وأقم الصلاة!/ نعمان إسماعيل عبد القادر

أمّا الخطيب هذا فمعتاد على صعود منابر كثيرةٍ واعتاد أن يرصّع خطبه الطويلة الحبلى بالصور البيانية ترصيعًا يليق بمقام بعض أحداث السياسة التي يظلُّ يقلِّبها على جوانب مختلفة ثم يعلّق عليها  أيّما تعليقٍ كما يُمْلي عليه ضميره وحسه الوطني. والسياسة التي يمزجها بقضايا اجتماعية أهمها قضايا الفساد، لا تزال تسري في عروقه منذ نعومة أظفاره، وإن استُدعي للتحقيق معه عدة مراتٍ كما يقول. والمصلّون الشباب يُقبلون من كلّ حدبٍ وصوبٍ لأداء صلاة كلّ جمعة في مسجده هذا ويستمتعون لسماع منه خطبًا رنّانة حرصًا منه على انتهاج منهج شيخه الجليل "عبد الحميد كشك" وتقليده صوتًا ونبرةً وأسلوبًا. أما الشيوخ من المصلين فقط عزف معظمهم  عن أداء صلاة الجمعة في هذا المسجد احتجاجًا منهم على مواضيع خطبة طويلةٍ ينامون فيها، ووجدوا لأنفسهم مساجد بديلة لأدائها فيها. 
ثمة مسألة ظلّت عالقة في ذهن الرجل منذ خمسة أيام، حين تداول أناس كثيرون حادثة اقتحام بيتٍ والعبث بمحتوياته وسرقة ما كان موجودًا فيه من ذهبٍ ومال، إذ تربّص المتربّصون وخطّطوا لذلك اليوم بكلّ دقّةٍ وإتقان.. ولعلّ الطرح قد ينفع مستمعين كثيرين، فقد راح يتفنّنُ في عرض ما جهَّزه من أحاديث وآيات وسرد القصص ويستشهد بأقوال الشعراء والحكماء. و"عليّان" الذي وصل المسجد بعد رفع الأذان الثاني بدقائق معدودة لا يزال تفكيره منذ أن صلّى ركعتي تحيّة المسجد، يتأرجح بين قصص الخطيب من جهة وقصص يومياته مع زبائنه الركّاب التي لو أراد تدوينها لتطلب الأمر  إلى تحضير آلاف الصفحات، ولكنّه اكتفى بتدوينها في ذاكرته خشية أن يفتضح أمره. وأحبُّ الصورِ إلى ذهنه الآن هي التي تعود به إلى ذلك "الخواجا" كي يلطمه لطمةً قويّةً لإشفاء غليله بعدما أغاظه إغاظةً لا مثيل لها. ذلك  هو زبون، هيئته توحي أنّه من أصل قفقازيٍّ وأنه تجاوز الثلاثين من عمره، طلب منه صباح اليوم  أن يُقلّه إلى مستشفى "إيخيلوف" في تل أبيب، الذي لو علم أن سائق التاكسي عربيٌّ لانعقد لسانه أو لطلب النزول فورًا قبل أن ينعت العرب بالفئران. ولما لم يكن في مقدوره تأديبه بعدما أحسَّ أن الغيظ يتملّكه الا أنه ظلَّ يهضم ما يسمعه حتى وصل إلى غايته المنشودة، إذ نادى عليه قائلاً: "أتصفنا بالفئران يا كلب! ظللتَ تنبح منذ أن ركبتَ معي في سيارتي دون أن أنبس بكلمةٍ. أتعلم يا هذا أنك قطعةٌ من القمامة لا تساوي شيئًا!"، ثمَّ بصق في وجهه بصقةً ملأت وجهه لُعابًا. وفرارًا من هذا المشهد العلقم فقد استدار بخياله منعطِفًا انعطافةً حادةً نحو فتاة حسناء تعمل موظفةً في أحد البنوك، وتدعى "إيلانة"، وهي من أصولٍ فرنسيةٍ، كانت قد خطفت قلبه واستدعته ذات يومٍ إلى شقتها لاشباع رغباتها وأن يكون صديق عمرها، إذ تردد طويلاً قبل إعلانه عن موافقته لتلبية الدعوة وشرع يزورها كلّ أسبوعٍ مرتين أو ثلاث مراتٍ، وأنه يرغب اليوم في زيارتها للمتعة وللتخلص من نغص عيشٍ واجهه من زبونٍ لا يعرف إلا الإحساس بكراهية عمياء وحقد دفينٍ بدلاً من مباراة كرة قدم اعتاد على الاشتراك فيها مع أصدقائه كلّ أسبوع بعد العصر. 
ما كان لشريط أحداثه أن تتقطع به السبل لولا وقوف ذلك الشاب ذي البشرة السمراء المفاجيء الذي كان جالسًا على يمينه ومتقلبًا في جلسته طوال الخطبة، وتقدّمه بضعة خطوات وصراخه في وجه الخطيب بأعلى صوته رافعًا يده اليمنى رفعة تهديدٍ:
- كيف تجرؤ أن تقصدني بخطبتك هذه أمام الناس جميعًا. أنت شيخٌ أفّاكٌ ومنافقٌ. أتظنُّكَ صادقًا في إلماحاتك وإيماءاتك وكأنّك تريد أن تخبر النّاس أن السارق هو أنا. مرةً تتحدّث عن المخدّرات وتلمح أن صديقي يبيعها واليوم تتحدّثُ عن السرقة وإنّي على يقينٍ أنّك تقصدني في ذلك. لكن اعلم أن إلماحاتك هذه لن تفيدك أبدًا.. 
وكانت محاولات النّاس إقناعه أن الشيخَ لم يقصده هو ذاته في خطبته قد باءت بالفشل. وظلّ يصرخ ويشتم محاولاً صعود المنبر تارةً وقذف الخطيبِ بالأحذية تارةً أخرى، إلى أن انقضّ عليه "عليّان" وأمسكه من عنقه ثُمَّ جرّه خارج المسجد. وفي هذه الأثناء أعلن الخطيب عن انتهاء الخطبة قائلاً: 
- "وأقم الصلاة!"..

CONVERSATION

0 comments: