لا يحلل التمييز بين خليقته!!
من هنا يتضح أن تلك البغضاء الكامنة في قلوب المسلمين، أو غالبية المسلمين، كما ذكرت، تجاه الدول المستنيرة وشعوبها، وأيضاً تجاه غير المسلمين الشرفاء والشركاء في الوطن الواحد، نابعة "بصراحة" أولاً وأصلاً من "الديــن". ومرساة أساسا على "الاختلاف في الدين" قبل أن تكون مبنية على سياسات تلك الدول أو سلوكيات شركاء الوطن الأوفياء المسالمين غير المسلمين!!
***
أما عن البغضاء الممزوج بنقيصة نكران الجميل تجاه الغرب. فما زلنا، نحن شعوب دول الشرق الإسلامي، نؤمن بمبدأ (حسنـة وأنا سيـدك). فبينما نحن نعيش على إبداعات الغرب ومخترعاته وانتاجاته ومعوناته، والتلهف على نيل الشهادات العلمية من جامعاته، وعلاج أمراضنا بأدويته وأجهزته وأطبائه وأخصائه ومن مستشفياته، والاستمتاع بمصائفه ومشاتيه. فنحن نحمل له البغضاء على أساس "العِـرق والديـن" فنَسُبّه ليلاً ونهاراً حتى في صلواتنا بمساجدنا ومن منابرنا وميكروفوناتنا وفضائياتنا مستمتعين بكل ما أبدع وما أنتج، بلا حرج ولا حياء. وتأكيداً وتصديقاً لذلك، أننا لم نسمع أحداً من هؤلاء "السَّبّابين" يسُبُّ الصومال أو اليمن أو الباكستان أو أفغانستان ونيجيريا وأمثالهم، وليس من تلك الدول من قدم لنا شيئاً إلا التخلف والإرهاب والتخريب. وما هذا التجاوز والتغاضي إلا لأنهم شركاء في ذات الدين!!!
***
هنا نصل إلى أن العيب ليس في سياسة أمريكا أو الغرب أو غيرهما من الدول، حتى لو كانت سياساتهم الخارجية لا تناسبنا أو توافق إرادتنا فهم بسياساتهم يرعون مصالحهم وهذا حقهم. كما أن العيب ليس في سلوكيات مسيحيي الشرق أو غيرهم من غير المسلمين، بل العيب (بصراحة) في مسلمي الشرق (أي غالبيتهم) وفيما يُدَرَّس لهم!!!
ولنتذكر جيداً أن مصر وبعضٌ من شقيقاتها بدول الشرق، في الـ 1400 عاماً الماضية، لم تزدهر حضارة وعلماً وثقافًة ونظافة وأدباً وفناً واقتصاداً وانتاجاً وابداعاً بل (بصراحة) لم ترتقِ ضميرياً وأخلاقياً ودينياً قدر ما ازدهرت وارتقت إبّان الاستعمار الحضاري البريطاني والفرنسي.
ولنتذكر أيضاً أن أعظم نظم عرفتها مصر (وبعض شقيقاتها) للتعليم والصناعة والاقتصاد والبنوك والاستثمار والانتاج والري والمواصلات والإنشاءات والخدمات، أرسيت قواعدها وازدهرت تحت الحكم المدني الديموقراطي إبّان الاستعمار الحضاري البريطاني والفرنسي. تلك إنجازات حضارية روائع لم يكن لها وجود من قبل، وأدت إلى نضوج الفكر والإبداع في الأدب والإعلام والفن والموسيقى والغناء. كل ما حصلناه من انجازات حينئذ اندثرت أو على الأقل تدهورت بعد "عَربنة" و "بَدوَنة" و"أسلمة" و"أخونة" و"أسلفة" مصر تدريجياً بدءاً من نكسة يوليو 1952. أي بعد أن أغلقنا الأبواب والنوافذ عن الغرب وشعوبه. وليس ذلك تمجيداً للإستعمار أو للغرب بل ومقارنة حقة عادلة وصريحة بما حصَّلناه تحت نظم الغرب، وما خسرناه تحت نعرة العربنة المتقوقعة والتدين العنصري.
ولنتذكر أيضاً أن أعظم عصر لمصر في الأربعة عشر قرناً الماضية، هو عصر نهضتها المدنية الديموقراطية في القرن التاسع عشر وخاصة في النصف الأول من القرن العشرين. وهو عندما لم يكن للدين ذِكرٌ بدستورها. وعندما كان المصريون يتعاملون ويتفاعلون مع دول البحر الأبيض المتوسط الراقية وشعوبها المتحضرة: إيطاليا واليونان وفرنسا وانجلترا وألمانيا ، وذلك رغم قسوة الرزء المعنوي للاستعمار الأجنبي.
مرة أخرى، ليس العيب في الغرب إنما العيب فينا، ولا يتهمني أحد أني أقدم تمجيداً للإستعمار أو للغرب، بل أقدم إقراراً لفشل الحكم الذي نسيّد فيه الشريعة على سيادة القانون، وذلك بزج الدين (المتطرف بطبيعته كدين) في الدستور الذي هو لكل المواطنين (من كل دين). فالتطرف في الدين يسيء للدين نفسه، ويحقر القانون، ويحتكر الفكر والضمير، ويهدر الأخلاق والإنسانية، ويخل بالنقاء الاجتماعي وينزل بالأمم إلى الحضيض الحضاري. ولست بمُتجني. فقد بلغنا ذروة الفشل والتقوقع نتيجة لـ "تعريب" مصر منذ 1952، ثم التدهور والانهيار في كل مجال إلى أدني الحضيض بمحاولة "تديين" مصر حتى امتطانا كابوس الحكم الديني الأخواني الوهابي السلفي الصحراوي الإرهابي.
حقيقة عاصرناها ولمسناها في الستين عاماً الماضية. لقد تمزق النسيج الاجتماعي بحزامه "الوطنية والأخلاق والتعاطف الإنساني" الذي يربط الأمم، عندما أدخلنا الدين في الدستور وعندما قصرنا تعاملنا وتفاعلنا على دول الشرق العربية الإسلامية البدوية النفطية. ولولا شعب مصر الواعي وجيشها الأمين لكنا اليوم في ذات المستنقع، ولينكر ذلك من يأخذه الصلف الأجوف كيفما شاء.
لابد كي ننجح في بناء مصر الجديدة. فإن لم نلمس ونواجه بأنفسنا تحتيات ومسببات ودوافع المشاعر السلبية المزروعة في قلوبنا، والمُفرزة لسموم تدفعنا نحو سلوكيات عنصرية غير سوية وغير إنسانية، فلن تُجدى محاولات البنائين. تلك المشاعر السلبية والباغضة ميكروبات تتقيَّح في أعماقنا صديداً، وتتفشى في سلوكياتنا وتلقي بنا وبغيرنا في طريق عواصف البغضاء والإرهاب والدمار المتوالية، وتقيد عقولنا وضمائرنا وقدراتنا فنظل قابعين في قاع ذات المستنقع. فلا بد من اصلاح تلك التحتيات حتى لو كانت دفينة في ملفات حساسة أو مقدسة!!
لابد أن نؤمن بأن عدل الله لا يحتاج إلى تبريرات وتصنيفات وتأويلات تلقى على هوى المفسرين والمغرضين. وأن المواطنة والإخاء وحقوق الانسان ليست كلمات جوفاء أو شعارات يتشدق بها المراءون، بل هى ممارسات وتطبيقات.
فلن تنزع البغضاء من قلوبنا وسلوكياتنا إلا بفصل الدين عن الدولة فصلا مطلقاً بلا تحايل أو تمييع، وبتبني الديموقراطية الإنسانية المطلقة، وتطبيق القانون المساو للجميع تحت راية الدولة المدنية.
وقبول تعدد الأديان والاعتراف بقداستها لكل من يؤمن بها، والاحتفاظ بها في القلوب والمعابد. ونزع أي إشارة للدين في بنود الدستور إلا أن "الدولة تكفل حرية العقائد وممارسة الطقوس وحماية المقدسات وبناء دور العبادة لكل المواطنين سواء".
وأيضاً تحريم، بل تجريم، أي تمييز لمسلم عن غير مسلم بأي ورزارة او إدارة أو هيئة أو مؤسسة أو جامعة أو مدرسة، فلا فضل لمواطن عن مواطن إلا بالكفاءة. وإقرار الحزم والعقاب القانوني (لا الديني) في معاقبة من يبث الفتنة الطائفية والتفرقة والتمييز على أساس الدين.
وأيضاً تخصيص التعليم للعِلم والبحث والفكر لا بدس الدين في برامجه، وتنقية مناهجه من شوائب العنصرية والتمييز. وأن نُطعِم أطفالنا وشبابنا معنى الحق والعدل واحترام الآخر وعقيدة الآخر. وأن نعلِمهم أن الإنسانية قبل الدين، وأن الوطنية قبل الدين، وأن الأخلاق قبل الصوم والصلاة.
بهذا، مع العمل والإنتاج والإبداع، تزدهر مصر وترقى حرة، مَيمونة ومَصونة.

CONVERSATION

0 comments: