صباح الخميس الموافق 11-4-2013، وكعادتي الصباحيّة اليوميّة أزور أبي، أشاطرُهُ الصباحَ بفنجانِ قهوةٍ ولقمةٍ مُغمّسةٍ بالزيتِ والزعتر، ويُقاسمُني رغيفِ نهاري ببسمتِهِ ورضاه، ومِن ثمّ أمضي إلى عملي بعدما استلمَ نصيبي ممّا يَصلُني مِن البريد، وإذا بي اليوم أُفاجأ برسالةٍ مغايرة، لا تحملُ الطوابعَ الإسرائيليّة كعادة الرسائل الرسميّة المحلّيّة، ولا اللغة العبرية أو الختم الإسرائيلي، إنّما تحمل طوابع مغايرة، ولأوّل مرة أرى مثلها، طابعًا يحمل رسم أيقونة السيدة العذراء وطفلها المسيح، وطابعًا يحمل رسم فانوس ومن تحته الكلمات رمضان كريم، وقد وُقّعت الطوابع والرسالة بخط عربيّ وإنجليزي وبختم السلطة الفلسطينيّة، وفي أعلى المُغلّف ختم كتب فيه (الفرز المركزيّ) وبتاريخ 4-3-2013؟! أي مرّ شهرٌ وأسبوع حتى استلمتها؟!؟!
هذه الغرابةُ سرّعتْ من حبّ استطلاعي إلى فتح المُغلّف لمعرفة ما تحتويه، ولم أتمالك نفسي حين قرأت الحروف، فانتابتني ارتعاشة ورعدة ألمّت بأوصالي، كأنّما يده الخفيّة تهزّني بحنوّ عنيفٍ وتقول، إليّ التفِتي! التفتُّ ولم يكن، كانت حروفه تشاكسني في لعبتها الطفوليّة "الغميضة"، عدت بسرعة إلى البيت، حاولت أن أخلد للنوم ولم أستطع، كانت تناديني حروفُهُ، فقرأتُها عشراتِ المرّات، وكلّ مرّة كنت أرى عينيه تنظرانِ إليّ بابتسامة المنتصر، لكنّها تحمل عتبًا صامتًا، ابتدأ نهاري مرتبكا، خاصة وأني لا أعرف المرسِل، وازداد ارتباكي حين أعلمني المُسعِفُ جوجل أنّه أسيرٌ من ذوي الأحكام العالية منذ عام 2002، وقد حُكم عليه بثماني مؤبّدات وخمسين سنة أخرى، أي؛ ما يعادل 250 عامًا؟! كتب يقول:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدلله وكفى والصلاة والسلام على الحبيب المصطفى
الأخت المناضلة الشاعرة: آمال عوّاد رضوان المحترمة
التحيّة كلّ التحيّة نطيّرها من خلف قضبان الاحتلال والسجّان، تحيّة إجلال وإكبار وافتخار بكلّ أبناء هذا الوطن الحبيب.. ولكم أنتم بالذات على ما تفعلوه، من أجل هذا الوطن الذي ما توانينا لحظة في أن نقدّم له أغلى ما نملك.. والتحية لكلّ مبدع ومتميّز وناجح .. لكلّ فلسطينيّ يخدم وطنه، ويحيا من أجل بنا وطنه ويعمل من أجل رفعته.. لكم كلّ الاحترام والتقدير والدعم والمساندة من إخوانكم القابعين في باستيلات الاحتلال، لنقول لكم إنّنا معكم ونشدّ على أياديكم.
إنّنا نتابع كلّ أخباركم ونجاحاتكم وإنجازاتكم، ونعتبرها استمرارًا لمقاومتنا للاحتلال، وهي امتداد طبيعيّ لحقّ شعبنا في بناء مستقبله، ورفع رايته خفّاقة بين رايات دول العالم. عملكم هذا هو فخر لنا، وهو رفعة لمعنويّاتنا، وهو انتصار لكرامتنا ولتضحياتنا ولعذاباتنا، ونحن نقدّره ونُجلّه بكلّ مشاعرنا، وما تحمله قلوبنا لكم ولكلّ من يقف دومًا في المكان الذي يُسهم في انتصار هذا الشعب وتحقيقه لحلمه.
لكم كلّ الاحترام والتقدير، وإلى لقاء قريب في ظلّ فلسطين دولة الشهداء والتضحيات.
أخوكم الأسير من داخل سجن ريمون المركزي
أسامة محمّد علي الأشقر- أبو طارق- طولكرم- صيدا
لطالما أنّ أيّة جائزة تقدير تصلني هي حقا تُغبّطني، وأيّة رسالة إطراء تصلني هي حقّا تبهجني وتفرحني، لكن هذه الرسالة بقدر ما أسعدتني بقدر ما أوجعتني، فهي لم تحمل فقط كلمات إطراء وتقدير وتشجيع وآمال، بقدر ما حملت من توجيه مسؤوليّة لي ككاتبة ولكلّ الكتاب، بأن التفتوا إلينا نحن الأسرى، فهي قضيّة إنسانيّة ربّما غفلتم عنها ولم تلتفتوا اليها؟!
رسالة البطل أسامة محمّد علي الأشقر جاءتني مشحونة ببرقٍ وومض لقصيدة كتبتها، أهديها له ولكلّ أسرانا في السجون الضيقة، ونصلّي دومًا من أجل تحريرهم، ومن أجل تحريرنا من سجوننا الرحبة، لننعم بوطن حرٍّ يُشبهُنا ونشبهُهُ فأقول:
صباحُكَ الأشقرُ.. آسِرٌ
آمال عوّاد رضوان!
نعمةً وهَبْنِيكَ.. فكنتَ أبي..
ولمّا تزلْ.. صلاةً صباحيّةً خليقةً ببَرَكةِ يومي..
بكهوفِ السماءِ تُخرخرُ جداولَ روحي فرحًا بصوتِكَ
بلؤلؤتَيْ عينيكَ تُرقّيني.. تُزمْرِدُني
بمجسّاتِ مُحيّاكَ النابضِ حكمةً بشوشةً.. وأتباركُ..
تُلامسُني أجنحةُ الملائكةِ
وأمضي إلى أعباءِ يومي.. أتسربلُ عباءةَ رضاكَ!
لكن.. هذا الصباحُ الأشقرُ..
كم كانَ موغلًا في ثِقلِهِ الكفيفِ!
ومِن حضرتِكَ الصباحيّةِ المعتّقةِ في روحي
تخطّفتْني.. مشاكسةً.. ممهورةً بتوقيعِهِ!
رسالةٌ.. تحملُ أمواجُها تراتيلَ الأصدافِ الهادلةِ..
همساتِ البحرِ المُقزّحةَ بالحنين..
بدمعِهِ الأُساميِّ الحارقِ تَسلّقني ملغوزًا
وانسلَّ مِن بينِ أصابعي مُهرولًا.. يُسابقُ أحزاني الصدئةِ
أكأنّما آتاني منذورًا للنّورِ.. يتمنطقُ بعدالةٍ منسيّة؟
أكأنّما صباحُكَ المُحمّدُ بالدّهشةِ
يأبى إلّا أن يشحذَ ذاكرةَ ريحِ الإنسانيّةِ..
لأتصدّعُ في انقباض حروفي؟
أيَشي بالذاكرة المثقوبةِ.. بمآسي الأماسي المجهولةِ
ليُترِفَ ارتباكيَ بحضورِ غيابِكَ؟!
صباحُكَ العَليُّ.. يَغطُّ في صخبِهِ السرّيِّ
يُناوشُ خبايا دمي الضبابيّ.. يُنتّفُ أفقي المُتحيّزَ الراجِفَ
ويُقْسِمُ.. أن يُزعزعَ قلبيَ الزاحفَ برِعدةٍ هائلةٍ..
تُكبّلُ لسانيَ بغصّةٍ صخريّة!
يا الأسيرُ.. مَن يُرمّمُ انحناءاتِ وَجهي؟
توقيعُكَ المُفاجئُني .. يأسُرُ تعاريجَ فكري بسِرٍّ خفيٍّ
تتراشقُني نيرانُ إيمانِكَ المُرابطةُ..
تَخنُقُني الوهلةُ.. أكأنّي أجهلُ كُنْهَ تعاريشِكَ؟!
أبدًا يا المُتنسّكُ ضوءًا في غرفِ العتمِ..
ذخيرةُ الدمعِ وثيقةٌ موقوتةٌ
ليستْ تبوحُ.. إلاّ بولادةِ وطنٍ.. مُحمّلٍ بآمالٍ لا تَغُلُّ الغدَ
بلِ الماضي الشائخِ في احتلالِهِ.. السالكِ في ظلمةِ الظلم!
أدغالُ مدِّكَ الإنسانيِّ كونيّةٌ
تتجذّرُ اخضرارًا في صرختِكَ المورقةِ
وآناءَ الليل والظلالِ.. تتجمّرُ ضوءًا جامحًا في إناء البَشرِ
يُزقزق الحُلمُ مأخوذًا بالغبطةِ
مَن يُزوّدُني بقيثارةِ الحياة؟ مَن يَدلُّني إلى معابرِ الحرّيّة؟
وكالبحرِ الهادرِ في باحاتِ العواصفِ
تنتصبُ مائجًا.. عاصفًا أمامَ إعصارِ الدمِ
لا يَسحقُكَ ركامُ الغيومِ.. ولا جرْفُ الموْجِ
لا حُطامُ الغابِ.. ولا العيونُ الضبابيّة!
يا الأسامةُ الباسلُ.. آسرُ الأسرِ..
حروفُكَ بوصلةٌ.. مختونةٌ في معابدِ الكرامةِ
غافلتْ صباحي بقدْحِ مواقيتِها العاثرةِ
ومِن مَراتبِ الأسرِ والفراديسِ المُعلّقةِ في المُؤبّدِ..
حطّت على غابةِ أعصابي.. تَحرقُها بحُمّى هذيانٍ مُتيقّظٍ..
أيا نجلَ الماءِ الحيّ
ها أنتَ تُديرُ عقاربَ الزمانِ كريمِ العينِ..
سيوفًا جامحةً تصقلُ الصمتَ..
تحملُ الريحَ في مراقص الجنِّ.. وتنتظرُ
زمانًا شفّافًا.. لا يكتملُ.. إلاّ بكينونةِ الوطنِ..
0 comments:
إرسال تعليق