لا العِرْق ولا الدين ولا اللغة، هَوية وطنية/ مهندس عزمي إبراهيـم

أربعة عشر قرنا من الزمان، وبعض المصريين يتساءلون لماذا لا يُحَلِّق النسر المصريّ في سماء خيمة لا تتسع فكرياً لتحليق بعوضة. ويندهشون كيف لا يستمتع التمساح المصري بالسباحة في بِركة ضحلة لا ينتمي إليها ولا ينمو فيها ولا يمكنه أن يمارس حريته التي أعطاها له ربه وورثها عن أصوله. بِركة ضحلة لا تدرك الفرق بين التمساح والضفدعة!!

المتمسكون بانتماء مصر للعباءة العربية يجهلون، كلا، بل يتغاضون عن أن المصريين ليسوا عرباً، ويختلفون عنهم تماماً. المصريون، جغرافياً وتاريخياً، فراعنة أفريقيون نيليون من نسل حام ابن نوح. بينما العرب بَدوٌ صحراويون أسيويون من نسل سام ابن نوح. ولو تقبَّل هؤلاء ما أسرد هنا بعقل متفتح، لأدركوا أي خطيَّة في حق الوطن وفي حق أنفسهم هُم يقترفون. 

مصر استعمرها العرب فلم تكن علاقة العرب بمصر إلا علاقة مُستعمِر مغتصِب غاشم بمُستعمَر مغتصَب لا حول له ولا قوة. نعم لم تكن مصر للعرب إلا مستعمَرة ذليلة مستغَلة ومنبع ثراء لهم، ولم تكن أبداً عربية. وفي كل تاريخها الطويل العميق، حتى وهي تحت نير الاستعمارات الغاشمة من العرب وغير العرب، لم تفقد هويتها، وظلت مصرية بحتة، فرعونية أفريقية نيلية. 

دام الاستعمار العربي لمصر 236 سنة، من سنة 641م حتى أن استقل بها أحمد بن طولون سنة 877م. وتلك الفترة، فقط، هي مدة علاقة مصر بالحكم العربي مباشرة. نهب فيها العرب ثرواتها وخيراتها وأموالها وشحنوها لبيت المال بشبه الجزيرة ودمشق وبغداد حيث أثرى الخلفاء وحاشياتهم ومحظياتهم وجواريهم في قصور وثراء ومجون وخمر وغلمان وغواني. 

والأسوأ من ذلك أنهم أهدروا في تلك الفترة دماء الأبرياء من أبناء مصر حتى من أسلم منهم. واغتصبوا نساءها وأهدروا كرامة رجالها بصلفٍ وغلظة وظلم واستعباد واستبداد. فلم ينصبوا مصرياً واحداً، ولا حتى ممن أسلموا، والياً على مصر طوال هذه السنين. وباستقلال أحمد بن طولون بمصر أنهي عصر حكم العرب الاستعماري الخارجي واحتفظ بخيرات مصر داخلها ولأبنائها. 

مصر أم الحضارات، ومعلمة العالم بجهاته الأربعة، وسيدة الشرق كله، باستعمار العرب لها لم تتحول قط إلى عربية، إلا في عقول المخدَّرين بالدين والمُعَوَّقين فكرياً الخائنين لوطنهم والمتنكرين لأصلهم وهويتهم. كيف لرئيس مصري يعتز بوطنه ويعتبر هويته المصرية وساماً لا يضاهيه وسام أن يلقب مصر بـ "مصر العربية"!؟ وكيف لمواطن مصري أن يقبل أن يُدعَى عربيّ!؟ 

المصريون في مجملهم مواطنون أوفياء يقدسون "مصر". لا هُم ولا شعوب العالم أجمع يضيفون على إسمها الجميل "مصر" حرفاً. لأن شهرتها وعظمتها لا يحتاجا إضافة لإسمها. ولكن هناك فصيل من المصريين بعد الاستعمار العربي يحرصون على إضافة كلمة "عربية" غافلين أنها دلالة التبعية لمستعمر. وغافلين أن التبعية لمستعمر ولغير مستعمِر وصمة وعار وإهانة. وغافلين أن الاستعمار مهما طغى جبروته وطالت فترته، لا يغير هوية وطن. وخاصة وطن بقدر مصر وتاريخها العريق العظيم. فإصرارهم على انتماء مزيف وغير مشرِّف إهانة للوطن الحر وإقلال من نبل المواطنة.
***

أذكر مثلاً، دول الشرق الأوسط (ومنها مصر) والهند وشمال أفريقيا، كانت في عصور حديثة مستعمرات تحت الحكم البريطاني والفرنسي والإيطالي. وليس هناك دولة من تلك الدول تُلقب اليوم أو حينئذ بأنها بريطانية أو فرنسية أو إيطالية. ولا مواطنوها يُدعَوْا بريطان أو فرنسيين أو إيطاليين، ناهيك عن أن يتباهوْا بانتسابهم لتلك الدول التى استعمرت أوطانهم، وهي دول أكثر حضارة وتقدماً من العرب!!.
وفي عصور سابقة غزا مصر كثيرون أذكر منهم بالاضافة إلى العرب، الهكسوس والفرس والأشوريين والأغريق والرومان. لم تُلقَّب مصر خلال استعمارها أو بعده، بمصر الهكسوسية أو الفارسية أو الأشورية أو الإغريقية أو الرومانية. ورغم أن من هؤلاء من هم أرقى حضارة وعلماً وفكراً وتقدماً من العرب، ولا يوجد مصري يرضى أن يلقب بمصري إغريقي أو مصري روماني!!
***

هناك "نقطة هامة" أتوقع أن يستند إليها هؤلاء المخدَّرين بـ "الدين" والمُخلطين الدين بالهوية. وهي أن الفرق بين العرب وجميع غزاة مصر من قبلهم ومن بعدهم، أن العرب جاؤوا إلى مصر ومعهم الإسلام ديناً. أقول لهم أن العرب فرضوا الإسلام على مصر، وغير مصر، لا بالتبشير ولا بالدعوة الحُسنى بل بحد السيف عنوة وقسراً عن طريق الخيار الثلاثي الشهير (الإسلام أو الجزية أو القتال، أي القتل)، وليس هذا موضوع المقال. ولكن المقصود بالمقال هو أن بقبول بعض المصريين الإسلام ديناً، راضين أو مُكرَهين، صاروا مسلمين وليسوا عرباً. والدين ليس هوية وطنية كما سيأتي بعد. وكما لا يوجد بمصر مصريون هكسوس أو مصريون أشوريون أو مصريون انجليز، فلا يوجد بمصر مصريون عرب. بل الكل مصريون فقط، بأديان وعقائد مختلفة.
***

بالتحليل والاستنتاج هناك ثلاثة عوامل أتوقع أنها تسوق هؤلاء المصريين لهذا الولاء الزائف للعرب والعروبة، وهي المشاركة في العِرْق والدين واللغة.

أولا: المشاركة في العرق:
لو كان العِرق هو حجة لمصري أن يدَّعي أنه عربي، فأسأل أولاً هل هناك مصري يدَّعي أو يفتخر أنه من أصل تركي أو فرنسي أو انجليزي وهم أحدث المستعمرين لمصر، وفيها العديد من ذوي البشرة البيضاء والشقراء والأعين الخضر والزرق والشعر الذهبي والأحمر والكستنائي والمفرود المرسل بين المصريين، رجال ونساء مسلمين وغير مسلمين؟؟

ثم أسوق السيناريو الآتي. رجالٌ هكسوس وأشوريون وفرس وعرب وأتراك وفرنسيين وبريطان، غزاة محاربين، تزوجوا واغتصبوا نساء مصريات فأنجبوا مصريين ومصريات "من أباء أجانب". ولكن هؤلاء الأبناء تزاوجو بمصريين ومصريات وأنجبوا مصريَين ومصريات، وهكذا، أجيال بعد أجيال حتى صار الكل مصريين. فلو كان هناك أثر عِرقي اليوم فهو اثر ضئيل لا يُذكر ولا قيمة مثرية له. وبالطبع لا أثر "وطني" له على الاطلاق. فالعِرق النسلي ليس هوية للوطن، لأنه من الممكن للوطن الواحد أن يحتضن مواطنين من عشرات الأعراق. 

ثانياً: المشاركة في الدين:
لو كان الدين هو حجة المصري المسلم أن يدَّعي أنه عربي، أقول له أن بالعالم وبعشرات الدول ملايين من المسيحيين ولا يُلقبوا هوية أوطانهم أنها مسيحية، ولا أنفسهم بأنهم تابعون "وطنياً" لحيث انبعثت المسيحية. كما أن بأفريقيا وبشرق آسيا دولاً أغلبيتها مسلمة لا تدعي أنها عربية. وأسأل هل لو أعتنق شخصٌ مكسيكي أو يهودي الإسلام يصير عربياً؟ الدين عقيدة شخصية وليس هوية وطنية. فمن الممكن أن يحتضن الوطن مواطنين بأديان مختلفة. بل قد يكون الأخ على عقيدة وشقيقه على عقيدة أخرى، وكلاهما مصري أو برازيلي أو غير ذلك. 

ثالثاً: المشاركة في اللغة:
ولو كانت اللغة هي حجة المصري أن يدَّعي أنه عربي، أقول له أن نصف العالم يتكلم الإنجليزية وليسوا ببريطان!! وأسال، مرة أخرى، هل لو تعلَّم شخصٌ صينيّ أو يهودي اللغة العربية يصير عربياً؟؟ اللغة وسيلة تفاهم وتعامل بين البشر وليست هوية وطنية.
***

لا العِرْق ولا الدين ولا اللغة، هَوية وطنية
مما سبق نستخلص أن لا العِرْق ولا الدين ولا اللغة، هَوية وطنية. ولا فرق بين مصري ومصري يحملان الجنسية المصرية إلا بولائهم لمصر وإضمارهم الخير لها. وقول البعض بأنهم "مصريون عرب" تعبير خاطيء تماماً، غير وطني ومدعاة لتفرقة طائفية. علاوة على أنه تعبير غير لائق لأنه افتخار بمستعمر عربي قديم في عصر راح واندثر. أما عن العرب الحداثى، فليس أجمل لنا ولهم من نقاء الصداقة وحسن الجوار وتبادل المصالح.

وما أوجب وأوفق أن نعود بمصر الجديدة إلى مصريتها النقية، وأن نمنحها إسم "الجمهورية المصرية" أو "جمهورية مصر" أو "مصر" فقط دون أية إضافة.

CONVERSATION

0 comments: