يتساءل الفلسطينون وكثيرٌ من العرب والمراقبين عن مصير المصالحة الوطنية الفلسطينية التي تم التوقيع عليها مؤخراً في القاهرة، بين حركتي فتح وحماس بعد مضي أكثر من أربع سنواتٍ على اختلافهما وصراعهما معاً، وبعد الحرب الضارية التي استشرت بينهم على مدى السنوات الماضية على كل الصعد، الإعلامية والأمنية والشعبية والاقتصادية، والتي تركت آثارها الدامية على مختلف جوانب الحياة الفلسطينية، داخلياً وخارجياً، وسياسياً واقتصادياً، واجتماعياً وثقافياً، فهل سيكتب لهذه المصالحة النجاح، وستواصل طريقها نحو التنفيذ، وسترى بنودها النور، وستصمد أمام كل التحديات التي تواجهها وتتربص بها، وهل أن الموقعين عليها صادقين هذه المرة في مواقفهم وتصريحاتهم وتوقيعاتهم، أم أنهم سيخذلون الشعب الفلسطيني مرةً أخرى، وسينقلبون على مشاعره الوطنية، وآماله وطموحاته وتطلعاته، وأنهم يتطلعون إلى فرصةٍ سانحة، أو ظرفٍ مناسب للتفلت من الاتفاق والانعتاق منه.
هل سيكون مصير اتفاق القاهرة وقد احتفل به الفلسطينيون وحشدوا له، كمصير اتفاق مكة الشهير، الذي لم يصمد أياماً، ولم يستطع أن يتجاوز العقبات والتحديات التي واجهته، فبعض المشاركين في حوارات مكة كانوا يتمنون عدم التوصل إلى إتفاق، وكانوا يأملون من الفريق الآخر أن ينقلب على الجهود السعودية والعربية لتفشل، وكان الإسرائيليون على الجانب الآخر من الهاتف يتلقون بقلقٍ المعلومات ويصدرون الأوامر، ويطلبون من المتعاونين معهم العمل على تخريب الاتفاق ووضع العقبات في طريقه، وقد سجلت بعض الأجهزة الأمنية العربية جزءاً من هذه المكالمات، التي حملت ذعراً إسرائيلياً من عواقب الاتفاق، وأكدت على الأمناء على المصالح الإسرائيلية ضرورة تعطيل الاتفاق، والحيلولة دون نجاح الشعب الفلسطيني في الوصول إلى الوحدة والاتفاق، لئلا تتعرض المصالح الإسرائيلية للخطر.
اللاعب الإسرائيلي مازال موجوداً وفاعلاً، ولم يبرح مكانه، وقد أصابه بعد اتفاق القاهرة ذعرٌ أشد وأقسى من الذعر الذي انتابه إثر اتفاق مكة، فقد استشعر خطورة الوحدة الفلسطينية، وشعر بسخونة مشاعر الأخوة والتلاقي بين الفلسطينيين، وأن البيت الفلسطيني قد قرر أن يلئم شمله، وأن يجتمع أهله، فبدأ المسؤولون السياسيون والعسكريون والأمنيون في حكومة الكيان الإسرائيلي يهددون السلطة الفلسطينية من مغبة المضي في طريق الوحدة والاتفاق، وخطورة الاتفاق مع حركة حماس، وأن سلوك هذا الطريق يعني حكماً طلاق مسار المفاوضات مع إسرائيل، وإطلاق يدها في إجراءاتٍ وخطواتٍ أحادية الجانب، وكأنها قبل المصالحة كانت كريمة وإيجابية مع السلطة الفلسطينية المفاوضة، وأنها كانت تحترمها وتستجيب إلى طلباتها، ولا تحرجها أمام شعبها، ولا تنتقص من سلطتها، وكأنها لم تكن تقوم بخطواتٍ أحادية الجانب، استفزازية وعدوانية خطيرة، وأنها لم تقتل المئات من الفلسطينيين، ولم تعتقل الآلاف منهم، وأنها كانت أكثر رحمةً بنا من أنفسنا على بعضنا.
والمتعاونون مع الكيان الإسرائيلي، الذين ارتبط مصيرهم بوجوده وسيطرته، وانتعشت مصالحهم ومرافقهم في ظل هيمنته، وفي ظل حالة الانقسام والتشظي التي كانوا هم سبباً فيها، وأحد صناعها الكبار بما مارسته أجهزتهم الأمنية العديدة من ظلمٍ وإساءة وتعدٍ وإهانة، هؤلاء مازالوا موجودين ومندسين في كثيرٍ من زوايا القرار الفلسطيني، يتربصون بمصالح شعبهم، ويأملون أن يطول تيهه وضياعه ليواصلوا مخططاتهم، وأن يتعمق جرحه لئلا يلتفتوا إلى مؤامراتهم ومساعيهم الهدامة، وهؤلاء هم الذين انقلبوا على اتفاق مكة، بعد أن تراهنوا مع غيرهم على أن يعلموا شركاءهم في الوطن "الرقصة على الوحدة ونص"، فأطلقوا العنان لأجهزتهم وأذرعهم بالفساد والخراب، وأصدروا أوامرهم إلى العاملين معهم بوضع العقبات والعراقيل أمام الاتفاق، فهل تدرك السلطة الفلسطينية خطورة هذا الفريق على الحلم الوطني، وهل تتمكن من تطويقهم ومحاصرتهم لئلا يقودوا الشعب الفلسطيني مرة ثانية إلى الهاوية والضياع، وهم ليسوا أشخاصاً مجهولين، أو عناصر مخفيين، أو مجموعة من العاملين بصمت، فالشارع الفلسطيني كله يعرفهم، ويحفظ أسماءهم وصورهم، ويدرك دورهم ومؤامراتهم، ويعرف ما قاموا به، وما هو الدور المكلفين به اليوم.
والولايات المتحدة الأمريكية أياً كانت إدارتها، ديمقراطية أو جمهورية، فهي لا تريد لهذا الإتفاق أن يمضي، ولا تريد للمصالحة الفلسطينية أن تنطلق، وقد أغاضتها المصالحة، وأزعجها الاتفاق، وأربكتها صور الاحتفالات والابتهاجات الشعبية الفلسطينية، فأبدت مخاوفها من اتفاق الأخوة، واجتماع شمل الأهل، وحذرت الفلسطينيين من عواقب الوحدة، وأخطار التفاهم والاتفاق، ودعت السلطة الفلسطينية إلى ضرورة إبقاء حالة الفرقة والإنقسام، إذ أنها –برأيها- الطريق إلى الدولة والأحلام الفلسطينية، وأنها السبيل إلى نيل الرضى الإسرائيلي، والحصول على خيراته وبركاته، وهددت السلطة الفلسطينية بالتخلي عنها، وعدم مساعدتها أو تأييدها، وكأنها الأخرى تؤيد الحقوق الوطنية المشروعة للشعب الفلسطيني، وأنها تعده بصدق بأن تكون له دولة ووطن، وأنها تكف يد إسرائيل عن مصادرة أرضنا، وسرقة مياهنا وخيراتها، وأنها تستنكر قتلها لشبابنا، واعتقالها لخيرة رجالنا وأهلنا، وبدورها خيرت السلطة الفلسطينية بين مواصلة المصالحة والانحياز إلى شعبها وأهلها، وبين المضي وراء سراب الأحلام والوعود الأمريكية الكاذبة، والتي أصبحت لا تنطلي على عقل أحد، فهي وعودٌ تتوارثها الإدارات الأمريكية المتعاقبة لتخدع بها الرأي العام العربي والفلسطيني، وهي تفتقر إلى الصدق وتعوزها المصداقية.
الفلسطينيون عموماً وأبناء قطاع غزة على وجه التحديد قد هيأوا أنفسهم هذه المرة لمصالحةٍ جادة، واتفاقٍ صلبٍ يصمد أمام التحديات، ويواجه العقبات والصعاب، فهو موقفٌ مسلحٌ بصدق التوجه، وسلامة النوايا، والحرص على مصالح الشعب والوطن، وهم يرون أن الشركاء الفلسطينيين لديهم هذه المرة جاهزية منختلفة، واستعداداً مغايراً، وأن خطوات المصالحة بدت أمامهم واضحة، والطريق سالكة، ولكن هذا لا يمنع من أن الانقلاب عليه غير وارد، وأن التنصل منه والتنكر له مستبعد، ولهذا ينبغي أخذ الحيطة والحذر، والإسراع قدر المستطاع في تنفيذ بنود الإتفاق، قبل أن تتعاظم الضغوط الدولية، وتتفاقم التهديدات الإسرائيلية، وينشط العاملون لهم في تخريب الإتفاق والإنقلاب عليه.
مصطفى اللداوي
0 comments:
إرسال تعليق