إمبراطوريات العولمة في مصيدة ميكروفيزياء الإرهاب/ د. زهير الخويلدي

استهلال:
"ولكن الحرب مستمرة.وعلينا أن نظل سنين طويلة نضمد الجراح الكثيرة,التي لا تشفي في بعض الأحيان,الجراح التي أحدثها في شعوبنا الاندفاع الاستعماري.إن الامبريالية التي تحارب الآن تحرير البشر تدع هنا وهناك بذور تفسخ علينا أن نكتشفها وأن نستأصلها من أراضينا ومن أدمغتنا".[1]
ربما يسهل للبعض إطلاق تسمية "عصر الإرهاب" على هذه الحقبة من الزمن التاريخي مقابل تسميات أخرى أطلقت عليها مثل"عصر الأنترانت"أو" عصر العولمة "أو"عصر الاستنساخ"،فالإرهاب ليس حالة ظرفية آنية بقدر ما هو أحد أكبر مظاهر الوجود الإنساني انتشارا منذ مدة ليست بالقصيرة حيث يبرز أو يخفت تأثيره انطلاقا من وطأة الظروف وقسوة العوامل التي تغذيه.وقد يبدو من السهل جدا أن ندين الإرهاب وأن ننظم إلى طابور الموقعين على عرائض منددة به أو أن ننجز ونعد قوائم بالأعمال التخريبية التي يخلفها وان لفي تعدادها تفاهة تبعث على القرف والغثيان ولكن من أصعب الأمور أن نعرف الإرهاب ونحدد له مرجعا أخلاقيا وقانونيا وأن نفسر الأسباب والدواعي والمبررات التي تجعل المواجهات تندلع بين الفئات الاجتماعية والأديان والأعراق والأمم وهي غالبا ما تتخذ تلك الأشكال القاسية التي اعتاد الكلام السائد أن يقتصر على تسميتها "بالقوة الغاشمة" أو"العنف التدميري". كما أنه من العسر أن نعثر منذ الوهلة الأولى على الوسائل والخطط والمناهج القادرة على إيقاف حمى الإرهاب بالسيطرة عليه ومحاصرة تداعياتها الخطيرة.
إن صعوبة تعريف الإرهاب أمر يعاني منه رجل السياسة ورجل الفكر على السواء لما يبدو عليه من غموض فهو واقع معقد متعدد الأشكال يصعب تطويقه ويملك من الانتشار والأذى أكثر مما يمكن تصديقه،ولكن عندما يتناول الفكر الحاذق هذه الظاهرة فإنه يعتبرها ظاهرة غير عادية وغير لازمة لتطور المجتمعات فهي قهرية ضاغطة وأمر منفر غير مرغوب فيه فكأنها مرتبطة بعدوانية بربرية لا يمكن للعصرية أن تقضي عليها وآية ذلك أنها حالة من الحرب الكونية المدمرة التي تهدد الحياة الإنسانية وتزعزع السلم الأهلية وتعطل التساكن والتآنس بين الشعوب والحضارات والأديان.[2]
 والحق أن الإرهاب لا يعد ظاهرة حديثة بل قد يكون أقدم رفيق عرفه البشر في غابر العصور إذ منذ أن صنع الإنسان الأول بعض الأسلحة للدفاع عن نفسه استعملها أيضا لإرهاب غيره وتخويفه وليفتك بأمثاله,لذلك كانت مشاهد التفجير والقتل مألوفة للأسف حتى أن كل وصف لها بات نافلا.
 بيد أن اللافت للنظر اليوم أن من يرتكب الإرهاب من حيث كونه حالة صرفة أصبح لا وجود له وبات غير مرئي،فهو شبحي ومخفى إن لم نقل مجهري،فالإرهابي إنما هو هذه الدولة( الصهيونية/ الأمريكية) وتلك الشركة وذاك الشخص وتلك المجموعة وذلك الوضع وتلك الكتلة من القوى المتصارعة التي تستعمر ميدانا ما,إننا صرنا نتحدث اليوم عن عولمة الإرهاب وأرهبة العالم وانتهينا إلى حقيقة بديهية مفادها أن إمبراطوريات بأسرها تمارس الإرهاب وتتهم كل من يقاومها به بل باتت في قبضته الميكروفيزيائية.
 إن كانت الصراعات والحروب والمجابهات تملأ التاريخ البشري وتجوبه طولا وعرضا فإن الإرهاب يسطع راهنا مثل لمحات البرق الخاطفة ويدوي صوته كالرعد المزلزل للآفاق فهو يظهر ويختفي ويبرز ليتوارى بشكل مفاجئ ومباغت وكأنه يحمل بين طياته الطابع الجديد على الدوام,فهو الحدث المطلق الذي يتيح لكل الأحداث التي لم تحدث من قبل أن تحدث,فهو الحدث الجلل الذي سيظل أبدا بصدد الحدوث دون أن يكتمل أبدا.
 إن إرهاب القرن 21 يتخذ طابعا جديدا مفارقا فهو يضيف إلى القدرة على الظلم النزعة إلى الإذلال،ورجل الأخلاق الذي يتأمل في السلوك الإنساني لا يستطيع أن يذكره دون أن يستهجنه كما أن رجل السياسة يسعى إلى السيطرة عليه ويوظفه لمصلحته ويدرجه ضمن استراتجياته,انه ليس فقط إرهاب الأفراد والمجموعات والأحزاب والتنظيمات الباطنية المسلحة بل هو أيضا إرهاب المؤسسات والدول والشركات متعددة الجنسيات والأحلاف العسكرية الكبرى والمنظمات العالمية العتيدة وهو ليس موجها فقط للفتك بالأجساد ولتخريب العمران المادي بل يطال مداه النفوس ويخرب العمران الروحي.
بيد أن الاهتمام بالإرهاب قد ازداد إلى قدر كبير في الآونة الأخيرة وذلك لاعتبارات عقائدية ولقبليات ايديولوجية أو نتيجة ترسبات عدوانية لأصول حيوانية في النوع البشري تحث تأثير ظاهرة عولمة العنف والاستغلال والبؤس وتسارع نسق تبادل المعلومات وتطور وسائل الاتصال والإعلام.
 على هذا النحو بدت مشكلة الإرهاب أكثر تعقيدا مما يظن البعض في بادئ الرأي بحيث لم تعد تكفي الإدانة الأخلاقية القاطعة وبيانات الشجب لإخماد ناره ومواجهته بل ان العزم على اقتلاعه من جذوره ومداهمته في حصونه الآمنة ومنابته النائمة لن يتم ولن يتحقق دون فهم حاذق وتدبر ثاقب.[3]
 لهذا السبب يبدو اقتحام لجج بحر هذا الموضوع بالغ الدقة والتعقيد أمرا مقضيا واستجابة لنداء الوجود ولن يتحقق ذلك إلا بمعالجة الأسئلة التالية: ما هو الإرهاب ؟ما هو مصدره؟ ما هي مظاهره؟ وما هي العوامل التي تسببه؟هل الإرهاب بعيدا عنا أم على الأبواب ؟هل يمثل صفة عارضة أم خاصية ملازمة للسلوك الإنساني؟هل يشير فقط إلى انطلاق أعمى لقوى معادية أم تراه يغطي ميدانا أكثر اتساعا بكثير ويحفل بأوضاع هادئة في ظاهرها ولكنها حبلى بعنف كامن؟ هل لنشوئه آلية ما يمكن الكشف عنها وتصنيفها أم تراه ينفجر عادة وكأنه اندلاع للعنف غير متوقع ومثير للحيرة؟ هل الإرهاب رد فعل أساسي في الكائن البشري أم تراه نتيجة عدم توافق مع البنى الاجتماعية ومن الممكن تقويمه؟
 لكن قبل كل شيء من هو الإرهابي؟ هل هو المهاجم المستولي على حقوق الآخرين أم المدافع عن حقه المرابط في أرضه؟ ما الفرق بين المقاومة والإرهاب؟ إلى أي مدى يمكن أن تتحول ممارسة شعب لحقه في المقاومة إلى إرهاب ؟ هل الإرهاب عنف فردي أم عنف جماعي ؟ هل هو تصرف فوضوي أم فعل منظم ؟ هل هو مادي أم رمزي ؟ من الذي يهدده الإرهاب أكثر الفرد أم الجماعة؟ المجتمع أم الدولة؟ ما هو الخطر الذي يتهدد الإنسان من جراءه؟ هل يمكن أن يضطلع بدور في التطور البشري ؟ أليس هو نتيجة استغلال المعرفة العلمية على الصعيد الصناعي والسياسي ؟
 هل من حل للتناقض بين الضرورة التاريخية للإرهاب والضرورة العقلية التي تستوجب احترام القانون الأخلاقي والنزوع إلى السلم والعدل ؟ هل أن مقاومة العنف بالعنف تؤدي إلى تبرير كل أشكال العنف بما في ذلك الإرهاب ؟ هل أصبح السلم حلم يصعب تحقيقه أم أن تصورنا له في حاجة إلى المراجعة؟ ما هو تأثير المعرفة في حل الصراعات الإنسانية؟وإذا كانت المعرفة تسمح بإيجاد عقد جديد بين الإنسان والطبيعة فهل يمكنها أن تحقق السلم بين البشر؟ هل تكفي المعرفة والحكمة والتربية للسيطرة على الإرهاب والحد منه؟ أليس الإرهاب في جوهره نفيا لهذا الأساس القائم على الحكمة والعقل الذي تغرس فيه كل نزعة إنسانية جذورها ؟ ألا يعني انتصار الغريزة على العقل ورفضا للحوار؟ أليس هو في نهاية المطاف ترسيخا للدمار والخراب ؟
 ما هي جذور الإرهاب الحيوية والنفسية والاجتماعية ؟ هل العدوانية غريزة فطر عليها الإنسان أم هي رد فعل مكتسب ؟ هل يمكن أن نعتبر العامل الاقتصادي سببا مركزيا للإرهاب؟ وهل يجب هنا التحدث عن الإرهاب التكنولوجي؟ وهل يعقل أن نصف تطور أشكال الحياة بكل ما تسببه من أنواع الإبادة بأنه عنف بنيوي طالما أن القتل ضروري لتوفير الغذاء ؟ كيف يواجه الاقتصاديون هذه المشكلة ؟ ثم كيف أصبح الإرهاب مؤسسة سياسية قائمة الذات لدى السلطات الاستبدادية؟ أين يكمن الإرهاب في العلاقات السياسية الدولية ؟ كيف يتحول شعار الإرهاب إلى سلطة في يد الجماعات المسيطرة تستعملها لتخويف مناوئيها ؟ هل من البديهي أن نعرف الإرهاب بأنه بالضرورة اندلاع لاعقلاني للعنف؟ 
 ما الفرق بين النزاع والعنف والإرهاب ؟ ماهي الغاية التي يرمي إليها الإنسان إذ يخوض معركة لا يدري بعد تماما كل ما سوف تنتهي إليه؟هل يجوز أن يلجأ الناس إلى أقصى أشكال العنف من أجل الدفاع عن كرامتهم؟ ثم إلى أي مدى يمكن أن نعتبر العمل الثوري مقاومة للإرهاب المعولم ؟ هل يمكن التضحية ببعض الأشخاص الأبرياء من أجل الثورة والاكتفاء بوعدهم بالشهادة والجنة؟ لكن ألا يكون من الأجدى بناء هذه الجنة على الأرض في إطار المدينة الإنسانية عوض السير إليه مشيا على الجثث الآدمية ؟ 
 إذا صغنا الإشكالية الناجمة عن هذه المعضلة بشكل جيد فإنها تطرح على النحو التالي: 
هل الإرهاب مجرد حادث طارئ على طريق التطور التاريخي للشعوب والحضارات أم هو رد فعل أحمق يجابه به الناس تناقضات المجتمع ومظالمه ؟هل هو أحد أقوى اندفاعات الغريزة أم تراه ينغرس بعمق في بنية الكائن البشري ذاته ؟ هل ينبغي لنا أن نحلم بذهابه من خلال زوال عوامل التوتر التي تسببه وبتحقيق الانسجام بين الإنسان ونفسه وبينه ومحيطه أم أنه واقعة لا راد لها ويتوجب على الإنسانية أن تستأنس به؟ لكن ألا يقتضي السلوك القويم أولوية الروح على المادة ويستوجب العقل المستقيم الانفتاح على الأغيار والانخراط في الكونية ببذل الجهد الخلاق للسلام والصداقة؟ 
 كل هذه الأمور والتحديات هي التي تحرك فينا أولا التساؤل حول تداعيات الإرهاب ومعالمه الأساسية وتحفزنا للانطلاق في هذه المعالجة بدراسة ما يعيشه الناس في القرن 21 من نزاعات وحروب وذلك بتجميع المعطيات لمعرفة مواقعه كما هي في ذاتها دون أفكار مسبقة بالتركيز على الأطر الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي تسيطر عليها التقنية والتنظيم العقلاني الحسابي بغية إدراكها بتميز ووضوح وتحديد ملامح أساسية لها.
 كما تدفعنا حركة الفكر في مستوى ثان إلى التساؤل حول العوامل والأسباب والخلفيات التي أدت إلى تبلور ظاهرة الإرهاب والعنف المدمر بهذا الشكل المعقد وبمثل هذا الحجم الهائل والمريع مسلطين على هذه المادة أنوار العلوم الإنسانية والفلسفة باحثين عن دور ايجابي لها في التطور البشري ومحددين المخاطر والانعكاسات السلبية المنجرة عنها والتي تهدد الحياة الإنسانية .
 أما في مستوى ثالث فحري بنا أن نجد في البحث عن أساليب العلاج وطرق السيطرة على هذه الظاهرة المرضية باجتنابها على صعيد السلوك الشخصي واقتلاعها من جذورها على مستوى ردود الأفعال الجماعية والبحث عن السبل الكفيلة بمحاصرتها واستباق وقوعها. 
 غني عن البيان أن ما هو في ميزان الفكر وما نراهن عليه عندما نضع هذه المعضلة قيد الدرس هو الكف عن صراع التأويلات حول هذه المفردة المحيرة للعقول والمدهشة للقلوب وإيجاد تعريف لها يميزها عن المقاومة بوصفها حق مشروع يلتجئ إليها كل مظلوم للدفاع عن نفسه.
1 - تداعيات الإرهاب وتجلياته: 
«هناك انتشار عالمي للإرهاب الذي بات شأن الظل الملازم لكل نظام هيمنة،مستعدا في كل مكان لأن يستيقظ كعميل مزدوج ،لم تعد هناك أية حدود فاصلة تسمح بمحاصرته فهو في قلب هذه الثقافة التي تحاربه»[4] 
ان أهمية دراسة الإرهاب دراسة مجهرية تشخيصية تنبع من كثافة تجليه في الواقع ومن اتساع مدلوله وتعدد أسبابه وضخامة المؤسسات التي تفرزه بشكل يجعلنا غير قادرين على الكشف عن حيثياته وأصوله بقراءة الأحداث قراءة خارجية وبالبقاء على مستوى الظاهر لذلك لابد من الكشف عن الإيديولوجيا التي تجعل من الوعي مسرحا للأوهام وتشوه الحقائق وتزيف القيم ولن يكون ذلك ممكنا إلا بالتحقيق والتدقيق والتمحيص. 
إن عالمنا المعاصر يقدم لنا صورة حية ومتنوعة الجوانب والدلالات التي تجسد ظاهرة الإرهاب بما هو تشدد عنيف وتجلي للقوة العمياء التي يمكن رصدها وتتبعها في مجالات السياسة والاقتصاد والثقافة والمجتمع. إن تحليل ظواهر الإرهاب أظهر تنوعه الشديد وطابعه المتعدد الأشكال الذي يصعب رده واختزاله إلى أنماط محددة وقد اتضحت ولا شك حالات من الإرهاب مختلفة على الصعيد الثقافي والسياسي والاجتماعي والاقتصادي منها ما هو مكشوف (حروب,اعتداءات،قمع بوليسي، سيطرة اقتصادية) ومنها ما هو خفي مجهري (مراقبة الحياة الخاصة،دمج مفروض،تنميط قسري،تحكم بالفرد والسلوك).
أ/ الإرهاب الثقافي:
" علوم التقنية هي التي تشوش الفروق بين الحرب والإرهاب. وفي هذا الصدد, بالمقارنة بإمكانيات الدمار والخلل الفوضوي التي تنتظرنا في المستقبل وفي شبكات العالم الإلكترونية,فإن 11 سبتمبر ما يزال ينتمي الى مسرح العنف القديم الموجه الى صدام المخيلة.فقد يمكن القيام غدا بعمليات أشد سوء من هذه العمليات, والقيام بعمليات غير مرئية وصامتة وبعمليات أكثر سرعة ودون إراقة للدماء, وذلك عن طريق مهاجمة الشبكات الإلكترونية التي تعتمد عليها الحياة(الاجتماعية والاقتصادية والعسكرية, الخ)لأي دولة من دول العالم...وسنقول إن ما يحدث الآن له أشد سوءا مما حدث من قبل,حيث تسللت النانوتكنولوجيا المختلفة إلى كل مكان,تلك التكنولوجيا غير المرئية والمنيعة والأشد وطأة من أي شيء مضى."[5]
تظهر الكثير من أشكال الإرهاب الرمزي المرهون بدرجة الوعي والثقافة مقابل هذا الوضع العنيف المفروض على إنسان اليوم فهناك أولا الإرهاب اللغوي الذي يكتمل بالتقوقع في عالم القول المغلق أين نشهد هيمنة اللغة المغلقة أو المستبدة التي تنسى كثافتها وقدرتها اللاّمحدودة على توليد المعاني وتختزل نفسها في ممارسة السلطة والرغبة,اذ من تكون له الكلمة الأخيرة يمتلك في نهاية المطاف الكلمة التي تأمر وتنظم وهي التي تحرض الناس على العمل والإنتاج والموافقة، وتستبد الكلمة وتتحول إلى عقيدة وتفقد الفكرة قيمتها لأن الكلمة لا تحيل إلا إلى السلوك أي كيفية الدعاية ولا يهم أن يبقى للكلمة رونقها وسحرها وتأثيرها الشاعري.
هكذا تتخذ اللغة طابعا استبداديا بل كاذبا وإرهابيا تضيق على الرأي العام وتخنق كل معارضة وتمنع أي سعي نحو الحرية,فاللغة ليست أداة للتفاهم والتواصل بين الذوات وليست وسيلة تعبير وإبلاغ بل "أصبحت أداة مراقبة وذلك في الوقت الذي تنقل فيه أخبارا فقط لا أوامر وفي الوقت الذي تدعو فيه الإنسان إلى ممارسة الاختيار لا الطاعة والحرية لا الخضوع".[6]
يظهر الإرهاب اللغوي في الانتماء إلى هوية ثقافية متقوقعة ورفض الانفتاح والاستفادة من الهويات الثقافية الأخرى،خصوصا وأن مفهوم الثقافة هو قيم وأهداف ورموز وهذه القيم تصبح ضاغطة عندما تتعرض للخطر,وهكذا فإن كل ثقافة تحدد لكل امرئ مجال انتمائه وساحة اتصالاته داخل مجتمعه وعندما يرفض إنسان ما ثقافة غيره فانه يؤكد أولا ثقافته ويحاول المحافظة على قيمه ويصون هويته الخاصة ولكن رفض الانتماء إلى ثقافة جماعة ما والعزوف عن التكلم بلغتها والابتعاد عن اعتماد نظامها المتعلق بالقيم والتواصل يعني في نهاية المطاف رفض لثقافتها وبالتالي التعبير عن أعظم مظاهر التشدد والإرهاب وهو الإرهاب الثقافي الذي يتبلور من خلال رضي الإنسان اليومي بثقافته السائدة للمحافظة على الذات حتى بالبقاء غريبا عن العالم الذي يعيش فيه. انه مشهد آخر للإرهاب يتجسد في عنف يتجلى بقوة في الخطاب وهو يعبر عن المراهقة الثورية والبداوة الممدنة.
إن الإرهاب اللغوي يبرز هنا في:
* صيغة الكلام إن...إما...أو 
*الدفاع المستميت عن فكرة ما والرفض القاطع لأية فكرة مخالفة. 
* مقاطعة المتكلم من موقف اللاّتكافئ ومحاولة تبكيته. 
* الاعتماد على الأحكام القطعية والكلام الآمر الفاشي دون تمحيص. 
كل هذه المواقف هي تورط جزئي أو كلي في شراك الإرهاب الفكري الذي يتمثل في اعتماد عصبية نقدية أو دغمائية منهجية دون دراية بشروط الإمكان ودون تعرف على المسلمات القبلية والفرضيات الصامتة التي ينطلق منها الفكر ما دام كل نقد لا يخلو من عنف لأنه يسعى إلى الكشف عن حقيقة معينة والتعبير عنها للآخرين أو سترها وتغييبها إذا كان إظهارها لا يفيد. لكن ألا يوجد تناقض بين اللغة والإرهاب ؟ أليس هناك تنافر بين الخطاب والعنف؟فهل نحن في طريقنا إلى إخضاع العالم بأسره للخطاب المغلق الفاشي والتكنوقراطي؟
إن الإرهاب اللغوي هو مزيج من القمع الذاتي الشخصي والقمع الموضوعي أين ترتدي الكلمات سحرا جديدا ولا يكون لها من معنى إلا إذا علمت فقط محتوى العبارات المستخدمة والدارجة،هذا المحتوى هو اجرائي ووظيفي وتقني. فعالم القول المغلق هو نمذجة للغة خطيرة هي لغة إدارة كلية الوجود أي لغة التواصل الوظيفي الموجه التي تفرض التوحيد القسري بين الإنسان والوظيفة وذلك بمعاكسة التاريخ وبممارسة العنف على القوى والملكات الإنسانية المقاومة للدمج والتوجيه الإجرائي الوظيفي.
إن عالم القول المغلق هو انعكاس للعالم التقني الذي يعبر عما ينمو ويتكاثر وعما يمكن صنعه. في هذا الإطار فإن اللغة باتت أداة من الدرجة الثانية للتنبؤ بعمليات البرمجة والتحكم بالأدوات الإجرائية الضرورية وأصبحت أفضل أدوات الرقابة ليس فقط كجهاز انتشار لتكنلجة الحياة فحسب بل أيضا كشكل الإتصالات المنقولة ونمط الإعلام المقدم والآراء التي تبدعها الدعاية التي تفرضها.  ولقد لا تكون هذه اللغة الآمرة الفوقية تفكيرا فلسفيا حول مصير الإنسان بل نوعا من السفسطة الجديدة تشرح أبعاد الكائن البشري من خلال شبكة من الصور والعلاقات والروابط والإندفاعات داخل نسق من الإجراءات والوظائف الدقيقة. من الواضح إذن أن هذا المجتمع يحمل في ذاته وفي بنيته الداخلية بذور النزاع والعنف وأن الإرهاب يكمن وراء عملية تكنلجة الوجود بكاملها. لكن ما المقصود بتكنلجة الحياة الإنسانية؟ أليست التقنية وسيلة ضرورية لصنع حياة مريحة؟
إن التقنية لم يعد لها نظام خاص ولم يعد ينظر إليها كأداة بل اجتاحت الحياة الاجتماعية برمتها،فمن الآن وصاعدا لم تعد البنى الاجتماعية هي التي تستعمل التقنيات لصالحها بل المجموعات التقنية هي التي أصبحت تشكل المؤسسات البشرية على صورتها وتسخرها لخدمتها بل تحددها وتنظمها.وآيتنا في ذلك أن العالم التكنولوجي لم يعد عالم القيمة والإنسان بل أضحى عالم عقلانية منطقية ورياضية حسابية إجرائية,في جوهره عالم القوة والعنف وفي سطحه عالم اللذة والاستهلاك والمردودية.
ان المجتمع بأسره قد تحول إلى مختبر وان التقنية تسبب الإرهاب التكنوقراطي وتفرض ذاتها على البشر كأنها طبيعة فوقية ضاغطة رغم أن البعض يعدها أمرا جيدا يوجه المجتمع نحو الصلاح ويغير حياة الناس نحو الأسهل.لكن أليست التقنية هي التنين الجديد الذي يسبب عدة شرور للإنسانية عندما تضع نفسها على ذمة أنانية البشر وتخدمها أكثر مما تستخدمها؟ ألا يحتوي الواقع التكنولوجي على عدة تناقضات حادة تتصف بسمة قمعية ومتفجرة في آن واحد وبقدرة على التضييع وتهدئة الناس وتخديرهم معا؟ فما المقصود بالإرهاب التكنولوجي؟
إن المغامرة التكنوقراطية هي أفيون الشعوب الناهضة،فهي صنم جديد مخادع يجتذب كل حياة لصالحه والإنسان يقف مذهولا لا يعود يعرف من هو وما هو وجوده الخاص لكونه عاجز عن تحديد مضمون الحياة وإسناد معنى لها.إنها مجرد شكل فارغ ملئ بالإمكانيات المفرغة من الحياة الحقيقية. إن الإنسان قد تحول إلى كل ما يتلقاه من الخارج إذ تجتاحه مجموعة من الصور الساحقة التي تتدفق من أجهزة وسائل الإعلام،هذا الإنسان يتكيف مع ما يجده من حتمية ولكن يخترقه تناقض لاواعي بين تفاؤله التكنولوجي الساذج بشأن سعادة دنيوية موعودة وتشاؤمه السياسي أو الثوري نتيجة تعاسة واقعية وبؤس يومي يعاني منه ويتحول شيئا فشيئا إلى موضوع تتحكم فيه التقنيات وهي تبدو له مفيدة ليحقق تكيفه مع العالم ولكنها تفرض عليه وصاية القوى المسيطرة التي تحكم عليه بأداء دور محدد فقط طبقا لوظيفة معينة.في هذه الظروف التي يخضع فيها الفرد للإرهاب وتتعرض فيه الحميمية للانتهاك فان الوضع المرسوم هو وضع متفجر يجد فيه المرء نفسه مضطرا من حيث لا يدري لأن يكون شيئا آخر غير ذاته.
ب/ الإرهاب السياسي :
" كانت الثورة الفرنسية كغيرها من الثورات العظيمة,في شكلها الإرهابي المتطرف على الأقل,مجرد انفجار للرغبة في الحصول على حرية ايجابية للحكم الذاتي الجماعي من قبل فئة كبيرة من الفرنسيين الذين شعروا بتحررهم كشعب,وان كانت النتيجة بالنسبة الى كثيرين منهم تقييدا صارما لحريات الفرد."[7]
قلما تتمتع وقائع بمثل ما يتمتع به الإرهاب الآن من التصاق محزن بالأحداث الحاصلة في هذا الزمان,فالنزاعات طويلة الأمد لم يتم فضها( الصراع العربي الصهيوني مثلا) والرقابة الخانقة أصبحت مضروبة على العقول والأفواه وحروب العصابات مستمرة ردا على غطرسة الأنظمة الشمولية والأوضاع متفجرة في عدة أصقاع من المعمورة والمآسي والكوارث التي يتعرض لها الإنس المستخلف في الأرض لا تحصى ولا تعد وفوق ذلك التهديدات التي تشكلها الأسلحة الذكية غير التقليدية على أمن الدول واستقرار الشعوب تفوق كل التصورات,الأمر الذي يؤذن بانهيار التوازن الهش القائم على الرعب وامكانية اندلاع الحروب الأهلية في كل مكان وملة, كل هذه الوقائع تتفق الى حد بعيد مع الصورة التي تتكون عفويا في ذهن الناس عن الإرهاب عندما كان معظمهم يعرضون عن هذه المشاهد الفضيعة وقد استبد بهم الخوف والهلع. 
ان أعمال الإرهاب آخذة بالإتساع هنا وهناك,فالوسائل التي تستخدم لقسر بعض الأفراد أو الجماعات على مستوى وجودهم أو حقوقهم تحت ستار المستلزمات التقنية أو الإجتماعية وتحت ستار الإقتصاد والربح والقانون أو حتى الأعراف والعادات والتقاليد في تصاعد مستمر،علاوة على ذلك إن المجازر والمذابح في تزايد وهي لا تكاد تحظى باهتمام أحد وآلاف الرجال يقفون دوما تحت السلاح على أهبة للقتال،ومنذ نشوب الحروب لم تتمكن البشرية من إحصاء خسائرها من الأرواح،ومنذ إندلاع موجة الإغتيالات السياسية والإنقلابات العسكرية لم يتم حصر المنتحرين السياسيين والأنظمة المتداعية، وحتى ما يسمونه مدن الأنوار والسلام والحرية فإنها لم تكن بمنآى عن تفجر الدم والعنف بل كانت لقمة سائغة في قبضة القوة المدمرة."إن الطابع الجديد للإرهاب يتمثل في قدرته الكثيفة على الظلم الخبيث والمغفل بحيث يقهر الكائن البشري في أعمق أعماقه تحت ستار ضرورات تقنية أو اجتماعية تبسط أمامه وكأنها محتمة بل ونافعة".
من جهة أخرى ثمة أشكالا للإرهاب أكثر غموضا تجد لها في النفوس البشرية تجانسا خفيا تتمثل في هذا الشغف بالقوة والمخاطرة والرغبة في الانتصار وحب السيطرة وإرادة الطغيان وهذا التعشق بالزعيم الرمز الذي يكون منطلق لعنف سريع الاندلاع,لذلك يمكن القول أنه ثمة طابع آخر للإرهاب خاص بالمجتمعات المتقدمة،إنه التناقض بين ظهور الإنسان العقلاني وردود الأفعال العنيفة التي تتفجر غضبا ودمارا, اذ كلما سعى العقل عبر التوقع والبرمجة والرقابة إلى السيطرة على الجماعات البشرية كلما تعددت أشكال الرفض والفوضى ونمت روح العصيان والتمرد والنقمة والغضب وكلما تنامت كل أشكال الرفض اللامعقولة لهذه العقلانية المزيفة وقع إهمال أبعادا عميقة في الكائن البشري والتي جعلت من سيطرة الإنسان على الطبيعة بوابة لسيطرته على الإنسان الآخر.
"ان عصر الإرهاب الاستبدادي للدولة العظمى لا يؤذن بوأد السلم العالمي فقط لكنه يهدد سلم الطبيعة كذلك ويكسر أخوتها الأزلية مع الجنس الإنساني ووطنه".من هنا فإن جرثومة الإرهاب تنشأ بين أحضان الدولة التسلطية الشمولية وتعشش في أوكار عصابات النهب والمافيا الاقتصادية وتكبر في كهوف المرابين الدامسة وبذلك هيأت الجو لنشوء العنف المرتقب على مسرح القسوة والعنف المضاد، فكل الطرق تؤدي إلى الإرهاب منها البيئة الداخلية والخارجية والطرف السلطوي المحلي والعالمي هو الذي يتحمل مسؤولية انتشار الإرهاب ومعالمه السياسية بصفة خاصة،فقد شهدت الكثير من الدول العديد من أحداث العنف السياسي الذي شاركت فيه الجيوش والجماهير التي عمدت إلى استخدام القوة والتهديد باستعمالها من أجل الحصول على بعض المكاسب الاقتصادية ومن أجل نشر العقائد المهترئة. 
إن الإرهاب قريبا كان أم بعيدا يتخد مظاهرا وأشكالا أخرى أيضا: زرع الجحيم في جبال يشتبه في ايوائها الثوار وهو ما يجعل آلاف من الأطفال يقضون ضحية الإعصار والجوع والمرض،كما تلقي طائرات عملاقة قنابل النابالم على المدن أدرجت ظلما ضمن محور الشر، من جهة أخرى تلجأ بعض الأنظمة الفاشلة إلى الضرب الوحشي للطلاب وقمع مظاهراتهم السلمية واستعمال قنابل الكلور المسيلة للدموع ضد حشود منتفضة من العمال رافضين الاستغلال والبؤس والاضطهاد مع مباركة النخب وتحت أعين الكتاب والمثقفين.
عنندئذ يبدو مجتمع النخبة مجتمعا لا يطاق لأنه مجتمع نخبة القمع والاستبداد والتسلط اذ تعمد الأقلية الضيقة إلى استعمال العنف المبرمج والإرهاب العصري للسيطرة على الأغلبية,اذ أن "الحل الوحيد المطروح لكل مشكلات المجتمع هو القمع:قمع الأغلبية للأكثرية كشرط لتكوين دولة حديثة قوية لانتزاعها الكتل والجماعات والقبائل والعشائر والقرى التي يتكون منها المجتمع العربي،وقمع الدولة الاقتصادي كشرط لإقامة اقتصاد حديث استهلاكي طفيلي قادر على إشباع حاجات الفئة المتغربة والمحتكرة لكل وسائل الحياة،وقمع ثقافي كشرط لتكوين ثقافة محلية لا تنفذ إليها التيارات والطفرات والثورات التي تهز الثقافة العالمية ووسيلة لعزل الجماعة ككل عن تاريخها وعما يجري في بقية أنحاء العالم".[8] لكن ما الذي يمهد لذلك؟ ماهي المرتكزات التي تستند إليها سلطة قمعية كهذه في تهميش الأكثرية لصالح الأقلية؟
إن الإرهاب متعدد وهو مخالف للرفق واللين ولكنه يجمع عدة مشتقات يتميز بها,فالعنف والعدوان والظلم والقتل والعبودية والإهانة والنفي والملاحقة والتعذيب حالات له.والإرهاب هنا يتنوع فقد نجد هنا إرهاب مؤسسة ضد جماعة أو جماعات أو فرد بعينه لأسباب سياسية معينة أو غيرها،أو إرهاب جماعة ضد أخرى أو دولة ضد أخرى أو مجموعة دول أو أمة ضد أخرى أو فرد ضد فرد آخر. وفي جميع هذه الحالات يكون الإرهاب مركزا على اذلال أو تركيع أو تحطيم طرف من قبل طرف آخر.اذ الإرهاب يكون هنا مقرونا بالملكية وبنزعة السيطرة والإحتفاظ بالسلطة ما دامت هي قائمة على العنف الموجه من خلال تمركز الملكية والدفاع عنها.
الإرهاب هو تجلي للقوة العمياء وللعنف التدميري الذي يشكل أحد أكبر المفاهيم المتداولة ويرتبط بالتناقض والصراع ويؤدي دور المحرك الأساسي للوجود الجيوسياسي للدول. ويرتبط الإرهاب في السياسة بالعنف ويقصد بالعنف السياسي الاستخدام الفعلي للقوة أو التهديد باستخدامها لتحقيق أهداف سياسية واجتماعية لها دلالات وأبعاد اقتصادية بشكل يأخذ الأسلوب الفردي أو الجماعي ،السري أو العلني، المنظم أو غير المنظم والذي يؤدي إلى بروز الاستبداد.فماهي علاقة الإرهاب بالطغيان السياسي؟
"لا يمكن القول إن الإرهاب قد ولد قبل أربع سنوات فقط مع هجمة أصولية إسلامية مستحدثة على رموز الحضارة الأٌقوى في نيويورك وواشنطن. ذلك أن الإرهاب قديم قدم الطغيان المتجذر في تاريخ الإنسان, انه الوجه الآخر للطغيان, النابع منه أصلا ولكن قد يتحول بعضه ضد جبروته, ففي البدء كان الطغيان هو التعبير عن فيض القوة التي تفلت من رقابة صاحبها وأمست سيدة على إرادته. لكن في الوقت عينه قد ينقسم إرهاب الطغيان على نفسه ويبرز أمامه قسمه الآخر على شكل عنف, ليس هو من فيض قوة مفرطة, بل من شبه انعدام لنوع تلك القوة المحتكرة لجبروت الطغيان وحدها.انه عنف المستضعفين الذي لم يكن ليوجد ويظهر على شكل التمرد والثورة والعصيان إلا بسبب انفلات الطغيان واستفحال ممارساته المنكرة,وردا مستحيلا على فظاعته ولا يصير ردا ممكنا إلا بجعل موت (الإرهابي) سببا لموت جلاده في الوقت عينه. فالإرهاب هو صنو الطغيان وان كان يلعب دور عدوه الأخير الذي لن يسهل قهره بذات الأساليب التي يقهر بها أعدائه أو ضحاياه التقليديين من الشعوب والمجتمعات المغلوب على أمرها وهكذا يخرج الإرهاب الطغاة عن عاداتهم المألوفة, يضطرهم إلى إسقاط جميع أقنعة المدنية التي يتخفون وراءها. فإذا بالأنظمة الديمقراطية تتهاوى مظاهرها تباعا لتبرز تحتها أصولها الحقيقية منظمة كلها في مؤسسة واحدة للعنف الخالص.فإذا بدولة القانون تنجلي عن الدولة الأمنية والبوليسية الكامنة في جذورها الأولى."[9]
هكذا" فإن تاريخ الإنسان يبدو وكأنه يطابق تاريخ السلطة العنيفة.وفي أقصى حد ليست المؤسسة هي التي تشرع العنف بل هو العنف الذي ينشيء المؤسسة بإعادته توزيع القوة بين الدول والطبقات... وينتهي الأمر بالعنف الى أن يظهر وكأنه محرك التاريخ".[10] لكي نكتشف طابع الإرهاب الملازم لهذه الأشكال من السيطرة التي تمارسها السلطات السائدة لا بد من تحليل المجتمع الوظائفي الخاضع لحكم الفنيين الذي تتحكم به البنية التقنية والتأكد من أن استفحال نتائج الإرهاب يعود إلى السلطات الواسعة التي يمتلكها من يمارسونه.ان السيطرة الواقعية للبلدان القوية التي غالبا ما تجد تبريرا لها في شريعة الأقوى تشكل ارهابا على نطاق عالمي يفوق دون شك أشكال الإرهاب القاسية التي سببتها الحربان العالميتان الضاربتان (1914-1918/1939-1945).
من ناحية أخرى فإن أنواع كثيرة وضخمة من السيطرة تمارس بين الدول التي تؤلف قوى تجارية ومالية وأخرى ضعيفة ومتخلفة أو على الأقل سائرة في طريق التقدم والنمو ونتيجة لذلك أصبحت الأوضاع الدولية غير مستقرة وتنطوي على استعباد حقيقي بل إن هذا الوضع الدولي المزري والصارخ بالإرهاب الذي هو نظام الرق هو أبعد من أن يكون قد زال في أيامنا هذه بل انتقلنا من عبودية قديمة إلى عبودية جديدة أشد فتكا لأن قوتها التأديبية والانضباطية مزورة ومنمقة ولكنها أقل تسامح وإنصاف. إن تلك الرقابة الدولية المنبعثة في كل مكان تبلغ من الإرهاب الذروة بحيث تحكم الضمائر وتتدخل في الحياة الخاصة وتبرر النظام القائم وتسحق الفكر اللاّنمطي وتسيطر على حرية الشخص في الاختيار فيختار لا ما يريد بل ما أرادت له لعبة القوى الضاغطة أن يرغب فيه ويختاره. من هنا فإن المحققين العاملين في الاستخبارات وشركات التأمين يعرفون أحيانا عن تفاصيل الحياة الخاصة للملايين أكثر مما يعرفونه هم عن أنفسهم,فالعين الإلكترونية ذات فائدة أكيدة في البنوك والمغازات ولكنها تستخدم بصورة غير لائقة عندما تشدد الرقابة على الناس وتدرج كعنصر أساسي في أي تحقيق تفتيشي تكملها مجموع الأجهزة الخاصة بالإصغاء إلى المكالمات الهاتفية وتسجيلات أحاديث الناس بجميع أنواعها. إن البلدان الفقيرة التي استعمرتها البلدان الغنية بل نهبتها واستغلتها والتي تخنقها كماشة الاقتصاد الدولي والتقسيم العالمي للعمل وتضغط عليها آليات التجارة العالمية والشروط المجحفة للصندوق الدولي والبنك الدولي والتي تغير علتها من خلال تبادل لا متكافئ وتغيير غير عادل في سوق البورصات العالمية محكوما عليها إما بالموت جوعا أو الانقراض الحضاري والتفكك السياسي وإما بالرد حسب الطريقة الوحيدة المفتوحة أمامها أي بالمقاومة المسلحة والعنيفة ضد سياسة القوة عبر إستراتجية الحرب العادلة طويلة المدى ومن خلال استعمال ذكي للتقنية. 
ويتجلى هذا الفيروس الإرهابي في تسلط الأنظمة الإمبراطورية كالولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وفرنسا على الدول الفقيرة والتدخل في شؤونها الداخلية باسم حقوق الإنسان تارة وباسم نقل الحضارة والتمدن والحرية طورا بينما حقيقة الأمور هي الفوز بمصالح مادية وتحقيق منافع اقتصادية.
هذا الوضع المتفجر ينشأ من جراء بنية علائقية غير متكافئة بين الشمال والجنوب والمركز والمحيط قامت على الأعراف والقوانين الدولية التي ترعاها الأمم المتحدة ومجلس الأمن والمحكمة الدولية وان هذه البنية الحقوقية مكنت من استيلاء حفنة من الدول على العالم بابتداع شبكة واسعة من السلطات تكرس من خلالها هيمنتها وتفوقها الحضاري على الآخرين،وقد تحولت هذه الشبكة الى أنظمة سياسية ظالمة ومستبدة وعنيفة ترفض التخلي عن عقيدتها الإمبريالية ولا تعترف بحق تواجد الأنظمة السياسية المختلفة والمغايرة لها.ان هذه الأنظمة السياسية تحاول في أكثر الأحيان البقاء في سدة الحكم وموقع الزعامة العالمية ولكي تبقى بنية فوقية سياسية للمعمورة تلجئ إلى حلول إرهابية سواء بتصفية الخصوم أو بالتخطيط للانقلابات العسكرية أو الانحراف نحو الحرب والاستعمار العسكري المباشر للدول كما حصل في العراق وأفغانستان والصومال. كما تؤجج شعارات مثل تحرير المرأة والفصل بين الدين والدولة واحترام حق الإثنيات والخصوصيات القومية والثقافية في المحافظة على بقاء مشاعر التوتر والنزاع وتوظف عادة هذه القضايا رغم شرعيتها للتدخل في شؤون الدول وانتهاك سيادتها الدولية الوطنية وتساهم بدرجة كبيرة في تفكيكها وتجزئتها إلى دويلات صغيرة لا قيمة سياسية لها على الصعيد الاستراتيجي.
 اللافت للنظر أن الديمقراطية نفسها تحولت إلى شكل من أشكال الاستبداد وما اصطلح على تسميته بالإستبداد الديمقراطي أو المستبد العادل هو خير مثال على ذلك ويتجسد عندما تتحول اللعبة الديمقراطية إلى مجرد واجهة يتقاسم من خلالها الفاعلون الاجتماعيون وأصحاب النفوذ والجاه والمصالح والمناصب ويوهمون الشعب بالعدالة والمساواة والحرية وحقوق الإنسان ودولة القانون والمؤسسات ولكن كل هذا يظل مجرد شعارات جوفاء وحبر على ورق لأن واقع الممارسة يبين ذلك وما تكاثر السجون والجرائم إلا دليل على هذا النفاق والظلم.
 ج/ الارهاب الاقتصادي :
 " إن المجتمع الصناعي المعاصر يميل بحكم طريقة تنظيمية لقاعدته التكنولوجية إلى النزعة الكلية الاستبدادية. والنزعة الكلية الاستبدادية ليست مجرد تنميط سياسي إرهابي بل هي أيضا تنميط اقتصادي-تقني غير إرهابي يؤدي دوره عن طريق تحكمه بالحاجات باسم مصلحة عامة زائفة. ولا يمكن في مثل هذه الشروط قيام معارضة فعالة للنظام. فالنزعة الكلية الاستبدادية ليست مجرد شكل حكومي أو حزبي نوعي وإنما تنبثق بالأحرى عن نظام نوعي للإنتاج والتوزيع متوافق تمام التوافق مع تعدد الأحزاب والصحف ومع انفصال السلطات."[11]
 ما تكشفه لنا العولمة الاقتصادية الظالمة أن كل مجتمع بات يمارس الإكراه والفرد لا يعود يعتبر نفسه ذاتنا واحدة إلا ضمن الكل كما أن مصادر السلطة انتقلت من حيز الكلام إلى حيز الاقتصاد، إذ أن الرجال الذين يديرون دواليب المجتمع الصناعي ويسيرون الشؤون الاقتصادية على الصعيد العالمي هم الذين يمسكون بزمام السلطة الفعلية ويملكون القدرة على التحرك بحرية تامة في المعمورة بأسرها. ففيما يتمثل الإرهاب الاقتصادي؟
 يعرف المجتمع الصناعي نفسه بأنه مظهر اجتماعي للتطور الاقتصادي تكون فيه مصادر الحكم والسلطة لمن يملك وسائل الإنتاج بفرض الرقابة والتوجيه العقلانيين. إن استعباد الإنسان واستغلاله على الصعيد المادي لا يحتاج إلى التفسير فمنذ نظام الرق وظهور العبودية إلى نظام الأجرة في الرأسمالية المتوحشة وقع التعامل مع الإنسان كقوة من قوى الإنتاج أو بأسلوب أكثر سخافة عرض في السوق كسلعة تباع وتشترى تماما مثل أي بضاعة أخرى. ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد بل وطلب من العامل أن يبذل كل ما أوتي من جهد وطاقة لكي يحقق المزيد من الإنتاج والربح ولكن النتيجة كانت مخيبة للآمال" كلما ازداد العامل إنتاجا قل ما يتاح له الاستهلاك وكلما ازدادت القيمة التي ينتجها أصبح هو أقل قيمة.وكلما ازداد إنتاجه تجويدا أصبح هو أقل تهذيبا وأكثر تشويها وكلما ازداد المنتج حضارة ازدادت همجية العامل وكلما ازدادت قوة العمل أصبح العامل أكثر ضعفا وكلما أظهر العمل ذكاء انحدر العامل في الذكاء وأصبح عبدا للطبيعة".[12]
 إن الإرهاب الاقتصادي يؤدي إلى اغتراب ثلاثي الأبعاد في طبيعة العمل ذاته وفي العامل وفي الثقافة الإنسانية جمعاء لأن أداء العمل يظهر في نفس الوقت كنفي للعامل وتشييء له ويظهر التشييء كضياع وعبودية للشيء ويظهر تخصص العامل كاغتراب بعبارة أخرى׃"يظهر أداء العمل نفيا للعامل إلى حد التضور جوعا ويظهر التشييئ ضياعا للشيئ الى حد حرمان العامل من أكثر الأشياء ضرورة ليس فقط للحياة بل أيضا للعمل ويصبح العمل في حد ذاته شيئا لا يمكن الحصول عليه إلا بأعظم الجهود...ويظهر تخصيص الأشياء كتغريب إلى حد أنه كلما ازدادت الأشياء التي ينتجها العامل قل ما يستطيع أن يمتلكه من الأشياء وكان وقوعه تحت سيطرة إنتاجه أكبر...إن العامل مرتبط بمنتج عمله وكأنه مرتبط بشيئ غريب عنه لأنه...كلما استهلك العامل نفسه في العمل ازداد عالم الأشياء التي ينتجها قوة في مواجهته هو نفسه وازداد فقرا في حياته الداخلية وقل انتماؤه إلى نفسه فلا تعود حياته تنتمي إلى نفسه بل إلى الشيئ وبذلك كلما عظم نشاطه قل ما يمتلك. إن ما يتجسد من عمله في المنتج لا يعود ملكه بعد ذلك وبذلك كلما كان هذا الإنتاج أعظم قل هو،ان اغتراب العامل لا يعني فقط أن عمله أصبح شيئا يكتسب وجودا خارجيا ولكنه يعني أنه موجود بشكل مستقل خارج عنه وغريب بالنسبة إليه وأنه يقف معارضا له كقوة مستقلة بذاتها...وبالتأكيد ينتج العمل الروائع للأغنياء لكنه ينتج الحرمان للعمال.انه ينتج القصور ولكنه ينتج الأكواخ للعمال.ينتج الجمال ولكنه ينتج البشاعة والتشويه للعمال.يستبدل بالعمل الآلة ولكنه يرمي ببعض العمال إلى نوع همجي من العمل ويحول الآخرين الى آلات.ينتج الذكاء ولكنه أيضا ينتج الغباء والدمامة للعمال..."[13] 
 إن الغني عن البيان هنا هو أن الإرهاب ناتج عن سلطة الجماعات المسيطرة على رؤوس الأموال وهو في النهاية إكراها قمعيا ناجما عن القوانين الاقتصادية الجائرة يبرر بمبدأ الندرة وعدم التوازن بين العرض والطلب وبحدوث أزمات تضخم أو انكماش ويفسر ببعض الاعتقادات الفيزيوقراطية والليبرالية المضللة مثل فرضية اليد الخفية التي تعمل بطريقة غيبية على استقرار الأسعار والأجور ولكن في حقيقة الأمر إن الاقتصاد السياسي علم مشؤوم لأنه ينشأ من ضرورة الصراع من أجل البقاء فهو يعنى بالإنسان الساعي إلى انتزاع ما هو ضروري لبقائه ويستهدف ترويض الطبيعة وإخضاعها لحاجياته وهو كذلك يكشف عن بؤس الأوضاع وخطورة الإرهاب السياسي والرياء الديبلوماسي التي يعاني منها العالم اليوم في شؤونهم الخاصة. ينتج عن هذا الإرهاب الاقتصادي وعيا زائفا يستبد بالإنسان يتمظهر في الاستلاب والاغتراب المرتبط بانسحاق الفرد داخل الجماعة وبتكون فكر ذو بعد واحد عند إنسان ذي بعد واحد,يقول ماركوز في هذا الشأن:"إن الثقافة الصناعية المتقدمة أكثر ايديولوجية من الثقافة التي سبقتها لأن الإيديولوجيا تحتل مكانها اليوم في صيرورة الإنتاج بالذات...فالجهاز الإنتاجي والسلع والخدمات التي ينتجها تبيع أو تفرض النظام الاجتماعي من حيث أنه مجموع.إن وسائل النقل والاتصال الجماهيري وتسهيلات السكن والطعام والملبس والإنتاج المتعاظم لصناعة أوقات الفراغ والإعلام,إن هذا كله تترتب عليه مواقف وعادات مفروضة وردود فعل فكرية وانفعالية معينة تربط المستهلكين بالمنتجين ربطا مستحبا بهذا القدر أو ذاك ومن ثم تربطهم بالمجموع.إن المنتجات تكيف الناس مذهبيا وتشرطهم,وتصطنع وعيا زائفا عديم الإحساس بما فيه فيه من زيف."[14] إن العولمة في جانبها الاقتصادي وخصوصا حرية التجارة هي إرهابا تمارسه الدول الكبرى على الدول النامية ووبال على الشرائح محدودة الدخل واعتداء صارخ على سيادة الأوطان على أراضيها,وقد رأى جلال أمين أن حرية التجارة لها نقائص وأخطار مهمة وتضر بالفقراء ضررا شنيعا فيما يتعلق بإشباع الحاجات الضرورية كالغذاء والمسكن والصحة والعليم المتوازن.
 وقد حدد ثلاثة نقائص للعولمة:
 - حرية التجارة عندما تسند لكل دولة دور في الصناعة العالمية في إطار تقسيم العمل الدولي فأنها تكرس التخصص القائم بالفعل ولكنها قد تعطل أو تمنع الانتقال الى مستوى أعلى من التخصص.
 - تحرير رؤوس الأموال يتعلق بالاقتصاد ويعظم المنافع المادية بينما الحياة الإنسانية هي أرحب من ذلك بكثير والرفاهة الإنسانية قد تتعالى على الحاجيات الجسدية.
 - عدم التزام الدول الكبرى بتطبيق مبادئ العولمة وشعارات حرية التجارة العالمية إذا كان ذلك يتعارض مع مصالحها ويضر باقتصادياتها ويعرض أسواقها لخطر منافسة البضائع الأجنبية الأكثر جودة والأقل ثمنا.
 "الإنسان ليس مجرد مستهلك حقير بل هو أيضا كائن اجتماعي,عضو في أسرة,ويشعر بالانتماء إلى أمة,وهو لا يحتاج فقط إلى سلع وخدمات مما يباع ويشترى,بل يحتاج أيضا إلى هواء نقي وغذاء غير ملوث,كما يحتاج إلى أن تكون له وظيفة أو عمل يحقق من ورائه ليس فقط دخلا ملائما,بل وأيضا ثقة بالنفس وشعورا بأن المجتمع في حاجة إليه. ومن ثم فالبطالة شيء فظيع حتى ولو أدت إلى ارتفاع كبير في معدل النمو."[15]

CONVERSATION

0 comments: