(الغمامة الإسرائيلية السوداء المشدودة بإحكام على أعين صانع القرار الأميركي ما زالت تعميه عن رؤية الحقيقة على الأرض العربية لينهي مرة واحدة وإلى الأبد الربط بين المصالح الحيوية الأميركية وبين العامل الإسرائيلي كشرط مسبق لشراكة عربية – أميركية ندية)
في مصر ضيعت الولايات المتحدة الأميركية فرصة تاريخية استراتيجية لإقامة علاقات صحية لتبادل المصالح على أساس الاحترام المتبادل مع العرب بعد أن خرجت من الحرب العالمية الثانية قائدة للمعسكر الغربي، وفي مصر اليوم تكاد تضيع فرصة مماثلة بعد أن خرجت من الحرب الباردة مع الاتحاد السوفاتي السابق صانعة رئيسية للقرار الدولي.
وفي مصر فشلت الولايات المتحدة الأميركية في أول اختبار استراتيجي إقليمي لها في الوطن العربي بعد الحرب العالمية الثانية، إذ بدل أن تكون رافعة لإزالة بقايا الاستعمار الأوروبي فيه لتدخل في شراكة استراتيجية مع العرب، فإنها سعت إلى أن تكون وريثة للاستعمار الأوروبي في وطنهم الكبير وما حوله، لتصطف في خندق معاد للأمة وشعوبها الطامحة إلى الحرية والتحرر والاستقلال الوطني والوحدة، في استراتيجية بدأت بالقواعد والأحلاف العسكرية والهيمنة السياسية والاستغلال الاقتصادي لاقتصاديات الدول العربية التي أنهكها الاستعمار الأوروبي المباشر بمساعدات اقتصادية مشروطة سياسيا وانتهت في العراق بالاحتلال العسكري المباشر على نمط الاستعمار الأوروبي القديم للسيطرة على الثروات العربية.
فعندما قاد الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر ثورة وطنية للتخلص من مخلفات الاستعمار البريطاني لجأ إلى الولايات المتحدة طالبا دعمها السياسي لتصفية بقايا الوجود العسكري البريطاني في بلده، ودعمها العسكري لبناء جيش يسترد كرامته المهنية والوطنية التي أهينت في مواجهة عصابات صهيونية لم تكن قد تحولت إلى جيش بعد على أرض فلسطين عام 1948، ودعمها الاقتصادي لايقاف الاقتصاد المصري على قدميه، وبحكم الموقع والمركز المحوري الذي تتمتع مصر به في وطنها الكبير كانت الاستجابة الأميركية في حينه ستؤسس لشراكة عربية – أميركية استراتيجية، لكن واشنطن فشلت في التقاط الفرصة التاريخية الاستراتيجية، فخذلته في المجالات الثلاث.
وهكذا دخل الاتحاد السوفياتي الوطن العربي من بوابته المصرية، ليدعم القاهرة في إخراج القوات البريطانية من منطقة قناة السويس، ويعرض السلاح السوفياتي بديلا للسلاح الأميركي عتادا للجيش الوطني، ويعزز تأميم القناة وبناء السد العالي بخبرة سوفياتية بديلا للتمويل والخبرة الأميركية لمشروع مصري حيوي، ليؤسس الفشل الاستراتيجي الأميركي لشراكة استراتيجية بين الحركة القومية العربية التي قادها عبد الناصر وبين منظمومة الدول الاشتراكية التي كان الاتحاد السوفياتي يقودها.
واليوم، في مصر أيضا، يشهد المراقب بأم عينيه كيف تفشل الولايات المتحدة في اختبارها الثاني، لتصطف مجددا ضد الأمة وشعوبها الطامحة إلى الحرية والتحرر والاستقلال الوطني والوحدة، في استراتيجية ما زالت تصطف إلى جانب أنظمة استبداد مفروضة على شعوبها بالدعم الأجنبي كضمان تعتبره الأفضل للحفاظ على "مصالحها الحيوية"، عندما تطالب ب"إصلاح" هذه الأنظمة بينما الشعوب تضحي بدمائها في كفاحها من أجل تغيير الأنظمة، لا إصلاحها، لتضيع للمرة الثانية فرصة تاريخية استراتيجية لشراكة عربية أميركية لتبادل المصالح قائمة على أساس الاحترام المتبادل للإرادة الوطنية والشعبية.
وفي الاختبارين كان السبب الرئيسي للفشل الأميركي هو تقديم الحرص على ضمان أمن دولة الاحتلال الإسرائيلي كهدف استراتيجي للولايات المتحدة على المصالح الحيوية الأميركية نفسها باعتباره في رأس هذه المصالح. فواشنطن في الاختبار الأول الأقدم ألقت مصر وغيرها من الأقطار العربية - - التي وصلت فيها الحركة القومية العربية إلى سدة الحكم بعد غليان شعبي عم الشوارع العربية كما هو الحال الآن - - في أحضان التحالف مع الاتحاد السوفياتي عندما رفضت الاستجابة لطلبات عبد الناصر المشروعة العسكرية والمالية والسياسية حرصا منها على عدم توتير علاقاتها مع دولة الاحتلال الإسرائيلي. وهي اليوم تسعى جاهدة إلى إنقاذ نظام الحكم في بلد سدت الجماهير الشعبية كل شوارعها من أجل تغييره لأنها تخشى أن يكون البديل خطرا على معاهدة سلام كامب ديفيد التي تضمن أمن دولة الاحتلال الإسرائيلي، في وقت تجمع فيه كل دول الجامعة العربية على محاولة استرضائها بكل الطرق وعدم استعدائها، وهذه حقيقة واقعة، بغض النظر عن الأسباب والدوافع المتعددة المختلفة لهذا الإجماع، القسري منها والاختياري.
في الأول من الشهر الجاري قال رئيس موظفي البيت الأبيض الأميركي، وليام دالي، في مقابلة مع بلومبيرغ إن "الشرق الأوسط قد لا يعود أبدا" إلى ما كان عليه قبل عشرة أيام. ولهذا السبب فإن الولايات المتحدة "تخطط لسلسة كاملة من السيناريوهات" كما قال المتحدث باسم البيت الأبيض روبرت غيبس. وفي مصر على وجه التحديد، تتلخص هذه السيناريوهات في "ضمان أن لا تكون أي حكومة جديدة معادية عداء معديا لأميركا ولا معادية عداوة صريحة لإسرائيل" كما قال ستيفن م. والت الأستاذ بجامعة هارفارد الأميركية، وما ينطبق على أي سياسة أميركية جديدة تجاه مصر سوف ينطبق أيضا على أي تغيير سياسي في الدول العربية الأخرى الحليفة أو الصديقة للولايات المتحدة.
إن الاعتراف الأميركي بعد فوات الأوان بأن الرئيس حسني مبارك قد أصبح حصانا أميركا خاسرا ما زال اعترافا مترددا لم يرق بعد إلى قرار بإطلاق رصاصة رحمة أميركية عليه خشية إرسال رسالة إلى نظراء إقليميين له بأن الولايات المتحدة ليست مخلصة لحلفائها وسرعان ما تتخلى عنهم، لكن هذه رسالة أميركية مكررة في العالم كافة وقد وصلت واضحة جلية بالرغم من الغمغمة الدبلوماسية الأميركية التي تستهدف دراسة فرصها للاختيار من بين "أهون الشرور" أكثر مما تعبر عن "خجل" أميركي من ممارسة مألوفة لم تعد خافية على أحد، حتى على الوكيل الإسرائيلي الإقليمي للولايات المتحدة، ف"أميركا .. أدارت ظهرها خلال يوم واحد لواحد من أهم حلفائها في الشرق الأوسط .. والاستنتاج عندنا في إسرائيل يجب أن يكون هو أن .. البيت الأبيض من شأنه أن يبيعنا من اليوم إلى الغد .. فليحمنا الرب"، كما كتب احدهم في يديعوت أحرونوت.
ويتلخص الحراك الرسمي الأميركي حتى الآن في محاولة بائسة لتنسيق عملية تقود إلى التخلص من مبارك دون تغيير نظامه، إذ لم يصدر عن الرئيس أوباما وأركان إدارته حتى الآن أي دعوة صريحة لا لبس فيها إلى تنحي مبارك فورا، وهذا هو المطلب الرئيسي غير القابل للتفاوض للثورة الشعبية المصرية، وبالتالي فإن خلاصة الموقف الأميركي تتناقض تماما مع قول أوباما "إننا نريد أن نرى لحظة الاضطراب هذه تتحول إلى لحظة فرصة" وتشير فقط إلى مسعى أميركي لكسب المزيد من الوقت من أجل الالتفاف على الثورة الشعبية المصرية تمهيدا لإجهاضها.
وتواجه الولايات المتحدة اليوم اختبارا تاريخيا يتعين عليها فيه أن تجد صيغة لسياستها الخارجية في الوطن العربي توفق بين مصالحها الحيوية الاستراتيجية التي كانت تعتمد في ضمانها على دعم أنظمة غير ديموقراطية وبين قيمها الديموقراطية التي كانت حتى الآن تسوقها في الإقليم لفظيا فحسب كأداة ضغط تهدد بها الأنظمة الحليفة لها لابتزاز المزيد من انصياعها للإملاءات الأميركية.
ويمكن أن يدخل الرئيس باراك أوباما التاريخ باعتباره أول رئيس أميركي ينقلب على هذه السياسة الخارجية التاريخية لبلاده في المنطقة، لكن محاولات إدارته حتى الآن تنصب على محاولة سيثبت مقبل الأيام أنها فاشلة للتوفيق بين نظام مرفوض وطنيا يطالب الشعب بتغييره وبين ثورة شعبية من أجل تغييره، بمطالبته لهذا النظام بإصلاحات ديموقراطية فشل في الاستجابة حتى لمظاهرها الشكلية طوال ثلاثين عاما من حكمه، فالاصلاحات ينفذها مصلحون لا محافظون، والديموقراطيه يطبقها ديموقراطيون لا مستبدون.
والمفارقة أنه "لا يوجد مكان يسمع فيه صوت الخوف من الديموقراطية المصرية الآن أعلى مما يسمع في وسائل الإعلام الأميركية. وهذا الخوف ليس مقتصرا على اليمين الأميركي"، فكاتب العمود الأميركي "الليبرالي" في الواشنطن بوست، ريشارد كوهين، على سبيل المثال "يعبر عن مخاوفه من أن يعرض نفوذ الإسلاميين في أي ديموقراطية مصرية إسرائيل للخطر"، لأن "المشكلة" في رأي كل أمثال هؤلاء النقاد تكمن في أن "المصريين أمامهم خيار واحد فقط: إما مبارك وإما الإسلاميين. وهذا ببساطة خطأ. فالطموحات المصرية للديموقراطية كانت تجيش لفترة طالت أكثر من أن تستطيع القوى الخارجية سد الطريق أمام الوصول إليها باللعب على المخاوف نفسها التي ساعدت في إبقاء مستبد في السلطة طوال ثلاثين سنة"، كما كتب مؤخرا جيفري موك المتخصص في مصر ورئيس الشرق الأوسط في منظمة العفو الدولية – الولايات المتحدة الأميركية.
وإذا كان جيفري موك يعتبر المكاسب التي حققتها المرأة المصرية وكذلك وجود الأقلية المسيحية الكبيرة عوامل واقعية في المعادلة الداخلية المصرية تحد من قوة الإخوان المسلمين وتدحض التهويل المبالغ فيه للمخاوف الغربية من قوتهم السياسية، فإن ما قاله عن أنهم قد "نبذوا علنا العنف وتعهدوا بالعمل ضمن النظام السياسي" يؤكد ما قاله السياسي والمفكر الإسلامي التونسي زعيم حركة النهضة الإسلامية، راشد الغنوشي، في مقابلة له مع الفايننشال تامز البريطانية في الثامن عشر من الشهر الماضي موضحا حدوث تغيير في الفكر السياسي للإسلام السياسي يبدد تماما مثل تلك المخاوف: "فالديموقراطية يجب ألا تقصي الشيوعيين .. فليس أخلاقيا بالنسبة لنا أن نطالب حكومة علمانية بقبولنا ثم نقضي عليها بمجرد وصولنا إلى السلطة .. فعندما كانت النهضة في تونس لم يكن هناك أي وجود للقاعدة"، مما يذكر بأن القاعدة دخلت الجزائر بعد حظر الجبهة الإسلامية للإنقاذ، وأن وجود جبهة العمل الإسلامي في الأردن لم يترك للقاعدة إلا أن تكون قوة خارجية، بينما فتح حظر الإخوان المسلمين في مصر الطريق أمام الإسلاميين المتطرفين، ويبدو من شبه المؤكد أن حرمان حركة المقاومة الإسلامية "حماس" من نصرها الانتخابي في فلسطين كان سيقود إلى بديل إسلامي متطرف لها لو لم يقد الانقسام االفلسطيني إلى سيطرتها على قطاع غزة، إلخ.
إن الدعوة التي وجهها نائب الرئيس المصري عمر سليمان إلى الإخوان المسلمين للمشاركة في "حوار وطني" بالرغم من كون حركتهم محظورة يشير إلى إدراك مصري متأخر للخطأ التاريخي بحظرها أكثر مما يشير إلى اعتراف واقعي بدورها في الانتفاضة الشعبية، لكن الغمامة الإسرائيلية السوداء المشدودة بإحكام على أعين صانع القرار الأميركي ما زالت تعميه عن رؤية الحقيقة على الأرض العربية للتوصل إلى استنتاج مماثل يقود إلى إنعاطفة تاريخية في السياسة الخارجية الأميركية الإقليمية تنهي مرة واحدة وإلى الأبد الربط بين المصالح الحيوية الأميركية وبين العامل الإسرائيلي الذي حكم هذه السياسة لفترة طالت اكثر من اللازم، بنتائج مأساوية على المصالح العربية والأميركية على حد سواء، كشرط مسبق لشراكة عربية – أميركية ندية.
إن استمرار التذرع الأميركي مرة ب"الخطر الإسلامي" وأخرى ب"الخطر الإيراني" وقبلهما بالخطر القومي العربي والخطر الشيوعي قد أصبح حجة واهية متهافتة لا تقنع أحدا في المنطقة، وهي حجة تؤكد فقط أن واشنطن ما زالت مصرة على أن تكون وريثة للاستعمار الأوروبي القديم ولا تسعى حقا إلى شراكة عربية – أميركية ندية، وبالتالي فإن أي تغيير في سياستها الخارجية يدعم التحول الديموقراطي العربي سوف يظل أمنية عربية ودعاية أميركية مضللة لفترة طويلة مقبلة، لأنها تدرك تماما بأن مصادرة الحريات الديموقراطية والإرادة الشعبية العربية كانت وسوف تظل شرطا مسبقا لتمرير معاهدات واتفاقيات "سلام" غير عادلة مع دولة الاحتلال الإسرائيلي يتم فرضها على الأمة وشعوبها، لكنها لا تدرك كما يبدو حتى الآن أن هذه الاتفاقيات والمعاهدات سوف تظل في مهب الريح بانتظار عاصفة ديموقراطية كتلك التي تجتاح مصر وتونس وغيرهما اليوم.
* كاتب عربي من فلسطين
0 comments:
إرسال تعليق