ستة أيام بلياليها وأنا أشاهد وأستمع إلى ما تبثه إسرائيل وتنشره إلى جمهورها العبري أولا عبر قنواتها التلفزيونية والإذاعية التي أوقفت جميعها البرامج المعدة، وانشغلت بحرب غزة، أو كما أسموها معركة "عامود السحاب", طبعا الاسم مأخوذ من التوراة كما هي عادة إسرائيل في حروبها كي تضفي على الحرب شرعية دينية، وحتى لا تكون مفاجأة للشعب الإسرائيلي.. المشهد الإعلامي الإسرائيلي لم يختلف هذه المرة عن الحرب السابقة عام 2008، بل إن الكوادر الإعلامية الإسرائيلية لم تتغير، هي هي بعينها سواء العاملين في استوديوهات التلفزة، أم المراسلين الميدانيين.. وكذلك المحللين السياسيين والعسكريين والنفسانيين والاجتماعيين.. جميعهم يمتهنون الكذب ويبررون تعطشهم للدم الفلسطيني.. المجتمع الديمقراطي كما يسمون أنفسهم يعيشون على الكذب والخداع ونهب الأرض، ويشكون من اعتداء الفلسطينيين..؟! يقولون أنهم انسحبوا من أخر مليمتر واحد من غزة، ومع ذلك يعتدي الغزيون علينا.. يحاولون تغطية الشمس بغربال.. نسوا أن المجتمع الغزي بغالبيته لاجئون قد اغتصبوا أراضيهم وجلبوا إليها كل المنبوذين في بقاع الأرض ليعيشوا عليها بهناء ورخاء؟! إنها أرض اللبن والعسل.. معادلة صعبة يخفونها على ما يسمونه بشعب إسرائيل..؟ أهل غزة لن ينسوا أراضيهم ولن يتخلوا عنها ولا بد أن يأتي اليوم لاستردادها.. ثمانون عاما من صراع لن ينتهي.. ولن تنهيه قوتكم أو قوة أمريكا.. يكفي كذبا على جماهيركم.. خلال الأيام المذكورة لم أسمع أي معارض للحرب سوى بعض التخوف من الدخول لحرب برية.. الجمهور الإسرائيلي بغالبيته يقبل الكذب من قيادته وموجهيه.. اليسار اختفى من اللعبة ولا صوت له..
المختلف في هذه الحرب أن نصف ما يسمى إسرائيل تقريبا باتت مشلولة ومختبئة في الملاجئ أو فرت لأماكن أكثر أمنا من صواريخ غزة ألتي وصلت إلى القدس المحتلة وإلى أبعد من تل أبيب.. ويحاول الإعلام الإسرائيلي أن يخفف من هول المفاجأة التي طالت معظم سكان إسرائيل.. في مفارقة عجيبة كان الإعلام الإسرائيلي قد أخفى عدد صواريخ جراد التي سقطت على مدينة بئر السبع المحتلة في الأيام الثلاثة الأولى وقلل من كميتها الحقيقية وحجم الإصابات؛ فأحضر رئيس البلدية كي يتحدث من على شاشة التلفزيون في محاولة لطمأنة السكان، فقال: " أكثر من ثمانين صاروخ جراد قد سقطت على المدينة بدون إصابات !!" وكانت الشوارع من خلفه تخلو من المارة.. أما تلفزيونهم كان قد اعترف بسقوط ثلاثة صواريخ في أرض مكشوفة لا يوجد إصابات أو أي أضرار.. في الوقت الذي كانت فيه طائراتهم الحديثة تقوم بإلقاء آلاف القنابل والصواريخ في كل مكان من أنحاء غزة الصغيرة.. وحتى كتابة المقال فاق عدد الشهداء المائة شهيد معظمهم من الأطفال والنساء وبغالبيتهم أبرياء، وكذلك الإصابات التي اقترب عددها من الألف إصابة.. وما زال الإعلام الإسرائيلي يكذب على العالم بأنه دقيق في أهدافه بعيدا عن الأبرياء، وأبسط شاهد على مجازره هي عائلة الدلو التي فقدت إحدى عشر من الأنفس البريئة أي غالبية الأسرة التي دمر بيتها بالكامل جراء استهدافها بصاروخ أمريكي الصنع أطلق من أحدث طائرة صنعها سلاح الحرية الأمريكي!! وفي هذه الأثناء مجزرة جديدة بالقرب من اقامتي ضحيتها عائلة حجازي في جباليا حيث مازالت فرق الإنقاذ تقوم بانتشال الجثث ولا نعرف الحصيلة.. الغريب في كذب الرواية الإسرائيلية التي تقول أن المقاومة الفلسطينية تطلق صواريخها من بين المدنيين، وكذلك يستتر المقاومون بين المدنيين ـ حسب الرواية الإسرائيلية.. والحقيقة الدامغة التي يعرفها كل أهالي غزة أنه منذ بداية الحرب وحتى هذه اللحظة لم يشاهدوا أي مسلحا في شوارعها وحواريها بما فيها الأسلحة الشخصية.. على خلاف حرب 2008 التي تكدست فيها الأسلحة القتالية في كافة شوارعها.. أمر لا يخفى على طائرات الاستطلاع الإسرائيلية والتي يسميها أهالي غزة بـ (الزنانة) نسبة إلى أزيزها المرعب على مدار الأربعة وعشرين ساعة والتي تملأ سماء غزة ولا تفارقه..
إسرائيل منذ وقت طويل تراقب ما يجري في إيران ولا يفوتها مناسبة إلا وهددت بضرب إيران ومفاعلاتها النووية، وبالطبع كانت إيران ترد عليها بأقوى.. تراشق إعلامي، وتهديد، ووعيد منذ سنين بينهما، لكن إيران كانت أذكى بكثير من المؤسسة الحاكمة في إسرائيل إذ أنها افتعلت حرب غزة وكأنها تقول لإسرائيل: أنت لست بقدرة المواجهة مع إيران، ويكفيك غزة الصغيرة والمحاصرة كي تخوضي حربا معها.. أو أن الحرب سيشغل الرأي العام كي تقوم إيران بتنفيذ برنامجها بعيدا عن الأعين المنشغلة في الحرب.. أعرف أن هذا الكلام هو من اختراعي، لكنها الحقيقة الغائبة عن هذه الحرب، ولو عدنا للوراء قليلا لقررنا مسبقا بأن حركة حماس التي تحكم غزة لم يكن لديها أية نية للحرب، بل على العكس تماما؛ فسبق لها أن منعت المقاومة مرات عديدة من التحرش بالحدود مع إسرائيل، وقامت باعتقال العشرات إن لم يكن المئات من مطلقي الصواريخ ومن راصدي الحدود، لكنها فشلت هذه المرة من ملاحقة المجموعة التي استهدفت سيارة الجيب العسكري الإسرائيلي بصاروخ كورنيت المضاد للدروع، وسواء كانت المجموعة تابعة للجبهة الشعبية أو أي فصيل آخر، فصاروخ الكورنيت مصدره إيران، ولو فكرنا في الجهتين اللتين أعلنتا مسئوليتها عن العملية لوجدنا توتر علاقاتهما مؤخرا مع حماس.. لكن غباء إسرائيل وسرعتها في الرد باغتيال قائد القسام الشهيد الجعبري ـ رحمه الله ـ قد أوقعها في الفخ، واعتقد ملك إسرائيل أن ذلك سيحقق له نصرا انتخابيا كما هي عادة إسرائيل (ديمقراطية بدم الأطفال والأبرياء)، وبالطبع اشتعلت الحرب نتيجة لشهوة الدراكولا الإسرائيلية.. المفارقة العجيبة التي سمعتها من القادة والإعلاميين الإسرائيليين هي أن قرار الحرب سهل جدا، لكن وقفها والخروج منها ليس بالأمر السهل؟؟ إسرائيل تعرف جيدا أن تسليح المقاومة بأغلبه من إيران التي خططت جيدا لهذه الحرب كما خططت في السابق لحرب إسرائيل مع حزب الله في لبنان.. إسرائيل تعلم جيدا أن غالبية السلاح الغزي مصدره الرئيسي هو إيران، لكنها أحبت أن تستغل ذلك سياسيا.. ومن يدري ربما الأيام القريبة تكشف النتائج السياسية للحرب ولو على جثث الأطفال والدم المهدور..
لأول مرة إسرائيل تتحدث عن تهدئة أو هدنة دون الدخول في حرب برية لغزة.. يبدوا أنها أدركت حساباتها الخاطئة، أو أن هناك ضغوطا إقليمية أدركت أن الحرب قد تغير خارطة الشرق الأوسط، وهذا ما دفع إسرائيل للتراجع عن الحرب البرية التي حشدت لها أكثر من خمسة وسبعين ألف جندي؛ لأن الحرب البرية سوف تعمل على إضعاف حكم حماس لغزة إن لم تكن نهايتها، وهذا ما لا ترغبه إسرائيل ودول أخرى على رأسها أمريكا (أوباما) بالتحديد.. كيف لا ؟ وهي التي حافظت على وجود الانقسام الفلسطيني طيلة السنوات الماضية؟ وما الذي دفع بقطر ومصر وتركيا بتكثيف جهودهما لإنهاء الحرب؟؟ وصار الحديث في هذه الساعات عن هدنة طويلة الأمد بين حماس وإسرائيل برعاية دولية؟؟ من ينكر ثقل إيران في تقويض الربيع الإخواني في المنطقة؟؟ وقطر بدعم أمريكي وتركي وسعودي وإسرائيلي لدعم حكم الإخوان في باقي الدول العربية وعلى رأسها مصر؟؟ الربح والخسارة من هذه الحرب ستتضح في الساعات القليلة القادمة.. وسيكون الضحية هو الشعب الغزي كما العادة في كل مرة.. ما هي شروط حماس؟ وما هي شروط إسرائيل التي أعلن عنها اليوم؟ هل نحن أمام صفقة لهدنة طويلة الأمد تعمل على تكريس الانقسام وتعزيز قوة حماس في حكم غزة من خلال فك الحصار وفتح معبر رفح؟؟ مقابل هدنة طويلة تريح إسرائيل في الجبهة الجنوبية لتستكمل مشروعها في تقويض سلطة رام الله في الضفة لنهب ما تبقى من أرض حول المستوطنات؟؟ الساعات القادمة وعلى أقصى حد اليومين القادمين ستتضح الصورة ونكون أمام مرحلة جديدة تحتاج من السلطة الشرعية في رام الله ميكانيزمات مختلفة عما سبق..
0 comments:
إرسال تعليق